للمشاركة في المادة العلمية : التواصل عن طريق الواتس آب ( أنقر هنا )
-1-
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسول الله ،
اطلعت مؤخراً على فلم وثائقي أعده د. عيد اليحيى أورد فيه مجموعة من الشواهد التي استند عليها في تحديد موطن قوم عاد - التي لم يخلق مثلها في البلاد - ، بعد سنوات من البحث في صحراء الربع الخالي استقر رأيه أنها بالقرب من عيون الأفلاج المعْـلم الجغرافي المعروف، وهذه الشواهد التي استند عليها د. اليحيى أتت بعد سنوات بذل فيها بلا شك جهداً كبيراً وزيارات وبحثاً ميدانياً ومقارنة بين المواضع المحتمل أنها موطن لتلك القبيلة، ومن الجهود التي قام بها أنه استعان ببعض المختبرات المختصة في امريكا ، ومعدات شركة أرامكوا ، وتوصل إلى نتيجة لم يتوقعها الكثير وهي أن موطن قبيلة عاد هي الأفلاج ، هذه النتيجة أثارت لدي جملة من التساؤلات. هل هناك ما يدعم هذا الاكتشاف من أدلة الكتاب والسنة؟، وهل هناك دلالات تاريخية وآثارية أو إشارات أدبية لرحالة وبلدانيين سابقين تتسق مع ما وصل إليه ، فشرعت في البحث لعلي أصل إلى ما يؤيد أو يصحح ما ذكره الدكتور عيد اليحيى في ان الأفلاج هي موطن قوم عاد.
يمكن لمن أراد الاطلاع على جهود د. اليحيى الرجوع إلى الفلم الوثائقي إرم ذات العماد على منصة اليوتيوب :
كما قام د. اليحيى بنشر نتائج تحليلات الكربون المشع التي أجرتها مختبرات جامعة أريزونا في الولايات المتحدة الأمريكية على بقايا العظام والفحم المأخوذة من مباني القصور الأثرية بالأفلاج التي تـُـسمى قصيرات عاد، وأثبتت النتائج من خلال تحليل الكربون المشع أنها تعود إلى 2800 سنة و2700 و2300 عام من وقتنا الحاضر .
وقبل أن ابدأ أتقدم بخالص الشكر وعظيم الإمتنان لــ د.عيد اليحيى الذي كان له اليد الطولى في إخراج هذا البحث وذلك بما قدمه لي من توجيهات ، ومواد علمية ، ونتائج بحوثه السابقة ، وقبل ذلك ما قام به من التشجيع المستمر الممزوج بالأخلاق العالية والتواضع الجميل الذي يشهد له كل من تعاون معه في عمل ، فله مني وافر الشكر والتقدير .
-2-
*موضع قبيلة عاد :
عند الرجوع إلى ما ورد في الكتاب والسنة عن قوم عاد ، لم أجد أن هناك تحديداً واضحاً للمكان الذي استوطنه قوم عاد، فقد اختلف المؤرخون السابقون فيه على أقوال متعددة، ورجح كثير منهم أن المنطقة [ ما بين عمان وحضرموت على أطراف الربع الخالي] هي موطنهم ، كان هذا إضافة إلى ما ذكره د. اليحيى هو المدخل إلى البحث في هذا الموضوع من خلال أمرين:
أولا: هل توجد شواهد تاريخية أو أدبية تشير إلى أن الأفلاج كانت موطن لقبيلة عاد ؟
ثانياً: من خلال تدبر الآيات القرآنية والأحاديث الصحيحة الواردة في قصة قوم عاد، ودراسة مدى مطابقة ما جاء فيها من دلائل وإشارات على طبيعة الأفلاج الجغرافية، ومقارنة ذلك بجنوب الربع الخالي في المنطقة ما بين عمان و حضرموت.
والمنطقة المقصودة في محافظة الأفلاج هي: منطقة عيون الأفلاج وما حولها أي من بلدة ليلى شمالاً إلى البديع جنوباً والسيح شرقاً.
بعد البحث وبمراجعة الكثير من كتب التفسير أرى أن المنطقة التي تقع بين عمان وحضرموت لا تنطبق عليه الدلائل الواردة في الآيات، والتي يمكن من خلالها تحديد مكان قوم عاد، فهذا الموقع مخالف لما أشارت إليه من دلائل جغرافية بشكل واضح وصريح، بل إن هذه الدلائل تنطبق على منطقة الأفلاج أكثر من غيرها ، وهي كالتالي :
أولاً : الشواهد التاريخيه و الأدبية /
أن الاسم الشائع والمشهور والمعروف لدى أهال الأفلاج للأبنية الأثرية التي بالقرب من العيون: ( قصيرات عاد )، ويظن البعض أن هذا مسمى حديث، اخترعه الأهالي، فقد درجت العادة عند عامة الناس أن كل قديم ينسب إلى بني هلال أو إلى قوم عاد، ولكن هذا الأمر لا ينطبق على ( قصيرات عاد )، فبعد الاطلاع على المراجع القديمة وجدت أن هذه التسمية صحيحة ومتناقله من مئات السنين الفائتة وليست مسمى حديث :
1- ذكر الإمام محمد الحازمي ت 584هـ في كتابه الأماكن : [ فلج : قرية عظيمة لبني جعدة بها منبر ، يقال لها فلج الأفلاج من ناحية اليمامة ، وأيضا أرض من مساكن عاد ] . وكتب الشيخ حمد الجاسر في الهامش في تحقيقه للكتاب : [ وذكر بعض المتقدمين انها من منازل عاد] . ( ج2،ص748).
كما ذكر ذلك الشيخ حمد الجاسر في برنامج إذاعي بعنوان ( أسماء من بلادي/ الحلقة 19) في إذاعة الرياض :
2- قال ياقوت الحموي ت ٦٢٦ هـ في كتابه معجم البلدان: [وكان فَلَج هذا من مساكن عاد القديمة] (ج4، ص272).
3- وصف الأفلاج الهمداني (ت ٣٣٤هـ)، في كتابه صفة جزيرة العرب فتحدث عن قصر قديم بالأفلاج يُـنسب إلى قبيلة عاد فيسمى القصر العادي فيقول: [القصر العادي: من عهد طسم وجديس]. (ص160)، وهذا القصر موجود إلى الآن في قرية السيح بالأفلاج ويبعد عن قصيرات عاد ما يقارب 4 كم.
4- في موقع آخر ذكر الهمداني حصون المذارع (بلدة البديع حاليا) فقال: [حصن العادية: بالصافية لبني سوادة من قشير]. (ص159)، وهذا الموقع لا يبعد عن قصيرات عاد سوى 20كم من جهة الجنوب الغربي.
5- يوم الفلج العادي: وهو معركة ذكرها ياقوت الحموي وقعت بين بني عامر وبني حنيفة في الأفلاج وانتصر فيها بنو عامر، وقال سُمَّي هذا اليوم بالفَلَج العادي. انظر معجم البلدان (ج4، ص271، 272).
-3-
6- ذُكر الفلج ( الأفلاج حديثاً) في الكثير من الشواهد الشعرية القديمة ، وقد نسبه الشعراء إلى قبيلة عاد فيسمونه الفلج العادي، والفلج ليس بئر أو قبر وما شابهه حتى يُقال أنهم يقصدون بذلك وصفها بالقِدم ، بل الفلج ناحية كبيرة من نواحي نجد ، ولم يرد أن العرب نسبوا منطقة كاملة إلى قوم عاد ، إلا الأفلاج مما يشير إلى أن النسبة يُـقصد منها أنها بلاد لهم ، ومن هذه الشواهد الشعرية:
يقول الشاعر:
فما يعرف الجعدي بالغيل لبه *** ولا الفلج العادي إلا توهما
7- ذكر ابن كثير في تاريخه (ج1، ص138)، أسماء أصنام قوم عاد فقال : [وكان أصنامهم ثلاثة صدا وصمودا وَهِرَا]، وصدَّا اسم موقع معروف إلى هذا اليوم وهو اسم لمدينة أثرية مدفونة بالرمال، تقع جنوب غرب قصيرات عاد بحوالي 18 كيلوا ، وهي ملاصقة لبلدة البديع من الشرق . وهو اسم قديم ومتداول وقد ذكره الهمداني فقال [وعياض من الحريش بصداء من المذارع] (ص159) ، وكما هو معروف ثبات أسماء الأصنام على مدى التاريخ ، فهي تتناقل بأسماء ثابته لا يدخلها التحريف لتعلق ذلك بالجانب الروحي ، فأسماء أصنام قوم نوح ثبتت أسماءها حتى وصلت إلى العرب وتوزعت هذه الأصنام في قبائلهم ، جاء في البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه : [صَارَتِ الأَوْثَانُ الَّتِي كَانَتْ فِي قَوْمِ نُوحٍ فِي العَرَبِ بَعْدُ ، أَمَّا وَدٌّ كَانَتْ لِكَلْبٍ بِدَوْمَةِ الجَنْدَلِ، وَأَمَّا سُوَاعٌ كَانَتْ لِهُذَيْلٍ، وَأَمَّا يَغُوثُ فَكَانَتْ لِمُرَادٍ، ثُمَّ لِبَنِي غُطَيْفٍ بِالْجَوْفِ، عِنْدَ سَبَإٍ، وَأَمَّا يَعُوقُ فَكَانَتْ لِهَمْدَانَ، وَأَمَّا نَسْرٌ فَكَانَتْ لِحِمْيَرَ لِآلِ ذِي الكَلاَعِ، أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ، فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ، أَنِ انْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ، فَفَعَلُوا، فَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ] (6/160).
-4-
8- قال الشاعر عبيد بن ثور الهلالي العامري :
عن القراميص بأعلى لاحبٍ **** معبدٍ من عهد عاد كالفلج
القراميص : هي الحفرة التي يختبئ فيها الإنسان للصيد . واللاحب هو الطريق المحفور في الارض، فهو يصف الطريق اللاحب بأنه من كثرة المشي عليه صار محفوراً مثل الجدول الخارج من العيون [ الفلج] الذي صنعه قوم عاد .
-5-
وهذا الشاهد الشعري يثبت أن قوم عاد كانوا يصنعون الأفلاج [ الجداول ] وبما أن الشاعر من بني عامر التي تسكن منطقة الأفلاج قديما ، فيبدوا أنها هي المقصودة بالوصف ، فالشاعر ابن بيئته وشعره ينطلق مما يشاهده حوله .
وهذا في رأيي هو الصحيح في فهم البيت ، لأن هناك من قال بأن المقصود بالفلج هو الصبح ، وهذا بعيد ، فتشبيه الطريق بالجدول معروف لدى الشعراء قديما ، ذكر أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : [ القعقاع :طريق معروف من اليمامة إلى مكة ، قال أوس بن حجر :
يوازي من القعقاع موراً كأنه *** إذا ما انتحى للقصد سيح مُشققُ
كل طريق : مور ، وشبه السُـبّـل بالجداول ] (3/1085].
وباستعراض الشواهد السابقة من ذِكر ياقوت الحموي أن منطقة الأفلاج من مساكن قوم عاد ، ثم وصف الشعراء منطقة الأفلاج بأنها [ عادية ] ، وكذلك توفر شواهد ميدانية كتطابق المسميات التي ذكرت لقوم عاد كصنمهم [ صدا ] مع اسم مدينة أثرية مدفونه بالرمال يطلق عليها نفس المسمى صدَّا ، تزداد قناعة بارتباط الأفلاج بقوم عاد ، وأن القصور التي نسبت لهم فيها ( كالقصر العادي ، و قصيرات عاد ، وقصر العادية ) ليست تسمية وليدة الصدفة بل تسمية مقصودة ذات امتداد تاريخي قديم ، وخصوصاً مع تطابق الإشارات التي جاءت في القرآن الكريم عن موقع قبيلة عاد ، مع موقع هذه القصور .
-6-
ثانيا: الإشارات من القرآن والسنة على مكان قوم عاد ومدى انطباقها على الأفلاج:
1- قال تعالى {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَٰذَا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا ۚ بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ ۖ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ{ سورة الأحقاف 20
فلو جمعنا هذه الآية بالحديث الصحيح الذي أخرجه البخاري ومسلم وهو قول الرسول صلى الله عليه وسلم [ وأُهلكت عادٌ بالدبور ]، والدبور هي الرياح الغربية
نخرج بعدة حقائق:
مِن قوله تعالى {عارضاً مستقبل أوديتهم } نستخلص عدة أمور:
أنها عدة أودية وليست وادياً واحداً.
أن مكان مساكنهم خارج الأودية والجبال: في مكان منبسط، فلو كانوا بين الجبال فسيشاهدون فقط جزءاً من السحاب الذي على واديهم، بينما هم شاهدوا - وهم في موقعهم- مدى إنتشار السحاب وعرضه وأنه يشمل جميع أوديتهم.
أن مكانهم هذا تصب فيه جميع سيول هذه الأودية، فلذلك فرحوا واستبشروا بالسحاب.
أن أوديتهم هذه تقع غرباً عنهم، بدليل أنهم أُهلكوا بالدبور (وهي الرياح التي تهب من جهة الغرب) فهم عندما شاهدوا الريح الغربي تصوروا أنه سحاب، وقاموا بتقدير موضعه ، فأعتقدوا أنه سيُمطر على أوديتهم ، فنستدل من ذلك أن أوديتهم تقع غرباً عنهم .
أن مسار السحب في منطقتهم: تأتي من الغرب، لذلك أقبلت عليهم الريح من المكان الذي اعتادوا على نشوء السحاب منه، ولو كان الريح قدم إليهم من غير المكان المعتاد للسحاب لخافوا منه، ولكن نجدهم فرحوا واستبشروا به.
قوله تعالى :{ عارضاً } العارض في اللغة هو السحاب وقت العشي أي آخر النهار ذُكر ذلك في كتاب مجاز القرآن لأبي عبيدة معمر بن المثنى (218/2) وفي تفسير الطبري(22/127)، إذاً وقت العشي هو الوقت المعتاد لنشوء السحاب في موقعهم هذا: لذلك فرحوا به، واستبشروا ولو كان إقبال السحاب في وقت غير معتاد لديهم كبعد طلوع الشمس مثلاً لاستغربوا من وقته.
من خلال ما أوردته سابقا نجد أن الدلائل منطبقةٌ تماماً على المنطقة الواقعة بالقرب من عيون الأفلاج والتي يُعتقد أن قوم عاد عاشوا فيها وهي (من مدينة ليلى وما حولها إلى بلدة البديع بما في ذلك السيح).
فهي في موقع منبسط تصب فيه عدة أودية كبيره وهذه الأودية تقع غرباً عنه، يقول الأصفهاني(ت 310هـ) في كتابه بلاد العرب :[ والفلج بصحراء مفضية، تصب عليه الأودية ] (ص227) ، أما مسار السحاب المعتاد هو من الغرب إلى الشرق ووقت تكوّن السحاب المعتاد هو آخر النهار ، ففي موسم الأمطار في الأفلاج تتجه الأنظار في آخر النهار إلى جهة الغرب تحرياً للسحاب. ويشهد لذلك بيت الأعشى في معلقته فيقول:
يامن رأى عارضاً قد بتُّ أرقبُهُ *** كأنما البرق في حافاته الشُّعلُ
(تفسير الطبري 21/155)
فيشير أنه رأى العارض، ثم بات في الليل يترقب وصوله لهم، وكما هو معروف أن الأعشى يسكن بلدة منفوحة التي هي الآن حي من أحياء الرياض، فمنطقة وسط الجزيرة العربية بما فيها الرياض والأفلاج يشاهد فيها السحاب مقبلاً آخر النهار ويصلها في الليل .
أما من ناحية الأودية التي تصب في هذه المنطقة هي :( بالترتيب من الشمال إلى الجنوب):
وادي غلغل ، وادي الدريعي، وادي ام جرف ، وادي حراضة ،وادي الغيل ، وادي نويل ، وادي الأحمر ( أكمة قديماً ) ، وادي الثوير ،وادي حرم ، وادي الهدار ، وادي شثر .
وغيرها من الشعاب الصغيرة التي تغذي الأودية أو تتجه مباشرة إلى المنطقة المذكورة. وهذه خارطة دقيقة توضح مواقع هذه الأودية وأنها تصب في المنطقة المذكورة:
-7-
للتكبير : انقر على الخارطة
-8-
وهذه خريطة دقيقة جدا بمقاس 50 الف توضح موقع قبيلة عاد وأبرز المعالم الأثرية فيها :
( أنقر على الخارطة لتشاهدها بدقة عالية )
بينما المنطقة الرملية ما بين حضرموت وعمان : الأودية فيها تصب من الجنوب إلى الشمال ، وليست غرباً عنهم كما وضحت الآية والحديث ، والسحاب يأتيهم من الجنوب من بحر العرب والمحيط الهندي، وليس من الغرب (أنظر كتاب قصة الأرض والحياة في عمان 263 د. محمد الكندي ) ، وقد تواصلت مع المؤلف شخصياً ، فأكد لي ذلك .
و نظرا لقربهم من البحر فالسحاب يأتيهم في وسط النهار لا آخره كما في الافلاج .
وهذه خريطة أودية الربع الخالي :
( الخريطة منقوله من كتاب الربع الخالي بحر الرمال لهيئة المساحة الجيولوجية ص 169 )
دليل أخر في حديث وافد عاد /
- {عن الحارث بن حسان قال خَرجتُ أشكو العَلاءَ بنَ الحضرميِّ إلى رسولِ اللَّهِ - صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ - فمررتُ بالرَّبذةِ ، فإذا عَجوزٌ من بَني تميمٍ منقطعٌ بِها ، فقالَت لي : يا عبدَ اللَّهِ ، إنَّ لي إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ حاجةً ، فَهَل أنتَ مبلِّغي إليهِ ؟ قالَ : فحَملتُها ، فأتيتُ المدينةَ فإذا المسجدُ غاصٌّ بأَهْلِهِ ، وإذا رايةٌ سوداءُ تخفِقُ وبلالٌ متقلِّدٌ السَّيفَ بينَ يدي رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّه عليهِ وعلى آلِهِ وسلَّمَ فقلتُ : ما شأنُ النَّاسِ ؟ قالوا : يريدُ أن يبعثَ عمرَو بنَ العاصِ وجهًا ، قالَ : فجلستُ ، قالَ : فدخلَ منزلَهُ - أو قالَ : رحلَهُ - فاستأذنتُ عليهِ ، فأذنَ لي ، فدخلتُ ، فسلَّمتُ فقالَ : هل كانَ بينَكُم وبينَ تميمٍ شيءٌ ؟ قالَ : فقلتُ : نعَم ، وَكانت لَنا الدائرةُ عليهِم ، ومررتُ بعجوزٍ من بَني تميمٍ منقطَعٌ بِها ، فسألَتني أن أحملَها إليكَ ، وَها هيَ بالبابِ فأذنَ لَها فدخَلت ، فقلتُ : يا رسولَ اللَّهِ ، إن رأيتَ أن تجعلَ بينَنا وبينَ بَني تميمٍ حاجزًا ، فاجعلِ الدَّهناءَ ، فحَمِيَتِ العجوزُ ، واستوفَزَت ، قالت : يا رسولَ اللَّهِ ، فإلى أينَ تَضطرُّ مُضرَكَ ؟ قالَ : قلتُ : إنَّما مَثَلي ، ما قالَ الأوَّلُ : معَزاءُ حملت حتفَها ، حَملتُ هذِهِ ، ولا أشعرُ أنَّها كانت لي خَصمًا أعوذُ باللَّهِ ، ورسولِهِ أن أَكونَ كوافدِ عادٍ قالَ : هية وما وافدُ عادٍ ؟ وَهوَ أعلَمُ بالحديثِ منهُ ، ولَكِن يستَطعمُهُ ، قلتُ : إنَّ عادًا قُحِطوا فبعثوا وافدًا لَهُم ، يقالُ لَهُ : قيلٌ ، فمرَّ بمعاويةَ بنِ بَكْرٍ ، فأقامَ عندَهُ شَهْرًا يسقية الخمرَ ، وتغنِّيهِ جاريتانِ يقالُ لَهُما : الجَرادتانِ ، فلمَّا مضى الشَّهرُ خرجَ جبالَ تِهامةَ ، فَنادى : اللَّهمَّ إنَّكَ تعلمُ أنِّي لم أجىء إلى مريضٍ فأداويَهُ ، ولا أسيرٍ فأفاديَهُ ، اللَّهمَّ اسقِ عادًا ما كنتَ تُسْقيهُ ، فمرَّت بِهِ سحاباتٌ سودٌ فنوديَ منها : اختَر ، فأومأَ إلى سحابةٍ منها سوداءَ ، فنوديَ خذها رَمادًا رمَددًا لا تُبقي من عادٍ أحدًا ، قالَ : فما بلغَني أنَّهُ بُعِثَ عليهم منَ الرِّيحِ ، إلَّا قدرَ ما يجري في خاتمي حتَّى هلَكوا ، قالَ أبو وائلٍ : وصدقَ قالَ : فَكانتِ المرأةُ والرَّجلُ إذا بعَثوا وافدًا لَهُم ، قالوا : لا تَكُن كوافدِ عادٍ } حديث حسن
أخرجه أحمد (15996)، والبغوي في ((معجم الصحابة)) (453) .
وهذا الحديث نستنتج منه فائدة مهمه وهي أن بداية مسار السحاب الذي عُذب به قوم عاد كان من جهة مكة المكرمة، فقد إستسقى وافد عاد في مكة وشاهدوا السحاب هناك، كما نستفيد من الحديث الأخر الذي أخرجه البخاري وهو قول الرسول صلى االله عليه وسلم: {وأهكلت عاد بالدبور } أن خروج السحاب على قوم عاد كان من جهة الغرب لأن الدبور هي الرياح الغربية ، ومن مجموع الحديثين نصل إلى نتيجة أن مكة المكرمة تقع غرب مكان قوم عاد ، وهذا ينطبق على منطقة عيون الأفلاج فمكة المكرمة تقع غرب عنه تماماً، أما الشصر فيقع في طرف الجزيرة العربية الجنوبي فهو جنوب شرق مكة والرياح الي تهب عليه من جهة مكة لا تسمى الدبور بل تسمى الأزيب، وهي الرياح الجنوبية الغربية .
(للإستزادة عن مسميات الرياح عند العرب أنظر صفة جزيرة العرب للهمداني ص 154 )
-9-
2- قال تعالى { وَٱذۡكُرۡ أَخَا عَادٍ إِذۡ أَنذَرَ قَوۡمَهُۥ بِٱلۡأَحۡقَافِ وَقَدۡ خَلَتِ ٱلنُّذُرُ مِنۢ بَيۡنِ يَدَيۡهِ وَمِنۡ خَلۡفِهِۦٓ إلا تَعۡبُدُوٓاْ إلا ٱللَّهَ إِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٍ عَظِيمٖ} سورة الأحقاف 21
بيّن الله تعالى أن النبي هود عليه السلام أنذر قومه عاد في موضع يسمى الأحقاف ، وقد إختلف المفسرون وكذلك الجغرافيون في تحديد هذا الموضع، فما يعتقده البعض بأن الأحقاف موضع معين ومعروف في الربع الخالي، هو إعتقاد خاطئ ، فجمهور المفسرون والجغرافيون ذكروا الخلاف في تعيين موقع الأحقاف، أنظر الطبري(22/124) القرطبي (16/204) السيوطي (4/448) الثعلبي (9/16) ياقوت الحموي ( 1/115) وأبو عبيد البكري في معجم ما استعجم ( 1/119) و الزمخشري في كتاب الجبال والأمكنة والمياه ( 1/110) .
بينما نجد أن هذا الإسم يطلق على ناحية كبيرة في الافلاج ، فأطراف سهل البياض التي تقع عيون الافلاج على حافته يسمى الأحقاف ، ذكر ذلك فيلبي عند زيارته للأفلاج ، وقد شدّ هذا الإسم إنتباهه وربطه على الفور بما ذُكر أن قوم عاد كانوا يسكنون الأحقاف فكتب : [ ونظراً لأن أرض البياض لها منظر خادع تبـدو فـيـه كما لو كانت أكثر إرتفاعاً مما هي عليه بالفعل ، فالناس هنا يسمونها الأحقافأو إن شئت فقل : الصخرة ؛ وقد استثار سماعي لتلك الكلمة أول مرة كثيرا من التساؤلات فيما يتعلق بتلك البقاع الرملية الخرافية الواردة في خرائط الجزيرة العربية والواردة أيضا في العديد من المؤلفات الجغرافية المتعلقة بذلك البلد ] ( قلب الجزيرة العربية جون فيلبي 2/82 ترجمة صبري محمد ).
ثم يسترسل فيلبي ويؤكد على تطابق إسم هذه المنطقة الموجودة في الأفلاج مع مسمى الأحقاف المذكور أنه مكان قوم عاد ، ويذكر أن مرافقيه بما فيهم أحد أبناء الربع الخالي يؤكدون ان لا وجود لمسمى الأحقاف في الربع الخالي : [ إن التشابه أو في الحقيقة التطابق بين الاسمين - إذ أن العرب المعاصرين ينطقون الاسمين حقاف - أوحى إلي للحظةٍ أنني كنت أنظر للتلال الرمليـة الأولى للربع الخالي ، ولكن ما لبث هذا الوهم أن تبدّد بعـد أن أوضح لي الرفاق أنهم يطلقـون ذلك الاسم فقط على الصخرة الظاهرة أو الحافة الخارجيـة للسهل الواسع المسمى البياض ، وهو قفر أرضُهُ ثابتة ومسطحة وتغطيها الحصباء وتشبه ظهرة الرجد رغم أنها تفوقها كثيراً في المساحة . لم يكن لرفاقي علم بالأصقاع الرملية التي تحدثت عنها حتى جابر المري الذي كان يعرف الصحـراء الرملية العـظيمة وأجـزاء كثيرة منهـا مثل الجافورة وخيران ، ولكنه لم يسمع قط باسم الأحقاف .] ( قلب الجزيرة العربية ، ترجمة العبيكان 2/96).
وقد أكد فيلبي بعد إستقصاء دقيق في رحلته الأخرى للربع الخالي أن أهالي الربع الخالي والمناطق القريبة منه مثل وادي الدواسر والأحساء لا يذكرون مسمى الأحقاف في الربع الخالي فيقول : [ أما إسم الأحقاف الذي يرد كثيرا في الأدبيات فلم أسمعه أبداً إلا على لسان المتحذلقين والمعلمين ] ( كتاب الربع الخالي ، فيلبي ص 175- 180) .
3- في موضع آخر من القرآن الكريم قال تعالى { وَعَادٗا وَثَمُودَاْ وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَٰكِنِهِمۡۖ وَزَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ أَعۡمَٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِيلِ وَكَانُواْ مُسۡتَبۡصِرِينَ } سورة العنكبوت 38
توضح الآية الكريمة في قوله تعالى: { تبين لكم من مساكنهم } بأن مساكن قوم عاد كانت واقعاً مشاهداً وقت بعثة النبي محمد صلى الله عليه وسلم وهذا يخالف القول بأن الرمال أخفتها بعد الريح ، و وارتها عن الأنظار بشكل نهائي ، وقد أشار إلى ذلك ابن كثير في تفسيره لهذه الآيه فقال [ وَكَانَتِ الْعَرَبُ تَعْرِفُ مَسَاكِنَهُمَا جَيِّدًا، وَتَمُرُّ عَلَيْهَا كَثِيرًا ] (6،251) .
وهو ما أشار إليه الشيخ عبدالرحمن في تفسيره لهذه الآية فقال: [ أي: وكذلك ما فعلنا بعاد وثمود، وقد علمتم قصصهم، وتبين لكم بشيء تشاهدونه بأبصاركم من مساكنهم وآثارهم التي بانوا عنها] .(630)
-12-
و في موضع آخر من القرآن الكريم قال سبحانه عن الريح التي عذب الله بها قوم عاد { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إلا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥) }.
ذكر الطبري في تفسيره القراءات في هذه الآية فقال : [واختلفت القرّاء في قراءة قوله ﴿فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلا مَسَاكِنُهُمْ﴾ فقرأ ذلك عامة قرّاء المدينة والبصرة ﴿لا تَرَى إلا مَساكِنَهُمْ﴾ بالتاء نصبا، بمعنى: فأصبحوا لا ترى أنت يا محمد إلا مساكنهم وقرأ ذلك عامة قراء الكوفة.](تفسير الطبري ج22/ص129) ،
ففي القراءة بقوله [لا ترى ] دلالة على بقاء منازلهم إلى وقت الرسول صلى الله عليه وسلم ، لذلك خاطبه الله تعالى بها .
وفي قوله تعالى { أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ ۖ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26)} سورة طه ، ذكر الكثير من المفسرين أن من المساكن المقصودة بهذه الآية : مساكن قوم عاد، فهي بقت إلى وقت البعثة النبوية وشاهدها تجار قريش، وممن ذكر ذلك الواحدي في كتاب التفسير البسيط : [ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ﴾؛ أيْ: أفَلَمْ يَتَبَيَّنْ لِكُفّارِ مَكَّةَ إذا نَظَرُوا آثارَ مَن أهْلَكْنا مِنَ الأُمَمِ، وكانَتْ قُرَيْشٌ تَتَّجِرُ، وتَرى مَساكِنَ عادٍ وثَمُودَ] كما ذكر ذلك ابن الجوزي في تفسيره زاد المسير(ج3 ص181) والزمخشري في تفسيره (ج3 ص 96) وابن جزي في تفسيره ( ج2 ص16) و الزجاج في معاني القرآن وإعرابه (ج3 ص 379) وغيرهم .
ثم إن تواصل قريش مع الأفلاج أكثر من تواصلهم مع طرف الربع الخالي الجنوبي ، لأن فيها سوق الفلج العظيم الذي قال عنه الهمداني [ترده نزار واليمن] (ص160) وقريش هم أشراف نزار وتجارها ، وهذا السوق يعتبر ملتقى للقوافل التجارية، فيتقاطع فيه عدة طرق تجارية في الجزيرة العربية منها:
1- طريق تجاري رئيسي يقطع الجزيرة العربية من الجنوب إلى الشمال: فيبدأ من مأرب - نجران - الفاو - الأفلاج - ثم ينقسم إلى مسارين : إما الذهاب إلى يبرين - الهفوف - الجرها أو اليمامة ثم يأخذ طريقه إلى العراق.
2- طريق تجاري رئيسي اخر يقطع الجزيرة العربية من الغرب إلى الشرق أي من مكة المكرمة إلى الأفلاج ، وقد سلكه الرحالة الفارسي ناصر خسرو عند قدومه للأفلاج ، وهو طريق الحاج لأهل الأفلاج ، وموارده كالتالي :
مدينة ليلى - بلدة الأحمر - ثمد الجويفا – بئر الجفير – بئر الأرمض – بئر الضيرين - بئر ورشة – مدينة الخرمة – بئر بْرَيم - بئر صُلُّبا – الزيمة – السيل الكبير – مكة المكرمة .
3- طريق يبدأ من الشصر إلى الأفلاج عبر الربع الخالي. وقد سار على جزء منه الرحالة الغربيون مثل ويلفرد ثيسجر، وفيلبي ، وقد أشار إليه برترام توماس في رحلته إلى الربع الخالي .
وهذه خارطة لمسارات الرحالة الغربيين في الربع الخالي .
إنقر على الخارطة لتكبيرها .
-13-
وقد قام د.عيد اليحيى بجهود كبيرة في تحديد طرق القوافل في حلقات برنامج على خطى العرب ، و صمم لها خريطة ثمينة ، زودني بها مشكوراً :
وقد نقل لنا ناصر خسرو صورة عن مركزية الأفلاج في تناقل البضائع في وسط الجزيرة العربية فذكر أن الأديم (أي الجلود) قام ببيعها تجار اليمن في الأفلاج، ثم انطلقت قافلة من اليمامة واشترت الجلود من سوق الأفلاج، وبعدها اتجهت هذه القافلة للأحساء لبيعها هناك. (سفرنامه ص 141).
وحيث أن قوافل قريش كانت ترود أسواق الجزيرة العربية والشام وكان سوق الفلج العظيم المركز التجاري الهام في وسط الجزيرة العربية، فمن المؤكد أنهم قد وصلوا إليه وشاهدوا آثار قوم عاد بالفلج أثناء رحلاتهم التجارية لهذا السوق، بل وأقاموا فيها فترة متاجرتهم في هذا السوق، أو أثناء مرورهم مع الطرق الرئيسة القديمة التي كانت تمر بالفلج لذلك قال الله تعالى مخاطبا قريش: { وَسَكَنتُمۡ فِی مَسَـٰكِنِ ٱلَّذِینَ ظَلَمُوۤا۟ أَنفُسَهُمۡ وَتَبَیَّنَ لَكُمۡ كَیۡفَ فَعَلۡنَا بِهِمۡ وَضَرَبۡنَا لَكُمُ ٱلۡأَمۡثَالَ(45) } سورة إبراهيم .
قال ابن عاشور في تفسيره لهذه الآية: [والمُرادُ بِالسُّكْنى: الحُلُولُ، ولِذَلِكَ عُدِّيَ بِحَرْفِ الظَّرْفِيَّةِ خِلافًا لِأصْلِ فِعْلِهِ المُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ، وكانَ العَرَبُ يَمُرُّونَ عَلى دِيارِ ثَمُودَ في رِحْلَتِهِمْ إلى الشّامِ ويَحُطُّونَ الرِّحالَ هُنالِكَ، ويَمُرُّونَ عَلى دِيارِ عادٍ في رحلتهم ] (249/13). كذلك فسرها الطبري (37/17) وابن الجوزي في زاد المسير (518/2)، والقاسمي في محاسن التأويل (322/6).
فهذا يدل على أن قريشاً كانت تمر على ديار عاد، أثناء رحلاتها التجارية، وتحط رحالها هناك، وتسكن في مساكنهم فترة متاجرتها في السوق، وليس كما يعتقده البعض أن مساكن عاد طمرت في الرمال بعد الريح أو أن مساكنهم تهدمت مع طول الزمان.
وبالمقارنة بين موقع الأفلاج وموقع الرمال التي بين عمان واليمن نجد الأخيرة بعيدة جغرافياً عن مكة المكرمة وطرق الوصول لها ليست متيسرة مما يرجح موقع الأفلاج عنها ، ويؤيد ذلك قوله عز وجل - مخاطبا أهل مكة - في قصة عاد { ولَقَدْ أهْلَكْنا ما حَوْلَكم مِنَ القُرى} [الأحقاف: ٢٧] ففي هذا إشارة إلى أن قرى قوم عاد قريبة من مكة، وليست نائية أو بعيدة أو يصعب الوصول لها كالمنطقة التي بين عمان وحضرموت .
-14-
ومما تجدر الإشارة إليه عثور د. عبدالله السعود على عملات أثرية أثناء تنقيبه بالقرب من عيون الأفلاج ، وبعد عرضها على أحد العلماء في العملات القديمة في أحد المتاحف في بريطانيا ، أخبره بأنه يعود تاريخها لأكثر من 2300 سنة من وقتنا الحاضر ، وأن بعضها سُكّت في مقدونيا وبعضها سُكت في بابل ، وبعضها لا تعرف ولكن عُـثر على ما يشابهها في أحد الكنوز في مدينة دمنهور في مصر . . ( انظر 214 -216 من رسالة الدكتوراة )
قلت : وهذه العملات المتنوعة دليل على مركزية سوق الأفلاج منذ القدم ، واحتكاكهم بالأسواق الخارجية وتعاملهم بعملاتهم .
ونظراً لأهميتها التاريخية فقد خُصص لها موقع لعرضها في المتحف الوطني بالرياض :
4 - قال تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيٓ أَمَدَّكُم بِمَا تَعۡلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُم بِأَنۡعَٰمٖ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ } سورة الشعراء
العيون: جمع عين، ونستفيد من صيغة الجمع هذه أن مكان قوم عاد به عيون كثيرة وليست واحده أو اثنتين ، والعيون المقصودة هي ما كانت جارية لتسقي الجنات والبساتين ، ذكر ذلك الشيخ ابن عثيمين في تعليقه على تفسير الجلالين : [العيون جمع عين، وقول المؤلف: إنها أنهار باعتبار جريانها ] (تفسير القران الكريم سورة الشعراء ص 238) .
وقال تعالى {وَجَعَلۡنَا فِیهَا جَنَّـتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعۡنَبٍ وَفَجَّرۡنَا فِیهَا مِنَ ٱلۡعُیُونِ } يس 34 وقال تعالى { كِلۡتَا ٱلۡجَنَّتَیۡنِ ءَاتَتۡ أُكُلَهَا وَلَمۡ تَظۡلِم مِّنۡهُ شَیئاً وَفَجَّرۡنَا خِلَـٰلَهُمَا نَهرا} الكهف 33 فالمقصود بالعيون هي التي تجري منها الجداول والأنهار، فتسقي الجنات بيسر وسهوله لأن هذا من تمام النعمة.
وهذا نجده واضحاً في عيون الأفلاج دون غيرها فهي عيون كثيرة، ومنها عين الرأس وهي عين ماء كبيرة جدا تبلغ مساحتها 280000 م وتخرج منها أنهار جارية تسقي النخيل والمزارع.
-15-
مقطع فيديو قديم لعيون الأفلاج قبل جفافها وقد صُور بالطائرة من الأعلى :
وهذا الشيخ عبدالله المطلق عضو هيئة كبار العلماء يتحدث عن عيون الأفلاج :
قال فيلبي عن عيون الأفلاج : [ هذه البحيرة هي بلا منازع أكثر المعالم الطبيعية روعة بالأفلاج ، بل بالتأكيد في كل الجزء الداخلي من الجزيرة العربية ] .(2/126)
ذكرت المصادر القديمة أن عيون الأفلاج تخرج منها أنهار جاريه كثيرة جداً، ومشهورة بكبرها وقوة اندفاع الماء فيها:
[قال أبو الدّنيا: فلج الأفلاج نخل لبني جعدة كثير وسيوح تجري مثل الأودية تنقب فيها قنيّ فتساح] (معجم البلدان 271/4)
قال الأصفهاني في كتابه بلاد العرب: [وبالفلج نخيل ومزارع وأنهار] إلى أن قال [وبه عين يقال لها الزبا ويخرج منها سبعة عشرة نهراً]. (ص222)
-16-
(صورة قديمة للمياه الخارجة من عيون الأفلاج ، من رسالة الدكتوراة للدكتور عبدالله السعود)
إن هذه الأنهار والمجاري المائية العملاقة والقنوات الممتدة تحت سطح الأرض المنطلقة من العيون قديمة جداً بقدم العيون والمستفيد منها ليس جهة أو بلدة بعينها، بل تنطلق إلى جميع الجهات وتستفيد منها عدة بلدات، كما هو واضح من صور الأقمار الصناعية ، فتجد آثار الأنهار والقنوات متجهة إلى عدة بلدات فمزارع العمار والخرفة والروضة والصغو وسويدان والسيح جميعها تسقى من هذه العيون العملاقة و يمكن مشاهدة بقايا المجاري المائية على وجه الأرض موجودة في بعض المواقع إلى الآن، وقد عثر فيلبي عام 1336هـ على قنوات مائية تتجه إلى جهة الشرق ، جهة البياض وهي جهة لا توجد فيها مزارع أو بلدان، فاستنتج أن هذه القنوات تدل على استيطان قديم جداً جهة الشرق من العيون.
وقد بحثت عن ما ذكره فيلبي فعثرت على جدول ضخم يتجه إلى جهة الشرق ولم أجد له نهاية واضحة ، وكذلك وجدت بعد جهد على ركام قصور تحولت إلى مرتفعات تظن أنها تلال عند أول وهلة، ولكن إذا دققت البحث في الموقع تجد بقايا أساسات جدران مدفونه تحت الأرض .
-17-
نجد أن نبي الله هوداً عليه السلام عند تعداد النعم لقومه قال { أمدكم بما تعلمون} فالله عز وجل وصفها بأنها مدد منه ، ومدد الله عظيم ، وهذا ينطبق على عيون الأفلاج الضخمة ، فهي أضخم مسطح مائي في الجزيرة العربية ، ثم في قوله تعالى {بما تعلمون } تعطي دلالة بأنها نعم ظاهرة واضحة لا يمكن إنكارها على الإطلاق ، فطول عين الرأس 1500م وعرضها600م وهي واحدة من 16 عين أخرى، هذا عدد ما بقي منها في عصرنا الحالي وقد تكون قديما أكثر من ذلك.
ثم إننا نجد أن المناطق المجاورة لعيون الأفلاج غزيرة بالمياه بشكل كبير جداً، لذلك تكثر فيها العيون الخفية التي تتفجر من الأرض بشكل غزير جداً، بدون أن تجد لها عيناً ظاهرةً على وجه الأرض ، فتجد الآن آثار السواقي في سويدان وصدَّا وساقي آل ناهض قادمة من الغرب وليس من جهة عيون الأفلاج، وقد يحدث أن تتفجر هذه العيون بشكل مفاجئ ففي عام 1386هـ تقريباً وعند البدء بحفر خلوة لجامع بلدة مروان جنوب مدينة ليلى ب 20 كيلو تفاجأ العمال أثناء الحفر بالمياه تتفجر عليهم من موقع الحفر بتدفق غزير مما دفع من يقوم بحفرها إلى أن يتوقف ويبتعد خوفا من الغرق ، ذُكر ذلك في صحيفة الرياض بتاريخ 8-5-1386هـ .
وكذلك توجد آثار لعدد من المجاري والقنوات المائية خارجة من عيون خفية وغير ظاهرة في أماكن ليست بالقرب من عيون الأفلاج الحالية ، ففي مدينة ليلى ذكر الشيخ عبدالله الجذالين رحمه الله في كتاب تأريخ الأفلاج : [ ولقد عرفت سواقي كثيرة وعميقة قادمة من الغرب إلى الشرق وتصب في منطقة يقال لها (أبو قاعه ) تقع في أسفل حاشة جنوب مزارع صبيح الآن ، ولا نعلم مورداً لهذه السواقي ولا مصدر، وكان حول ( أبو قاعة ) أشجار أثل عملاقة تدل على استيطان قديم، وفي مدينة ليلى حدثني الأخ محمد بن سعد بن كليب أنه وجد بجوار بيته ساقيه عميقة مدفونة بالرمل وقد رأيتها متجهة من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي و وجدتها في بيت آخر في الحي نفسه وموقعه الآن شرق مسجد الصالحية ] [وبلدة البديع أيضا مليئة بالجداول القادمة من الغرب إلى الشرق ].ص58
إن هذه العيون سواءً الظاهرة المعروفة أو الخفية، نعمة عظيمة ونادرة ولا يوجد ما يضاهيها عددا وحجماً عند غيرهم من الأقوام في الجزيرة العربية كما أنه لم يذكر أن هناك موقع عيون بالجزيرة العربية اجتمعت فيه الشواهد ونُسب ما حوله لقوم عاد إلا عيون الافلاج، وهي بحق تتسق مع ماورد بالكتاب والسنة من صفات مكانية لبلاد قوم عاد التي لم يخلق مثلها في البلاد ، خاصة عيون الماء التي لم يذكر ما يُمثلها في عددها أو مساحتها في جزيرة العرب .
-18-
إن هناك الكثير من الدلائل تشير إلى أن عيون الأفلاج في زمن مضى كانت تمتد بطول 35كلم وعرض 5 كلم ، وقد أكد ذلك أ.د عبدالرحمن النشوان في كتابه : [منطقة الأفلاج دراسة جغرافية] ( ص 102) بعد دراسته للرواسب المحيطة بالعيون والمنتشرة في المنطقة ، وكما هو ثابت بنصوص القرآن الكريم أن قوم عاد كانوا بعد قوم نوح أي بعد الطوفان العظيم ، وقد يكون هذا مؤشر أن العيون كانت في وقتهم في أعلى منسوب لها سواء بسببه أو بدونه، وهذا يقودنا أننا أمام بحيرة من العيون لا يوجد لها مثيل في الجزيرة العربية ، وبلا شك أنها قامت عليها حضارة عظيمة ، فالماء هو عصب الحياة والعامل الأول في نشوء الحضارات .
اما القول إن حضارة قوم عاد كانت في الربع الخالي : فيُرد عليه بتساؤل بسيط : أين هي العيون الظاهرة في الربع الخالي أو حتى أثارها ؟ ، وقد نص القرآن على وجود العيون في موقع قوم عاد ، بينما منطقة الأفلاج واضح للعيان تواجد العيون فيها بل يوجد فيها أكبر عيون في الجزيرة العربية واكثرها عدداً .
وعند العودة إلى بعض المراجع التي تحدثت عن الربع الخالي نجد انه لا يوجد في الربع الخالي حتى مياه عذبه تقوم عليها حياة ويبنى عليها حضارة، فجميع مياهه مالحة وغير صالحة للشرب ، ومن المعلوم أن المياه الصالحة للشرب هي ما كان تركيز الأملاح فيها من 100 إلى 500 ملغرام في اللتر ويسمح حتى 1000 مليلتر كحد أقصى ، بينما أقل بئر سطحي في الربع الخالي يبلغ تركيز الأملاح فيه 3000 ملغ لكل لتر بل أنها قد تصل في بعض الأبار السطحية إلى 30،000 ملغ لتر ( انظر ص122من كتاب الربع الخالي بحر الرمال العظيم لهيئة المساحة الجيولوجية ) . وهذا مؤشر آخر يعزز ما ذهبت إليه ويرجح أن تكون عيون الأفلاج هي موطن حضارة عاد.
5- قال تعالى : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمۡ تَخۡلُدُونَ } الشعراء 129
اختلف المفسرون في معنى المصانع إلى عدة أقوال وذهب قتادة السدوسي وهو تابعي وعالم في اللغة والتفسير أنها مأجل الماء تحت الأرض ، ( انظر تفسير القرطبي 123/13 ) .
والمصانع جمع مصنع وهو ما صُنع وأتقن في بنائه ، وهذا ينطبق بالفعل على القنوات المائية فهي صنعت بدقة وإتقان لينقلوا بها المياه مسافات طويلة إلى مزارعهم وبيوتهم.
إن تسمية القنوات المائية بالمصانع معروف لدى العرب منذ قديم الزمان فقد سميت بلدة المصانع الواقعة جنوب الرياض بهذا الاسم نسبة إلى القنوات المائية ، وقد ذكرها بهذا الاسم الهمداني(ص140) وياقوت الحموي (136/5).
وهنا لمسة بيانية يمكن استنتاجها قال : (تتخذون مصانع ) ولم يقل ( تبنون ) لأن أكثر العمل والشاق منه هو ما كان تحت الأرض .
وكذلك لمسة بيانية أخرى: قد يفهم من ربط المصانع بالخلود لأنها ترتبط بالماء الذي هو سر الحياة ، وعامل نمو وديمومة فإذا عـُدم الماء عُدمت الحياة بل إنه يدفع الناس إلى الهجرة إلى مناطق أخرى يتوفر بها الماء.
وليس المقصود بالمصانع مخازن للمياه في باطن الأرض - كالبرك التي على طريق زبيدة - لأن الله قد امتن عليهم بالعيون الجارية الظاهرة على وجه الأرض ، فليسوا بحاجة لخزن المياه ، لأن الخزانات إنما توضع في الأماكن قليلة الماء لحفظ مياه الأمطار والسيول ، بينما قوم عاد قد امتن الله عليهم بالعيون الكثيرة فقد قال { واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون * أمدكم بأنعام وبنين وجنات وعيون } ، كذلك لو كان المقصود بالمصانع القصور ، لكان التعبير بقوله ( تبنون )، ولكنهم صنعوا هذه القنوات لنقل الماء من العيون إلى الحقول.
6 - قال تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱلَّذِيٓ أَمَدَّكُم بِمَا تَعۡلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُم بِأَنۡعَٰمٖ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّٰتٖ وَعُيُونٍ} سورة الشعراء
ذكر سبحانه الجنات وهي جمع جنة ، وتدل هذه الآية على كثرة البساتين الكثيفة في المنطقة التي يسكنها قوم عاد .قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله : [ فهذه الجنات ليست مجرد بساتين فقط ، لأنه لا يسمى البستان جنة إلا إذا كان كثير الأشجار والزروع حيث يُجِنّ من فيه ويَستُرُه] (تفسير القران الكريم سورة الشعراء ص 238) .
وأرى أن صفة الجنات تتسق مع المنطقة التي تسقيها عيون الأفلاج في أوج عطائها، فهي منطقة ذات عيون متدفقة ومساحة متسعة مترامية الأطراف ومجاري مائية عملاقة تنقل المياه إلى أبعد نقطة وتربه طينية خصبة، وتغمرها الأودية بالسيول التي تحمل معها كميات كبيرة من الطمي مما زاد في خصوبتها وكثرة بساتينها ، وكثافة نخيلها وأشجارها مما يعطيها صفة الجنات عن غيرها ، ففي كل ناحية خضرة ، وفي كل مكان تصل إليه مياه العيون - الظاهرة أو الخفية - جنة من جنان الأرض .
-19-
يقول أ.د عبدالرحمن النشوان في كتابه (الأفلاج دراسة جغرافية ميدانية) عن توزيع التربة بالأفلاج : [ أ- تربة جيدة صالحة للزراعة وتسمى بالتربة الصفراء وتعد من أفضل أنواع التربات في المنطقة ) إلى أن قال ( وهي بشكل عام تمتاز أنها وسط بين التربة الرملية والتربة الطينية . وتظهر بشكل رئيسي في سهل الأفلاج من قرية أوسيلة شمالاً حتى جنوب قرية البديع جنوباً ، ومن النايفية غربا حتى المضاييع شرقا ]. (ص199).
فتربة المنطقة التي تسقيها عيون الأفلاج هي من أخصب أنواع التربة ومع توفر المياه المتدفقة من العيون ينتج ذلك حضارات متعاقبة ومستوطنات سكانية وبساتين ممتدة بقدر ما تصل إليه هذه القنوات ، حتى أن البلدات المتناثرة حول العيون تسمت بما يدل على كثرة بساتينها وتشابك أشجارها.
فمن أسماء تلك البلدات : سويدان من اسوداد البساتين من الخضرة ، والعرب تسمي الخضرة سواداُ كما قال تعالى في وصف الجنتين { مدهامتان } ، ومن الأسماء ليلى على أحد التفسيرات لمسماها أنها سميت بذلك من الليل والسواد وذلك لشدة اخضرارها ، والعرب يسمون الخضرة بالسواد إلى وقتنا المعاصر ، يقول ابن جيعان أحد شعراء الأفلاج النبطيين - قبل مائة سنة تقريبا - عندما خرج مهاجرا من بلدة الخرفة بالأفلاج :
أعوج راسي يم ذاك السوادي *** ويا صبر عين الي عن الدار يجلون .
ومن بلدة سويدان ناحية تسمى الغاطة: مأخوذ مسماها من الغيط وهو الحقل والبستان، وكذلك بلدة الخرفة كناية عن كثرة الثمار وسهولة جنيها ، وبلدة الروضة مفرده من الرياض وهي الأَرْض ذَات الخضرة والبستان الحسن ، كذلك بلدة السيح من انسياح الماء وجريانه .
بالعودة إلى الربع الخالي نجد أن نوع التربة : جيرية وسباخ ملحية غير صالحة للزراعة، والأمطار فيه شحيحة وقد تمر السنة والسنتان بدون أن تسقط الأمطار فيه، فضلاً عن كثرة العواصف الرملية المفسدة للزراعة ، كما أن ارتفاع درجات الحرارة عامل آخر لعدم ملاءمتها للزراعة، حيث إنه في فصل الصيف قد تصل درجة الحرارة فيه إلى 50 درجة مئوية ، وقد تبلغ درجة حرارة الرمال 80 درجة مئوية .(الجغرافيا النباتية عبداللطيف النافع ص436)
إن من يزور الربع الخالي يلاحظ ذلك ، وقد شاركت في عام 1440هـ في رحلة لاستنبات الربع الخالي ، مع مجموعة من المهتمين وهم أعضاء من رابطة سدر ورابطة الأفلاج الخضراء ، وقمنا بغرس الكثير من الشتلات و نثر الآلاف من البذور :
وبعد عام كامل قام أحد الأعضاء برحلة إلى الربع الخالي ومر على أماكن البذور وزراعة الشتلات ليخبرنا بنتيجة العمل بعد مرور سنة ، فكانت النتيجة كما كانت متوقعة، فقد وجد أنه لم يعش من الشتلات الكثيرة إلا القليل فقط والبقية لم يجد لها حتى أثراً أو بقايا ، فقد قضت عليها حرارة الصيف العالية والتربة الملحية والرياح العاتية مع أن أكثرها قد تم زراعته بجوار المياه .
تعددت أقوال المفسرين فيها ، وأبرزها ثلاثة معانٍ ، سأقوم بتلخيصها كالاتي :
1-القول الأول :
إرم : جد لقبيلة عاد .
وعلى هذا المعنى فعاد لم يخلق مثلها في ضخامة أجسادها وقوتها ويشهد لذلك قوله تعالى { وَزَادَكُمۡ فِی ٱلۡخَلۡقِ بَسطَة} وقوله تعالى عن قوم عاد { وَقَالُوا۟ مَنۡ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةًۖ } . ويدخل في هذا القول أن المراد بذات العماد أي أن خيامهم ستكون ذات أعمدة طويلة وهذا من لوازم خلقتهم العظيمة .
2-القول الثاني :
إرم : اسم المدينة التي تسكنها عاد .
وقد وصف الله هذه المدينة بأنها ( ذات العماد ) أي أبنية عالية وضخمة .
وقيل : إرم اسم قبيلةٍ واسم مدينة أيضاً ، سميت المدينة بإسم إرم بن عوص بن نوح، الذي انحدرت منه قبيلة إرم ، وهذا كثير على مر التاريخ ، وممن جمع اسم القبيلة والمدينة : نجران وعُمان و حضرموت وسبأ . (الأفلاج كما رأها فيلبي – عبدالعزيز المفلح ) .
وجمع هذه الأقوال الثلاثة البقاعي في نظم الدرر فقال :
[ {لم يخلق مثلها في البلاد} أيْ في بِنائِها ومَرافِقِها وثِمارِها، وتَقْسِيمِ مِياهِها وأنْهارِها، وطِيبِ أرْضِها وحُسْنِ أطْيارِها، وما اجْتَمَعَ بِها مِمّا يَفُوتُ الحُصْرُ ويُعْجِزُ القُوى، ولا مِثْلَ أهْلِها الَّذِينَ بَنَوْها في قُوَّةِ أبْدانِهِمْ وعَظِيمِ شَأْنِهِمْ وغَيْرِ ذَلِكَ مِن أُمُورِهِمْ ] (ج22/ص28)
وأشار إلى ذلك أ.د مساعد الطيار في تفسيره قال : [ فمعنى ذلك أن الأقوال الثلاثة يمكن أن يلتأم بعضها على بعض ، لكن يبقى الآن أن الدلالة الأولية لقوله { ذات العماد } إذا كان المراد به إرم ذات الأبنية : فستكون هذه الأبنية متوافقة مع طولهم ، فيكون فيها إشارة إلى طولهم مع هذه الجهة ، وهم أيضا أصحاب قوة فهم أصحاب عماد يترحلون ينزلون من مكان إلى مكان ] (التفسير الصوتي لسورة الفجر). ( أنقر هنا )
وقد تحققت هذه الأقوال الثلاثة في منطقة الأفلاج :
أ - البسطة في الخلق لقوم عاد :
وهو ثابت بنص القرآن فقد قال الله تعالى عنهم { وزادكم في الخلق بسطة} .
فقد تم العثور في منطقة الأفلاج على بعض الآثار لعصور قديمة ولأقوام عاشوا فيها أعظم منا في الخلقة والبنية الجسمانية ومنها :
1- تم العثور بالقرب من شعيب العجلية أحد شعاب الأفلاج الجنوبية على أثر مادي ومحسوس ومشاهد إلى الآن وهو أثر قدم متحجرة كبيرة جداً ويبدو من ظاهرها أنها لأنسان أكبر بنية من المعدل المعتاد والمتعارف عليه اليوم.
-21-
2- تم العثور على لبنة من الطين وعليها أثر يد مطبوعة أكبر من يدنا المعتادة بكثير ، ذكر لي ذلك الأستاذ راشد بن مسفر بن عموش الصخابرة فقال بينما كنا نعمل بتسوية الأرض بـ الشيول في مزرعتنا في البديع الملاصقة لمنطقة صداء الأثرية ، استخرج الشيول مجموعة من اللبن بينها لبنة من الطين عليها طبعة من يد أكبر من أيدينا بكثير ،فتعجنا من ضخامة اليد المطبوعة عليها ، كان ذلك عام 1431هـ تقريبا ، وقد شاهدناها أنا وإخواني جميعا وكل من زارنا تلك الفترة ، ولكن لم نهتم في المحافظة عليها ، وبعدما خرج الفيلم الوثائقي (إرم ذات العماد ) د. عيد اليحيى وتصويرها لليد المطبوعة تذكرنا هذه اللبنة، وندمنا على التفريط فيها .
3- ومن الآثار الدالة على عظمة خلق قوم عاد هو عظمة المباني وضخامتها التي لم يعهد أن الناس بنو مثلها ، والتي ذكرها الهمداني وسيأتي الحديث عنها في الفقرة التالية .
ب- المباني العالية والعظيمة : من المؤشرات على البسطة في الجسم أن تكون مبانيهم وخيامهم وشتى أمورهم مختلفة عن غيرهم ممن هم دونهم في الخلقة، خاصة أن الله زادهم في العلم الدنيوي بدليل قوله تعالى { وَعَاداً وَثَمُودَا۟ وَقَد تَّبَیَّنَ لَكُم مِّن مَّسَـٰكِنِهِمۡۖ وَزَیَّنَ لَهُمُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَعۡمَـٰلَهُمۡ فَصَدَّهُمۡ عَنِ ٱلسَّبِیلِ وَكَانُوا۟ مُسۡتَبۡصِرِینَ} [العنكبوت ٣٨]
استدل الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تفسيره بقوله تعالى {وكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}، [أنَّ اسْتِبْصارَهُمُ المَذْكُورَ هُنا بِالنِّسْبَةِ إلى الحَياةِ الدُّنْيا خاصَّةً].(160/6) وكذلك قال البقاعي في نظم الدرر :[ الحالُ أنَّهم كانُوا كَوْنًا هم فِيهِ في غايَةِ التَّمَكُّنِ ﴿مُسْتَبْصِرِينَ﴾ أيْ: مَعْدُودِينَ بَيْنَ النّاسِ مِنَ البُصَراءِ العُقَلاءِ جِدًّا لِما فاقُوهم بِهِ مِمّا يَعْلَمُونَ مِن ظاهِرِ الحَياةِ الدُّنْيا ] (438/14) .
ولهذا أخبر الله تعالى أنه مكن لهم في الأرض مالم يمكن لقريش في قوله تعالى { ولقد مكناهم في ما إن مكناكم فيه } الأحقاف آية 26
ذكر الهمداني في صفة جزيرة العرب عن مباني في الأفلاج هي في غاية العظمة مما يدهش العقول ذكرها :
بالقرب من عيون الأفلاج وقنواتها وقُصيرات عاد يوجد ( القصر العادي ) الذي قال عنه الهمداني [ القصر العادي : من عهد طسم وجديس ، وصفته أن بانيه : بنى حصناً من طين ثلاثين ذراعاً دكّه ، ثم بنى عليه الحصن ، وحوله منازل الحاشية للرئيس الذي يكون فيه ، والأثل والنخل ](ص160) أي بنى قاعدة ارتفاعها ٣٠ ذراع ثم بنى الحصن عليه . وهذا الحصن ما زال بهيئته التي ذكرها الهمداني ، وهو مرتفع عن الأرض بشكل عجيب ، فعندما تريد أن تدخل له لابد من أن تصعد إليه بصعوبة لارتفاع أرضيته عن سطح الأرض ، ومازالت جدرانه واقفة على هيئتها ، وقد قمت بقياس ارتفاع أحد جدرانه فوجدتها ترتفع حاليا عن سطح الأرض أكثر من خمسة عشر مترا، والظاهر لي أنها أطول من ذلك سابقاً.
-22-
وفي الصورة التالية تشاهدون الطفل يحاول التسلق ليصل إلى أرضية القصر التي تم رفعها عن سطح الأرض ، فمن بناه جعل له دكة ثم بنى القصر عليها وهو إلى الآن باقٍ كما وصفه الهمداني .
-23-
- قال الهمداني يصف الهيصمية وموقعها غرب قصيرات عاد فقال [ وهي مدينة حصينه : يركض على جدارها أربع من الخيل، وجهد الغالي بالسهم أن ينال رأسها](ص160) أي لارتفاع جدرها فإن من يرمي بالسهم لا يصل السهم لأعلى الجدار إلا بصعوبة ، ومن عرض جدارها فإنه قدّر بأن تجري أربع من الخيل على أعلاه .
٣- قال الهمداني [سوق الفلج عليها أبواب الحديد وسمك سورها ثلاثون ذراعاً، ومحيط به الخندق وهو منطّق بالقضاض والحجارة والصاروق] ص160- والصاروق مادة عازلة تمنع إفساد الماء للسور -. ووصف الأصفهاني سوق الفلج فقال :[ مدينة عظيمة ] (بلاد العرب 222).
-24-
( صورة لبقايا سور شرق العمار على ضفاف وادي الأحمر يُعتقد أنه جزء من سور الفلج )
إن نمط البناء الهائل في المدينة والسوق ، هو نمط فريد لم يعهد في الجزيرة العربية مثلهُ ، مما يدل على أنه من آثار قوم لهم صفات ينفردون بها عن غيرهم مثل قوم عاد الذين أوتوا بسطة في الخلق وكذلك أوتوا علوماً دنيوية مكنتهم من بناء هذه المباني العظيمة.
وبقاء هذه المساكن بعد هلاك قوم عاد بالريح هو مصداق لما هدد به نبي الله هود عليه السلام قومه فقال { ويستخلف ربي قوما غيركم } ، متوافقا مع آية أخرى ورد فيها أن مساكنهم بقيت ولم تدمرها الريح فقال سبحانه { فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم } ، ثم قال سبحانه في موضع آخر لأهل مكة {وعاد وثمود وقد تبين لكم من مساكنهم} .
إن وصف الهمداني لعرض الجدار الكبير قد يجعل البعض يعتقد أن فيه شيء من المبالغة، ولكن من يقف اليوم على ما بقي من الآثار في الموقع يدرك صحة ما نقله الهمداني من عظمة هذا البناء، كما أننا نجد في مواقع مشابهة مثل السوق في مستوطنة الفاو قد بـُني سوره بثلاث جدران متتالية ويصل عرضه إلى ستة أمتار، وهو سوق يُعد صغيراً بالنسبة لسوق الأفلاج الذي وصفه الهمداني . (انظر بحث قدمه د. عبدالرحمن الأنصاري وآخرون عن قرية الفاو ص 246).
وأما أسباب ثبات هذه الأبنية الطينية على مدى العصور وتعاقب السنين عليها فهو يعود إلى أسباب أشار إليها الهمداني :
١- عرض بناء الجدار بصورة ضخمة جداً، ومن مشاهدتي للمباني القائمة في الموقع خاصة في قصيرات عاد أجد ذلك واقعاً مشاهداً حيث يبلغ عرض الجدار أكثر من ثلاثة أمتار، كذلك في قصر الحائط بالسيح فهو عريض جداً حتى أنه يُشاهد في جُدرانه أمراً عجيباً : فقد إستغل المتاخرون عرض الجدار الضخم بنحت أفران كبيرة فيه ، ومع كثرتها ، وشدة حرارة النار فيها ، إلا أن جدران القصر ثبتت ولم تتأثر بذلك .
-25-
2-خلط الطين بالحصى والحجارة مما أدى لتماسكه وزاد في صلابته . وهذا مشاهد إلى الآن كما في الصورة :
٣- إستخدامهم لمادة عجيبة تدهن بها مبانيهم إسمها ( الصاروق ) وتسمى كذلك الصاروج وهو طين يخمر إسبوعين في الماء ثم يجفف اسبوع ثم يوقد عليه النار إسبوعين ثم يدهن به الجدران و الأحواض فلا تتأثر بالمياه والأمطار .
-26-
4- استخدامهم لتربة جبسية تسمى الغضراء، فالبناء بالطين المخلوط بالجبس أقوى بكثير من البناء بالطين العادي، فإذا أضفت عليه الحجارة ودهنته بالصاروج وكان الجدار عريضاً جداً نتج عن ذلك مبنى قوي متماسك قادر على البقاء إلى أطول فترة ممكنة.
من خلال بحثي عقدت مقارنة بين اللبن الذي تم بناء قصيرات عاد منه ، وبين اللبن العادي الذي بنيت منه بيوت الطين المتأخرة في بلدة السيح ، فوجدت أن لبن قصيرات عاد يتميز عن غيره بالتالي :
-27-
مقاسه أكبر من حيث الطول والعرض والارتفاع، ومصنوع في قوالب مربعة ومستوية، وتربته أغمق ويبدوا أنه قد تم التعامل معها مثل الصاروق أي بالتخمير والنار، وكذلك تحتوي اللبنة بشكل كبير على الحصباء أي الحجارة الصغيرة ، ويلاحظ أن اللبنة قوية جداً ومتماسكة، بينما الأخرى تصدعت مع الحركة البسيطة.
وفي إحدى الزيارات لـ د.اليحيى للأفلاج رافقته لزيارة القصر العادي ، وأثناء التجول فيه ، وجدنا عينة من العظام في أحد الجداران ، وقد حاولت مع د.عيد اليحيى إخراجها ، فلم نتمكن من ذلك إلا بعد جهد ومشقة بالغة ، وذلك بسبب قوة الجدار وتماسكه .
وقد نبه البقاعي في نظم الدرر إلى ثبات أثار الأولين وصعوبة إندثارها مع مضي الزمن فذكر في تفسير قوله تعالى :{ أَوَلَمۡ یَسِیرُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ فَیَنظُرُوا۟ كَیۡفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلَّذِینَ كَانُوا۟ مِن قَبۡلِهِمۡۚ كَانُوا۟ هُمۡ أَشَدَّ مِنۡهُمۡ قُوَّةࣰ وَءَاثَارࣰا فِی ٱلۡأَرۡضِ فَأَخَذَهُمُ ٱللَّهُ بِذُنُوبِهِمۡ وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ ٱللَّهِ مِن وَاقࣲ}[غافر ٢١] فقال [ ”و“ أشَدُّ آثارًا في الأرْضِ لِأنَّ آثارَهم لَمْ يَنْدَرِسْ بَعْضُها إلى هَذا الزَّمانِ وقَدْ مَضى عَلَيْها أُلُوفٌ مِنَ السِّنِينَ، وأمّا المُتَأخِّرُونَ فَتَنْطَمِسُ آثارُهم في أقَلِّ مِن قَرْنٍ.](17/25)
ج - أعلام قوم عاد :
والمعنى الذي أشار اليه المفسرون أنها أعلام مبنية بالحجارة بشكل عامودي ، أو كهيئة القبور :
من خلال بحثي الميداني أرى أنها قد اجتمعت كلتا الصفتين في أحد الآثار بالأفلاج ، فهو مبني بالحجارة بشكل عامودي ، وجزءه الأسفل كالقبر .
وقد صُنع هذا الأثر من عصور قديمة جداً ، بطريقة هندسية تـُذهل كل من زارها ، حتى أن فيلبي عندما زار الأفلاج عام 1336هـ قال عنها : إن هذا البناء لم تقم به أمة العرب !، بل أمة أخرى عظيمة، قد تكون أمة الفرس .
إنها القنوات المائية العظيمة والكثيرة والتي صُـنعت بطرق متنوعه ، وتم إجراءها من العيون أسفل الأرض ، بل إن اسم منطقة الأفلاج - منذ القدم - إنما اشتق من هذا المعلم الأثري العظيم وهو الفلج أي النهر الجاري من العين .
عند البحث في كتب اللغة عن كلمة (إرم) نجد أن هذا المعلم مطابق للمعنى اللغوي للآية ونستعرضها في التسلسل التالي:
١- ورد في كتاب : المفردات في غريب القرآن للراغب الأصفهاني ، [الإرم :علم يبنى من الحجارة، وجمعه: آرام ]. (ص74)
-28-
٢- ورد في : معجم البلدان لياقوت الحموي، [إِرَمٌ: بالكسر ، ثم الفتح، والإرم في أصل اللغة حجارة تنصب في المفازة علما، والجمع آرام ] (154/1)
3- جاء في المغيث في غريبي القرآن والحديث للمديني : [إرم أعلام كانت تبنيها عاد] (56/1)
وكما هو معروف فالقنوات المائية عبارة عن أنفاق تحفر من تحت الأرض من العين إلى أن تصل المزارع ، ويوضع لها فجوات ظاهرة على سطح الأرض للتنظيف ،فتطوى هذه الفجوات بالحجارة بشكل عامودي ، وترفع إلى أعلى من سطح الأرض أحيانا بأكثر من ثلاثة أمتار، فهي تشبه العلم الظاهر على سطح الأرض كالتي توضع في الصحراء لمعرفة الطرق والاتجاهات .
-29-
وقد عـُثر في أرشيف شركة أرامكوا على صور نادرة للخرز في الخرج وهي على حالتها القديمة ، وتلاحظ ارتفاعها عن سطح الأرض بشكل واضح :
ويظهر لي والله أعلم أن ارتفاع الخرز في الأفلاج كان أطول مما نشاهده الآن بدليل ضخامة الرُكام تحته ، ويبدو لي أنه انهدم مع تعاقب السنين عليه ، ونستدل على ذلك من الصور المتوفرة للخرز في الخرج فمع أن التصوير كان قبل ما يقارب الخمسين سنة إلا أنك لا تجد لهذه الجدران أثراً الآن ، فكيف بخرز الأفلاج الذي له مئات السنين ومتوقف عن العمل أو الصيانة.
مما ذكره فيلبي -عندما زارها قبل مائة سنة تقريبا- أنه لا يخرج من العيون الظاهرة إلا ساقي واحد فقط، والبقية تخرج من عيون خفية غير ظاهرة قبل أن تصل القنوات إلى عيون الأفلاج المعروفة، وبالرجوع إلى ما ذكره ناصر خسرو الذي زارها قبل 1000 سنة تقريباً وذكر أنه لا يخرج منها إلا أربعة سواقي فقط ، فهذا يعني أن ما نشاهده من عشرات الخرز التي تخرج من العيون لها مئات السنين وهي متوقفة عن العمل ، فيظهر لي أن ارتفاعها عن سطح الأرض كان كبيراً جداً ،وهي بذلك تشابه الأعلام في الصحراء بل قد تكون في بعض أجزاء طريقها ، أطول وأضخم من أعلام الطرق، كما هو موجود في القطيف، فقد قام أحد المستشرقين بنشر صور للخرز عام 1940م وهي باقيه على ارتفاعها ، قبل أن تتهدم :
-30-
فيظهر لي أن الخرز في الأفلاج كان يقارب لهذا الطول الشاهق وخصوصا عندما يقطع الرمال قبل أن يصل إلى بلدة السيح لأن الركام هناك كبير جداً ، وأعتقد أن سبب هذا الارتفاع المبالغ فيه هو لحمايته من الرمال الزاحفة (السوافي) والملاحظ أن الأرض في القطيف رمليه، وكذلك الأرض في المنطقة جنوب غرب السيح ، وهذا سبب ضخامة الركام هناك ، كما هو واضح في الصورة التالية :
-31-
فعندما نتصور أعلام الخرز كانت بهذا الشكل الضخم ، وبأعداد كبيرة، مؤكد أنها ستشكل علامة فارقة للمكان الذي توجد فيه، لذا كانت هي الوصف الدقيق للمدينة التي تكون بها فيقال إرم ( ذات العماد ) ، مثل أن يقال مصر (ذات الأهرامات) ، أو الصين (ذات السور العظيم) .
4- ورد في كتاب المحيط في اللغة للصاحب بن عباد (446/2) [الإِرَمُ: من أعْلاَمِ قَوْمِ عادٍ كهَيْئة القُبُوْرِ] .
وأرى أن الخرز يشبه للقبور في تجويفه الداخلي المحفور داخل الأرض، وهذه أحد الصور للخرز المكشوفة :
هنا يتضح المعنى الإجمالي لمعنى إرم ذات العماد :
فهي حجارة مصفوفه ترتفع إلى أعلى كأعلام الطريق وجزؤها الأسفل في الأرض كالقبور .
والظاهر لي أن الأنهار الخارجة من العيون في ذلك الوقت كثيرة جداً وقد تناقصت مع مرور الزمان فقد ذكر الأصفهاني ت (311هـ) أن عين الزّباء فقط يخرج منها ١٧ نهراً، وذكر الشيخ عبدالله الجذالين مؤرخ الأفلاج رحمه الله في كتابه تأريخ الأفلاج : ( يقال إن عددها كان ٣٦٠ ساقيه ) . ص56
-32-
عندما نتصور شكل المدينة من خلال ما نقل عنها وما بقي من أثرها نجدها عيون ماء عظيمة يخرج منها عدد كبير جداً من الأنهار الجارية بأعلامٍ حجرية ضخمة و متتالية، ويمتد كل نهر لمسافات طويلة تجاوز بعضها العشرة كيلومترات إضافة إلى عشرات الأعلام الأخرى لقنوات مائية تخرج من عيون خفية غير ظاهرة وبعيدة عن عيون الأفلاج ، وتمتد البساتين والجنان وتشتبك بامتداد هذه الأنهار، ويتخلل ذلك قصور ومبان ضخمة وكبيرة شامخة في السماء تجري داخلها ومن حولها هذه الأنهار، وسوق عظيم ترد إليه قوافل التجارة من كل مكان في الجزيرة العربية، وإذا نظرت إلى أسوار المدينة وسوقها تجد فيها من الضخامة بحيث أربع من الخيل تجري عليها ، و مرتفعة بحيث أن الرامي بالسهم لا يصل إلى أعلاها، ومؤكد بأن من بناها وسكنها قوم زادهم الله بسطة في الجسم والقوة والبأس والعلم، كل ذلك يوحي إلى أن هناك أمة عظيمة وحضارة زاخرة ومكان لا يوجد له شبيه أو مثيل في زمانه، مدينة لم يخلق مثلها في البلاد.
* إستناجات محتملة :
يذكر علماء التاريخ البشري أن الإنسان كان في بداية الأمر يجمع غذاءه من النباتات والأشجار ويصطاد الحيوانات ، ويتنقل في الأرض ، ثم بدأ التصحر، وقلّت النباتات وهاجرت الحيوانات، فاضطر الإنسان القديم لابتكار الزراعة واستئناس الحيوانات والاستقرار في الواحات بالقرب من المياه .
واتفقوا أن التصحر في العالم بدأ في المنطقة التي تشمل [جزيرة العرب و العراق والشام وشمال أفريقيا ] فأتفقوا أن هذه المنطقة بدأت منها الحضارة لأن التصحر بدأ فيها أولاً ، وأعتقد أنه يشهد لصدق نظريتهم هذه ، أننا نجد أن الرسل والأنبياء جميعهم من هذه المنطقة ، لأن أهلها أول البشر المستوطنين في القرى .
اختلف العلماء في تحديد أي هذه المواضع بالضبط انطلقت منها الحضارة ؟ ، فرأى بعض العلماء ومنهم العالم النمساوي جرافتون إليوت سميث (Grafton Elliot smith) في كتاب نمو الحضارة أن المصدر هو مصر، ورأى لورد راغلان Lord Raglan)) في نظريته أن يكون المصدر أرض الرافدين بالعراق وليس مصر ، وكل منهم بنى تصوره حسب ما اكتشف من أثر في وقته ورأى أنه الأقدم من وجهة نظره.
وفي يونيو عام 2016 أعلن صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني في المحاضرة التي ألقاها في الأكاديمية الفرنسية للنقوش والآداب بباريس عن أحد الاكتشافات المهمة في المملكة، والمتمثل في الكشف عن أحفورة عظمة بشرية وجدت في البحيرة الجافة بمحافظة تيماء، وقُدر عمرها ب 85000 سنة فكانت أقدم عظام بشرية تم اكتشافها خارج أفريقيا والشام ، يقول مايكل بتراجليا من معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري في ألمانيا : [ في السابق، كان يُعتقد أن شبه الجزيرة العربية بعيدة عن الموقع الأساسي للتطور البشري ، هذا الاكتشاف يضع الجزيرة العربية بقوة على الخارطة باعتبارها منطقة أساسية لفهم أصولنا وانتشارنا نحو بقية أرجاء العالم].
أعتقد أن التصحر بدأ في جزيرة العرب قبل العراق وقبل مصر، حسب ما أشارت له العديد من الدراسات ونقلته كتب الأثر في تاريخ الفتوحات الإسلامية أن العرب كانوا يعيشون في الصحاري بينما كان أهل العراق والشام ومصر لديهم الأنهار والمياه الجارية، و باكتمال الصورة من الجانب العلمي من خلال الأحافير والدراسات ومن الجانب الأدبي من خلال الكتب والمراجع أرى والعلم عند الله أن جزيرة العرب بدأت منها الحضارة والاستيطان لأن التصحر بدأ فيها قبل غيرها، ويمكن استنتاج ما يؤيد صحة ذلك من قصص الأنبياء في القرآن الكريم، فترتيب الأمم السابقة كالتالي : بعد آدم عليه السلام جاء قوم نوح ثم قوم عاد ثم قوم ثمود ثم تتسلسل الأمم بعدهم ، لقول الله تعالى { مِثۡلَ دَأۡبِ قَوۡمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَٱلَّذِینَ مِنۢ بَعۡدِهِمۡۚ وَمَا ٱللَّهُ یُرِیدُ ظُلۡمًا لِّلۡعِبَادِ } غافر31 ، وقال هود مخاطباً قومه { وَٱذۡكُرُوۤا۟ إِذۡ جَعَلَكُمۡ خُلَفَاۤءَ مِنۢ بَعۡدِ قَوۡمِ نُوح } فيتبين لنا أن قوم نوح أولا ثم جاء بعدهم قوم عاد .
إذا تأملنا قصة نوح مع قومه، وتدبرنا هذه الآيات الكريمة : {فَقُلۡتُ ٱسۡتَغۡفِرُوا۟ رَبَّكُمۡ إِنَّهُۥ كَانَ غَفَّارَا (١٠) یُرۡسِلِ ٱلسَّمَاۤءَ عَلَیۡكُم مِّدۡرَارَا (١١) وَیُمۡدِدۡكُم بِأَمۡوَ الٍ وَبَنِینَ وَیَجۡعَل لَّكُمۡ جَنَّتٍ وَیَجۡعَل لَّكُمۡ أَنۡهَرَا (١٢)} سورة نوح . لو تأملنا معنى كلمة [يجعل] ، جاء في المعجم الوسيط [ جَعَلَ اللَّهُ الشيءَ جَعَلَ جَعْلاً: خلقهُ وأَنشأَهُ. وفي التنزيل العزيز: الأنعام آية 1{وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ } ](ص125) و أشار إلى ذلك أ.د مساعد الطيار في تفسيره لهذه الآية فقال :( {يجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا} أي كأنها تُصنع لكم هذه الجنات وهذه الانهار بقدرة الله سبحانه وتعالى ) . ( التفسير الصوتي لسورة نوح آية 12)
-33-
فتدل كلمة الجعل على الخلق على غير مثال سابق ، وهذا المعنى متكرر في سورة نوح ، قال تعالى {وَجَعَلَ ٱلۡقَمَرَ فِیهِنَّ نُورَا وَجَعَلَ ٱلشَّمۡسَ سِرَاجَا } آية 16 وكذلك قوله جل شأنه {وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ بِسَاطَا } آية 19.
كما يمكننا الإستشهاد في أن قوم نوح كانوا يبحثون عن الرزق بالتجول في الأرض والتنقل فيها، ولم يستقروا للزراعة، بأن نوح عليه السلام كان يُذكّرهم بنعم الله عليهم في جانب الرزق - وهي سنّة عند الأنبياء فكل نبي يعدد على قومه تنوع سبل الرزق عندهم - فلم يذكُر نوح عليه السلام إلا نعمه واحده :{وَٱللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ ٱلۡأَرۡضَ بِسَاطࣰا (19) لِّتَسۡلُكُوا۟ مِنۡهَا سُبُلࣰا فِجَاجࣰا } أي جعل لكم الأرض سهل منبسطه بها طرق واضحه تتنقلون فيها للبحث عن الرزق،ولم يذكر نعمة المزارع ولا تربية المواشي،مما يدل على أنهم لم يعرفوها ، وعندما عصوا وأصروا على الكفر كان دعاءه عليهم بما يوحي بطريقة عيشه -التنقل في الأرض- فقد قال:{وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى ٱلْأَرْضِ مِنَ ٱلْكَٰفِرِينَ دَيَّارًا} قال الطبري في تفسيره : [ويعني بالدَّيار: من يدور في الأرض، فيذهب ويجيء](23/307) ،
مما سبق يمكن أن نستنتج أن طُرق الزراعة وإجراء الأنهار لا يعرفها قوم نوح ، وقد وعد نوح عليه السلام قومه إن تابوا من الكفر واستغفروا بأن يُنشئ الله لهم المزارع ، ولكن قوم نوح أصروا على الكفر فعاقبهم الله بالطوفان، ولم يُعطوا علم الزراعة ، ثم جاء من بعدهم قوم عاد، فنجد أن نبيّهم هود عليه السلام أخذ يذكرهم بالنعم التي أنعمها الله عليهم :{ وَٱتَّقُوا۟ ٱلَّذِیۤ أَمَدَّكُم بِمَا تَعۡلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُم بِأَنۡعَم وَبَنِینَ (١٣٣) وَجَنَّتٍ وَعيُونٍ (١٣٤) } سورة الشعراء، قال ابن كثير في تفسيره [أَيْ: أَعْطَاكُمُ الْأَمْوَالَ وَالْأَوْلَادَ، وَجَعَلَ لَكُمْ جَنَّاتٍ فِيهَا أَنْوَاعَ الثِّمَارِ، وَخَلَّلَهَا بِالْأَنْهَارِ الْجَارِيَةِ بَيْنَهَا.](8/233)
فنستنتج من ذلك أن قوم عاد هم أول من بدأ بالزراعة وإجراء الأنهار أي الجداول الجارية على وجه الأرض إلى مزارعهم .
ثم بعد زيادة التصحر في منطقتهم وانخفاض مستوى مياه العيون ، إبتكروا فكرة القنوات المائية ، وكما هو معلوم أن الحاجة هي أم الاختراع ، فقاموا بحفر الأنفاق لمد المياه إلى مزارعهم وجناتهم ، فعلى هذا فالقنوات المائية ، هي فكره ابتكرها انسان الجزيرة العربية، ونقلت عنهم إلى الامم الأخرى .
ويؤيد هذا أن من مسميات القنوات المائية في وسط الجزيرة العربية [ القناة ] و [ الخرز ] ، ونجد هذا المسمى إنتقل إلى الأمم الأخرى مثل الفرس والترك والأكراد وغيرهم بنفس الإسم مع بعض التحريف، فهي تسمى عندهم : [ قناة ، كناة ، كوناة ، كانوت، خناة، كانيت ] وهذه المسميات من الواضح أنها تحريف من الكلمة العربية [ قناة ] وكما تسمى كذلك [ كارز ، كاريز، كهريز ، كهرز ، كاراز ، كاكوريز] وهذه المسميات مأخوذة من الكلمة العربية [ خرز ] ، وهذا يؤكد لنا أن فكرة القنوات المائية فكرة عربية بحته أخذتها منهم الأمم الأخرى.
وفي هذا المقطع يوضح لنا البرفسور العماني عبدالله الغافري مسيات الأفلاج -القنوات المائية - عند الأمم الأخرى :
كما يمكن الاستنتاج أن قوم عاد هم من قام باستئناس الإبل لأن الله ذكرها من ضمن النعم التي امتن الله بها عليهم فقال { أمدكم بأنعام وبنين } والأنعام عندما تطلق فإنه يقصد بها الإبل، أشار إلى ذلك الشيخ ابن عثيمين في تفسيره لهذه الآية فقال: [ والمعروف أنها للإبل فقط وفي الحديث «خَيْرٌ لَكَ مِنْ حُمُرِ النَّعَمِ» لكن إذا قيل: بهيمة الأنعام تشمل الثلاثة ] يقصد بالثلاثة: الغنم والبقر والإبل. (تفسير القران الكريم سورة الشعراء ص 238) وقال الراغب الأصفهاني في المفردات في غريب القرآن في معنى الأنعام :[ يعني الإبل ] إلى أن قال [النَّعَمُ مختصٌّ بالإبل و جمْعُه: أَنْعَامٌ، وتسميتُهُ بذلك لكون الإبل عندهم أَعْظَمَ نِعْمةٍ، ] (ص 815).
ويشهد لصحة هذا الإستنتاج ما أثبتته دراسة أجراها فريق بحثي من جامعة الملك فيصل وجامعة نتونغهام البريطانية وجامعة الطب البيطري في فيينا أن مصدر استئناس الإبل العربي هو الجزيرة العربية وذلك إعتمادا على نتائج المادة الوراثية .(DNA) (جريدة الرياض الاثنين 09 شعبان 1437 هـ)
ويمكن الإستشهاد على ذلك بخطاب هود عليه السلام لقومه: { ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها ۚ إن ربي على صراط مستقيم}(سورة هود 56) فقد يكون في هذه الأية إشارة إلى حال المخاطبين فإن كانوا سبقوا غيرهم بترويض نوع واحد من الحيوانات، فإن الله عز وجل قد أخذ بنواصي كل الحيوانات والداواب التي على وجه الأرض ولم يعجزه ذلك سبحانه عز وجل .
ذكر مايكل بتراجليا رئيس مشروع الصحارى القديمة، من معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري في ألمانيا، في مقابلة له مع دورية نيتشر مِيدِل إيست Nature Middle East: [قبل حوالي 5,000 سنة، بدأت الجزيرة العربية تتعرض للجفاف، لكن سكان الجزيرة العربية كانوا أذكياء جدًّا، فأقدموا على فعل أشياء جديدة ومبتكرة. بدأوا بإدخال الحيوانات المستأنسة وحتى النباتات المستأنسة في شؤونهم الاقتصادية، وشرعوا في حفر الآبار الجوفية، مما أتاح لهم البقاء على قيد الحياة في فترات الجفاف، أصبحت الحياة مختلفة جدًّا. بدأ الناس يستقرون في الواحات. وفي وقت لاحق، جاءت الجمال وأصبحت شديدة الأهمية، فقد سمحت للناس في الواحات بالتواصل والتجارة وتبادل البضائع فيما بينهم عبر الطبيعة القاحلة. هذه الصورة النمطية ليست لأكثر من بضعة آلاف السنين. إنها ليست صورة مغرقة في القدم. إنها طريقة حياة جديدة بدأت بالتشكل خلال العشرة آلاف سنة الماضية. أما ما قبلها فلم يكن هناك سوى صياد يجمع ] . لقراءة نص المقابلة أنقر هنا
ويمكننا الاستدلال أيضاً بقوله تعالى- عن عاد وحضاراتها - { التي لم يخلق مثلها في البلاد } ، ، فالخلق هو الإيجاد من غير مثال سابق ، فقوم عاد بحسب استنتاجنا السابق من الآيات القرآنية لم يسبقهم أحد على الزراعة وإجراء الأنهار و القنوات المائية واستئناس الإبل . وقد قدّر بعض الباحثين بأن قوم عاد عاشوا قبل 3000 سنة من الميلاد ، كما في الموسوعة العربية (ج 26 ،ص 238 ) ، وهذا التقدير موافق لتقدير العالم مايكل بيتراجليا لتاريخ التصحر في الجزيرة العربية ، وإن كانت هذه التقديرات ظنية وغير قطعية ، فهي لا تُعدم من مُعارض ، أو إستنتاج مخالف ، ولا أميل إلى الإعتماد عليها .
-34-
وهنا نتسأل هل في القرآن إشارة إلى أبرز المزروعات التي بدأ بها قوم عاد ؟
لعلي أصل إلى استنتاج محتمل وذلك باستعراض الآيات التالية :
قال الله عن قوم عاد : { وَٱتَّقُوا۟ ٱلَّذِیۤ أَمَدَّكُم بِمَا تَعۡلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُم بِأَنۡعَمٍ وَبَنِینَ (١٣٣) وَجَنَّـتٍ وَعيُونٍ (١٣٤) } سورة الشعراء
من هذه الآيات نستخلص أن النعم التي تتعلق بالزراعة عند قوم عاد هي الجنات والعيون ، بينما في نفس السورة وبعدها ب 14 آية ، عدّد الله تعالى النعم الزراعية لدى قوم ثمود -المتأخرين عن قوم عاد زمنياً - بقوله تعالى { فِی جَنَّتٍ وَعُیُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخلٍ طَلۡعُهَا هَضِيم (١٤٨) } فزاد الله قوم ثمود بالنخيل والزروع أي الحبوب ، فقد نستنتج من ذلك أن قوم عاد لتقدمهم لم يكتشفوا زراعة النخيل والحبوب ، وإنما عرفها من بعدهم أي قوم ثمود ، هنا يتبادر للذهن ما هي الجنات التي لدى قوم عاد إذا لم يكن عندهم النخيل و القمح ؟ بالنظر للقرآن نجد أنه يعبر عن الجنات ويقرنها دائما بالأعناب ، قال تعالى { وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ مَاء فَأَخۡرَجۡنَا بِهِۦ نَبَاتَ كُلِّ شَیءٍ فَأَخۡرَجۡنَا مِنۡهُ خَضِرَا نُّخۡرِجُ مِنۡهُ حَبّا مُّتَرَاكِبَا وَمِنَ ٱلنَّخۡلِ مِن طَلۡعِهَا قِنۡوَانٌ دَانِیَةٌ وَجَنَّتٍ مِّنۡ أَعۡنَابٍ وَٱلزَّیۡتُونَ وَٱلرُّمَّانَ مُشۡتَبِهَا وَغَیۡرَ مُتَشَـٰبِهٍۗ ٱنظُرُوۤا۟ إِلَىٰ ثَمَرِهِۦۤ إِذَاۤ أَثۡمَرَ وَیَنۡعِهِۦۤ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكُمۡ لأيتٍ لِّقَوۡمٍ یُؤۡمِنُونَ } قال تعالى { وَفِی ٱلۡأَرۡضِ قِطَعٌ مُّتَجَـٰوِرَاتوَجَنَّتُ مِّنۡ أَعۡنَـبٍ وَزَرۡعٌ وَنَخِیلٌ صِنۡوَانُ وَغَیۡرُ صِنۡوَانٍ یُسۡقَىٰ بِمَاۤءٍ وَ ٰحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعۡضَهَا عَلَىٰ بَعۡضٍ فِی ٱلۡأُكُلِۚ إِنَّ فِی ذَ ٰلِكَ لَـَٔایَـتٍ لِّقَوۡمٍ یَعۡقِلُونَ (4) } سورة الرعد ، فيُحتمل أن قوم عاد كان أغلب جناتِهم هي الأعناب ، وهذا يناسب الأمم السابقة التي لتو تتعلم فنون الزراعة ، فزراعة العنب بسيطة وسهلة بخلاف النخيل والقمح فهو يحتاج إلى جهد وعناية وملاحظة .
و يدل على صدق الاستنتاج أعلاه أن قوم فرعون لم يذكر القرآن في نعيمهم النخيل قال تعالى { كَمۡ تَرَكُوا۟ مِن جَنَّـتٍ وَعُیُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِیمٍ (٢٦) } سورة الدخان ، وكما هو مشاهد فمصر لا تشتهر بزراعة النخيل ، فالنخيل لديهم قليله وثمرها رديء .
وعلى صحة هذا الاستنتاج فسيكون أكثر الطعام النباتي لقوم عاد هو العنب سواء كان طازج أو مجفف أي زبيب ، وقد يفسر لنا هذا سر تميزهم عن غيرهم من الأقوام ، في أن الله زادهم بسطة في الجسم ، فالعنب كما يذكر أ.د جابر القحطاني يحتوي على الكالسيوم وهو مهم لقوة العظام وسرعة نموها للأطفال والكبار،
وكذلك يحتوي على عنصر البرون الذي يتناوله أبطال كمال الأجسام لتحفيز نمو كتلة العضلات وبقاءها .
كذلك قد يفسر لنا هذا كثرة الأبناء عند قوم عاد قال تعالى { أمدكم بأنعام وبنين } ، فبذور العنب قد تكون السبب الذي جعله الله تزداد به أعداد أبناءهم ، فتذكر أ.د ميساء الراوي أن الدراسات أثبتت أن تناول بذور العنب يزيد الإخصاب بشكل كبير ، وهو مقوي ومنشط للذكور والإناث على حد سواء .
[ للمزيد : أنظر موسوعة جابر لطب الأعشاب (2/ 357) ومقال له في جريدة الرياض عن البرون بتاريخ18-10-1431عدد 15435
بحث مقدم من أ.د ميساء محمد الراوي مقدم للهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة في رابطة العالم الإسلامي ، للإطلاع عليه أنقر هنا ]
إن فكرة القنوات المائية وجريانها تحت سطح الأرض يساعدنا في معرفة حقيقة تفسير آية في القرآن الكريم ،اختلف العلماء في تفسيرها وهي قوله تعالى مخاطبا أهل مكة { أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6){ سورة الأنعام
فقوله تعالى { وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم } وقوله { وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون } قد يكون إشارة للقنوات المائية التي تنقل المياه تحت الأرض إلى مزارعهم وقصورهم ، وهذا تفسير واقعي ومشاهد للآية وهو أولى من التفسير المجازي للآية ،وخصوصا أن فرعون قد ختم خطابه بقوله { أفلا تبصرون } فيدل ذلك على أن الأنهار التي تجري تحت قصره مشاهدة بالبصر وليس من باب التعبير المجازي ، الذي لجأ إليه بعض المفسرين كقولهم ( تجري الأنهار بأمري وتحت حكمي وتصرفي ) فهذا بعيد ، وقد أشار إلى أنها ( أنهار مشاهدة ) العالم إبراهيم البقاعي في نظم الدرر فقال في تفسيره لهذه الآية [ ﴿وهَذِهِ﴾ أيْ والحالُ أنَّ هَذِهِ ﴿الأنْهارُ﴾ وكَأنَّهُ كانَ قَدْ أكْثَرَ مِن تَشْقِيقِ الخُلْجانِ إلى بَساتِينِهِ وقُصُورِهِ، ونَحْوُ ذَلِكَ مِن أُمُورِهِ ] .(447/17) .
-35-
* الفلج قديما /
إن أصحاب هذه الحضارة العظيمة لا بد أنهم عاشوا في مدينة عظيمة هي أكبر مما هي عليه الأفلاج في السنوات المتأخرة، وهذا ما أثبتته المصادر القديمة، فقد وصفت الأفلاج بالسعة مما يثبت أنها أكبر بعشر مرات مما كانت عليه الأفلاج قبل مائة سنة :
1- كتاب صفة جزيرة العرب : قام بتقدير أطول المدن الرئيسية في الجزيرة العربية بالدرجات، وبالاطلاع على هذا التقدير سيتضح حجم الأفلاج إذا قارنتها بالعواصم السياسية والدينية في الجزيرة العربية :
المدينة
الطول
العرض
عدن
117
12
صنعاء
118
14.5
الأفلاج
115.5
18
مكة
120
20
المدينة
118
24
هنا تتضح لك مساحة الأفلاج قديما فهي تقارب هذه المدن وتتفوق على بعضهن في العرض .
2- ذكر ياقوت الحموي أن طول الأفلاج : أربعة فراسخ وعرضها كذلك ، والفرسخ طوله تقريبا 5كلم فتكون الأفلاج طولها 20كم وعرضها20 كم.
3- إذا قارنا بين ما ذكره الهمداني ت 335هـ عن سوق الأفلاج العظيم وما ذكره فيلبي، فقد ذكر الهمداني أن به أربعمائة حانوت ( أي متجر ) (ص160) بينما ذكر عبدالله فيلبي عند زيارته الأفلاج بعده بألف سنة أي عام 1336هـ أن فيها ثلاثة وأربعين متجراً (ص112) أي عـُـشر ما كان سابقا.
إن من زار الأفلاج وتجول في نواحيها يجد فيها ما يدل على ماض حضاري عظيم له عمق تاريخي فريد يتجسد في بقايا آثار القصور الشامخة، والقنوات المائية العملاقة، سواء كانت الزيارة قديمة أو حديثة :
ذكر ناصر خسرو عند زيارته للأفلاج عام 443هـ قال: [ وتقع فلج هذه وسط البادية ، وهي ناحية كبيرة ، ولكنها خربت بالتعصب ].(سفرنامة 139)
ذكر فيلبي في كتابه قلب الجزيرة العربية نقلا عن أمير الأفلاج سعد بن عفيصان - من أهالي الخرج - [ وقال لي الأمير عندما جلسنا معاً في أمسية اليوم الثاني من أقامتنا ، وكنا على السطح في قصر الشيوخ : "ما رأيك في هذه البلاد ؟ ألم تكن غنية في عهود مضت ؟ ألن تعود كما كانت مرة ثانية إذا أراد الله ؟"] .(120/2)
بعد أن تجول عبدالله فيلبي في الأفلاج وشاهد آثارها القديمة و قنوات الري العظيمة التي تجري الأنهار فيها من تحت سطح الأرض ، رجّح أن العرب لا يمكن أن يبنوا مثل هذه الحضارة العجيبة فقال : [رغم أننا لا ندري من كانوا سكان الأفلاج القدماء، لكن الآثار المتبقية حتى يومنا هذا من الأعمال اليدوية تجعل الاحتمال الأكبر أنهم لم يكونوا من سلالة عربية، وأن أرومتهم التي انفصلوا عنها ليستعمروا أجزاء في عمق الجزيرة العربية كانت ذات حضارة أعظم من كل الحضارات التي سادت حينذاك بين الجماعات المختلفة في الجزيرة العربية ](149/2) إلى اخر ما قاله ، وقد رشح في تحليله أن من أنشئ هذه الحضارة العظيمة في الأفلاج ليسوا من العرب وذلك لِعظم هذه الحضارة !! ، ورجح أن يكونوا الفرس هم من أنشأها ، وأخطأ فيلبي في هذا الإستنتاج ، فالفُرس لم يُذكر على مر التاريخ أنهم إحتلوا وسط الجزيرة العربية نهائياً .
-36-
والصحيح أن من أنشأ هذه الحضارة العظيمة هم أهل هذه الأرض وسكانها العرب الأصليون أخبر عنهم القرآن الكريم في مواضع عديدة ، وأخبر أن خلقهم وقدراتهم وبلدانهم لم يخلق مثلها في البلاد فما وجد عند غيرهم مشابه لما هو عندهم ، وقد نُقل عنهم وليس العكس، وأن المتأخرين لم يبلغوا معشار ما آتاهم الله من القوة والعلم فقال الله تعالى عن أهل مكة : { وَكَذَّبَ ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡ وَمَا بَلَغُوا۟ مِعۡشَارَ مَاۤ ءَاتَیۡنَـٰهُمۡ فَكَذَّبُوا۟ رُسُلِیۖ فَكَیۡفَ كَانَ نَكِیرِ }سبأ 45 ، جاء في التفسير الميسر :[وكذَّب الذين من قبلهم كعاد وثمود رسلنا، وما بلغ أهل «مكة» عُشرَ ما آتينا الأمم السابقة من القوة، وكثرة المال، وطول العمر، وغير ذلك من النعم، فكذبوا رسلي فيما جاؤوهم به فأهلكناهم، فانظر -أيها الرسول- كيف كان إنكاري عليهم وعقوبتي إياهم ؟ ] (ص433)
جاء في تفسير السعدي : [نبههم على السير في الأرض والنظر في عاقبة الذين كذبوا رسلهم وخالفوا أمرهم ممن هم أشد من هؤلاء قوة وأكثر آثاراً في الأرض من بناء قصور ومصانع ومن غرس أشجار ومن زرع وإجراء أنهار، فلم تغن عنهم قوتهم ولا نفعتهم آثارهم حين كذبوا رسلهم الذين جاءوهم بالبينات الدالات على الحق وصحة ما جاءوهم به، فإنهم حين ينظرون في آثار أولئك لم يجدوا إلا أمما بائدة وخلقا مهلكين ومنازل بعدهم موحشة وذم من الخلق عليهم متتابع. وهذا جزاء معجل نموذج للجزاء الأخروي ومبتدأ له] (ص637)
* مدينة وبار عند العرب ، وعلى خارطة بطليموس /
تناقلت العرب الأقوال عن مدينة غنية وعظيمة ولكنها مجهولة الموقع تسمى وبار، وذكروا أنها كانت لقوم عاد، جاء في لسان العرب لـ ابن منظور:[ وَبارِ مِثْلُ قَطام: أَرض كَانَتْ لِعَادٍ غَلَبَتْ عَلَيْهَا الْجِنُّ، ] ( ج 5 ، ص 273 ) ، وجاء ذكرها في كتاب معجم ما استعجم لـ أبي عبيد البكري : [ قال الخليل : وبار كانت محلّة عاد ...] (ج 4 ، ص 366)
ذكر المتنبي في بيت شعر أن إرم سكان مدينة وبار فيقول :
الراجع الخيل مُرمْاةَ مقوَّدةً *** من كل مثلٍ وبار أهلها إرم
والعرب تضرب المثل بطريق وبار، لمن أضاع الطريق أو المنهج ، قال الفرزدق :
ولقد ضللت أباك يطلب دارما *** كضلال ملتمس طريق وبار
لا تهتدي أبداً ولو بعثت به *** بسبيل واردة ولا آثار
إلا أننا نجد بعض الصفات لها عند بعض الجغرافيين والشعراء : قال عنها ياقوت الحموي في معجم البلدان : [ وكانت أرض وبار أكثر الأرضين خيراً وأخصبها ضياعاً وأكثرها مياهاً وشجراً وثمراً فكثرت بها القبائل حتى شحنت بها أرضهم وعظمت أموالهم فأشروا وبطروا وطغوا وكانوا قوما جبابرة ذوي أجسام فلم يعرفوا حقّ نعم الله تعالى] ( ج5،ص357)
وبكثرة نخيلها يضرب بها المثل فيقول النابغة /
فتحملوا رحلاً كأن حمولهم *** دوم ببيشة أو نخل وبار
ثم نجد الشاعر الجاهلي بشر بن أبي خازم الأسدي الذي توفي قبل الهجرة ب 32 سنة يصف وبار بأنها من ديار بني عامر :
فإذا جمعنا الأوصاف الثلاث: أنها ديار ذات نخيل عظيمة ومياه كثيرة ومن ديار بني عامر، نجد أنها تنطبق على منطقة الأفلاج، وإذا أخذنا ما ذكره المتنبي من أن وبار أهلها إرم فإن الأفلاج هي موطن عاد.
وقد تنافس الكثير من المستشرقين في تحديد مكان وبار، المشهورة بغناها وكثرة الذهب فيها وعظمة بنائها، فـ اجتهد الرحالة الغربيون في تحديد موقعها، منهم برترام توماس وفيلبي، وويليفرد ثيسجر، وغيرهم من المستشرقين وقد اعتمد الكثير منهم على خارطة بطليموس .
-37-
وبار في خارطة بطليموس:
في عام 125 م رسم الجغرافي الإغريقي كلوديوس بطليموس خارطة للعالم في وقته ، وتعتبر أول خريطة فعلية يمكن الاعتماد عليها ، وقد ذكر فيها تفاصيل نادرة لجزيرة العرب وأسماء مدنها ومعالمها الجغرافية، وهذا الاهتمام القديم دليل على القيمة التاريخية للجزيرة العربية في وقته ، ويعتبرها العلماء أثمن خريطة للجزيرة العربية لأنها تعطينا البعد التاريخي للجزيرة العربية قبل 1900 سنه .
حاول العلماء والمستشرقون استخراج أسماء المدن والقبائل منها: ولكن لقدمها وتعاقب النُساخ عليها ، فيحصل مع كل نسخة لها خطأ ،فقد يزيد حرف أو ينقص أو يتغير إلى حرف آخر، إضافة إلى أن من كتبها إغريقي، فمؤكد أن الأسماء المذكورة فيها قد دخلها الخلل إما بزيادة أو نقص، ولاحتمال وجود أخطاء في الترجمة اكتفى العلماء بتشابه ولو حرفين من اسم المدينة لإثبات موقعها، وهو اجتهاد قابل للصواب والخطأ ومن اجتهاداتهم في ذلك على خارطة بطليموس :
الإسم بالعربي
مايقابله في خريطة بطليموس
قبيلة جديس
Jodisitae
ثمود
Thamudaei
عــك
Akkitai
عوبال
avalites
مدينة تاروت
tahr" أو "taro" أو "ithar"
مدينة جرها التاريخية
Gerra أو garraei أو Gerrei
مما سبق نجد التسامح الكبير من العلماء في التعامل مع الخريطة.
[ أنظر المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام لـ أ.د جواد علي (1/ 339) ،(1/ 325) ،(42/2)،(344/1)، (176/1) ،(17/3) ]
وهذا التباين في ضبط الأسماء عند ترجمتها من لغة إلى أخرى أمر معروف عند العلماء ، فقد نبه إليه ابن خلدون في تاريخه،عندما تحدث عن ترجمة أسماء الأنبياء والمواضع من التوراة إلى العربية : [واعلم أنّ الخلاف الّذي في ضبط هذه الأسماء إنّما عرض في مخارج الحروف فإنّ هذه الأسماء إنّما أخذها العرب من أهل التوراة ومخارج الحروف في لغتهم غير مخارجها في لغة العرب، فإذا وقع الحرف متواسطا بين حرفين من لغة العرب، فتردّه العرب تارة الى هذا وتارة الى هذا. وكذلك إشباع الحركات قد تحذفه العرب إذا نقلت كلام العجم، فمن هاهنا اختلف الضبط في هذه الأسماء](2/7).
وفي عام 1992م أعلن المخرج الأمريكي نيكولاس كلاب تحديد مدينة أوبار ، وأنها في دولة عمان شمال صلالة ب 175كلم، واستشهد على ذلك بخريطة بطليموس، فذكر أنها هي المدينة المكتوبة في الخريطة بهذا الاسم ( Iobaritae )، هذا الخبر كان له بُعد إعلامي كبير بين وكالات الأنباء الغربية وتناقلته القنوات الفضائية والصحف الأجنبية، فهو حدث عظيم يستحق التغطية الإعلامية الكبيرة التي نالها، ولكن مع مرور الوقت وزيادة البحث وزيارة العلماء والباحثين للموقع، وجد الجميع أن ما قيل لهم أنها مدينة وبار العظيمة، ما كان إلا عبارة عن قلعة مبنية على جرف صخري ، وتحت الجرف مصدر مائي صغير لا يكاد يكفي القلعة، وأن ما تم اكتشافه لا يرتقي أن يطلق عليه مسمى مدينة بل كان مجرد محطة من محطات طريق اللبان والبخور الخارج من ظفار المتجه إلى الأفلاج ثم إلى اليمامة.
هنا دار في ذهني تساؤل : هل مدينة الأفلاج قد ذكرت في خريطة بطليموس بما يقارب كلمة أوبار؟ فشرعت في البحث عن نسخة معتمدة للخريطة، وبعد الحصول عليها بحثت فيها ، فتوصلت إلى أن مدينة ليلى مذكورة في الخريطة ، وبجوارها مدينة باسم ( labaris )
-38-
فقد تكون مدينة أوبار وذكرت بإسم ( labaris ) وقد وضحنا منهج العلماء والمستشرقين في قراءة خريطة بطليموس حيث يكتفى فقط بتشابه حرفين وسقنا الأمثلة على ذلك ، فكلمة LABARIS المقصود بها أوبار ، وأما مدينة ليلى : ففي الرأي السائد أنها سميت على ليلى العامرية، إلا أن هناك رأياً كما وضحناه سابقا أنها مشتق من الليل، فعلى ذلك فمدينة Bliulei المقصود بها ليلى وحرف B الذي في الأول زائد من الناسخ أو من تغير اللغات والترجمة، وهذا دفعني إلى الاستزادة في البحث من خلال عرض ما وجدته على أحد المهتمين باللغات القديمة والترابط بينها وهو د . زيدان جاسم من جامعة القصيم فكان جوابه :
[ أن اللام في لبارس هي ال التعريف العربية حذفت همزتها وبقيت لامها. والسين علامة تذكير أو تأنيث، وعلى هذا الاساس فالجذر هو "بار" عن اوبار العربية بحذف أو، وأما الأخرى فباؤها زائدة كما تقول عن ليلى العربية ، وعلى كل حال فبمقارنة أسماء الأماكن العربية في المنطقة المذكورة مع اليونانية يمكن للباحث الجزم بما يذهب إليه، والمعروف أن الاوربيين يحرفون الأسماء العربية كثيرا جدا والتي يصعب ربطها بالعربية فورا في البداية ولكن التبصر في الأمر يسهل ذلك ].
بعد البحث عن شواهد أخرى تاريخية في موضع مدينة وبار وجدت أحدها في قصة أصحاب الرس، فقد ذكر الطبري في تاريخه قصة لهم، أنهم شاركوا في معركة، وعندما انهزموا فروا إلى مدينة وبار، واحتموا بها، فيدل ذلك على أن أهل الرس كانوا يسكنون مدينة وبار، لذلك فروا إليها، انظر تاريخ الطبري (ج1 ، ص560).
وقد ذهب أكثر المفسرين أن أهل الرس كانوا يسكنون الأفلاج، قال ابن عاشور عن أصحاب الرس : [والأكْثَرُ عَلى أنَّهُ مِن بِلادِ اليَمامَةِ ويُسَمّى فَلْجًا ] (التحرير والتنوير ج19، ص28).فنستنتج مما ذكره الطبري والمفسرون أن مدينة وبار تقع في الأفلاج .
والعجيب أن ابن جرير الطبري ذكرها في بعض النسخ، بهذا الاسم (لبار) وهذا الاسم يوافق الاسم الذي ورد في خريطة بطليموس، فيبدوا أنها يطلق عليها [وبار ] وَ [ لبار ] أو أن اسمها كان لبار ثم خُفف إلى وبار.
-39-
كما توجد خريطة رسمها العالم الألماني هاينريش كيبيرت (1818-1899) أستاد جامعة برلين للجزيرة العربية ، واستند في رسمها على كتاب (الجغرافيا وعلاقتها بالطبيعة وتاريخ البشرية) ،للعالم الألماني كارل غيورغ رِتَر ( 1779-1859) وتحتوي هذه الخريطة على ثروة من المعلومات الجغرافية والتاريخية ، والمثير فيها أنه تم تحديد موقع مدينة وبار بالقرب من موقع منطقة الأفلاج وبعيداً كل البعد عن المنطقة ما بين عمان وحضرموت .
وكان برترام توماس قد توصل إلى طرف الطريق المؤدي إلى وبار - من جهة عمان - أثناء رحلته في الربع الخالي يقول : [ وفجاءة صاح الرفاق الذين كانوا حريصين في كل مره إلى شد اهتمامي إلى أي شيء يعتقدون أنه يهمني ، صاحوا : أنظر أيها الصاحب تلك هي الطريق إلى أوبار . وسألتهم: ماهي أوبار؟ فردوا بأنها أحدى المدن العظيمة كما يروي أباءهم، وقد كانت مدينة مزدحمة في الزمان الماضي، وكانت تزخر بالرخاء والثراء ومزارع النخيل ، وكانت فيها قلعة ذهبية . ] كتاب البلاد السعيدة ص 224
وبالتمعن في هذا النص نجد أن البدو قد أشاروا إلى طريق قديم في الربع الخالي ، ويهمنا نقطتين : 1- أن أجدادهم أخبروهم أن هذا الطريق يؤدي إلى وبار . 2- أن وبار تشتهر بالنخيل . أما المعلومة التي ثبت خطأها لاحقا : أنها مدينة مدفونه في الرمال .
ولم يكمل الطريق برترام توماس لمصاعب واجهتها القافلة ، ثم نجد فيلبي يُعلق على هذا الطريق فيقول : [ وإذا حكمنا على هذه المسارات من حيث اتجاهاتها ، فإنها ستقود بالطبع إلى منطقة الأفلاج التي كانت مهمه ومزدهرة فيما مضى ، وكانت تشكل سوقاً رائجا لمنتجات غابات قارا من البخور .] . 213
وقد استولت على فيلبي وبرترام توماس فكرة خاطئة أن وبار مدفونه في الرمال ، ولو استطاعوا التخلص منها ، لاكتشفوا أن هذا الطريق بالفعل يؤدي إلى وبار كما قاله الأجداد ولكنها لا تقع في المنتصف - في الرمال - بل في نهاية الطريق وهي الأفلاج التي تشتهر بالنخيل وبالتجارة كما هي صفات وبار التاريخية.
وأما القول بأن الربع الخالي كان مستوطن قديما وأن مدينة وبار مدفونه فيه ، فهذا مخالف لنتائج البحوث القديمة والحديثة يقول فيلبي - بعد نهاية رحلته في الربع الخالي -: [ فإنني قد توصلت في ضوء أبحاثي التي أجريتها حتى اليوم وما تمخضت عنه تجاربي في هذه الصحاري ، إلى أن احتمال وجود خرائب قديمة في أي مكان من الربع الحالي ضئيل جداً . وأظن أن هناك مبرراً لاستنتاج آخر مفاده بأن الربع الخالي بمعناه الواسع لم يكن بأي احتمال مناسباً للاستيطان البشري - باستثناء الرعاة - منذ وقت طويل سابق للحضارة الإنسانية ، ولابد أن عملية الجفاف كانت قد بدأت وتوقفت الأنهار الكبيرة عن الجريان قبل فجر التاريخ الجاد ] كتاب الربع الخالي ص ٢٣٢
وجاء في كتاب ( الربع الخالي بحر الرمال العظيم ) الذي أصدرته هيئة المساحة الجيولوجية بالمملكة العربية السعودية مانصه :[ تدل الأدوات الحجرية وأدوات الصيد التي عُثر عليها قرب مواقع البحيرات الجافة في الربع الخالي على أن الإنسان قد عاش في هذه المنطقة قديماً حول تلك البحيرات ؛ حيث كان يعتمد على صيد الحيوانات التي تعيش قرب تلك البحيرات ، إلا أنه لم يعثر أو يكتشف
-40-
حتى الوقت الحاضر أي موقع استيطاني قديم داخل رمال الربع الخالي ، عدا بعض الأدوات الحجرية التي كان يستخدمها الإنسان في صيد الحيوانات وغيرها حول مواقع البحيرات القديمة ؛ مما يدل على أن الإنسان لم يستوطن الربع الخالي في تلك العصور ، بل كان يصيد فيه ويعود إلى مراكز الاستيطان لبعض الممالك الواقعة على أطرافة ]. (ص75)
وكذلك أوضحت ذلك شركة أرامكوا العملاقة وهي التي نقبت جميع الربع الخالي للبحث عن مكامن البترول والغاز، فقد أشارت إلى أنه وعلى مدى بحثها الطويل لم تجد أي أبنية أو أعمدة أوما يشير إلى وجود مدينة مدفونه في الرمال ، نقل ذلك عن المسؤولون في أرامكوا د.عيد اليحيى في الفيلم الوثائقي [ إرم ذات العماد] .
* مقابر عيون الأفلاج الأثرية :
يقع جنوب شرق عين الرأس بنصف كيلوا تقريبا ، مقبرة أثرية قديمة تغطي ما مساحته أربعة كيلو متر مربع ، وقد قام العالم الأمريكي يوريس زارينس ومجموعة من الباحثين بمسحها عام 1398هـ ونُشر بحثهم في دورية أطلال العدد الثالث عام 1399هـ ، و قاموا بشرح ما اكتشفوه في هذه المقبرة النادرة ، فقد وجدوا أنها تظهر من الخارج وكأنها عبارة عن ركام من الحجارة ، كالمقابر الركامية الأخرى المنتشرة في الجزيرة العربية ، ولكن بعد إزاحتهم للحجارة وجدوا مدخل منحوت إلى باطن الأرض بعمق مترين ونصف ، وبه ما يشابه الدرج صغير تستطيع النزول من خلاله إلى الأسفل ، وبعد إزاحة الرمال وجدوه يؤدي إلى غرفتين متتاليتين منحوتة في الحجر الجيري ، وقد وجدوا فيها بقايا عظام آدمية وكسر فخار ، وهذا هو المخطط الغرف :
-41-
.
في عام 1409هـ قام د. عبدالله السعود بدراسة الموقع في رسالته لنيل درجة الدكتوراة عن عيون الأفلاج، ومن الجوانب التي بحثها قام بالتنقيب في هذه القبور ، وخرج بمجموعة من النتائج، منها أن القبور فيها نوعان : قبور ركامية معتادة مثل ما هو موجود في الفاو وغيرها، وقبور نادرة منحوتة كالغرف أسفل الأرض، وهذا النوع ذكر أنه لا يوجد له نظير في جزيرة العرب، فهي فريدة من نوعها ، وأن أقرب ما يشابهها بعض القبور الموجودة في أريحا فلسطين و في جزيرة قبرص ، وتاريخ هذه المقابر المشابهة لها تعود للعصر البرونزي المبكر اي قبل 3000-2300 سنة قبل الميلاد تقريبا، أما مقابر عيون الأفلاج فلم يذكر تحديد تاريخها، ويعتقد أنها أقدم من ذلك، ولم يستبعد أن تكون مدفن لأمة قديمة وتكرّر الدفن فيها من الأمم اللاحقة.
نستنتج من الدراسات السابقة أن هذه المقابر تم صنعها عن طريق النحت كما هو الحال في مقابر قوم ثمود المنحوتة في مدائن صالح، فهذا وجه شبه في بناء المقابر وهناك وجه شبه آخر مشترك بينهم هو شق القنوات المائية في منطقة الحجر في العلا وفي منطقة العيون في الأفلاج ، وبالرجوع إلى ما ذكره بعض المؤرخين أن ثمود هم بقية قوم عاد، وما ذُكر في القران بأن الله امتن على قوم عاد وقوم ثمود بالعيون (الشعراء آية 134 ، و 147) فهذا دليل على الترابط بين المنطقتين والتاريخ المشترك بينهم ، ودليل قوي يضاف إلى ما سبق على أن الأفلاج هي الأقرب بأن تكون موطن قبيلة عاد .
ومما يشير إلى أن قوم عاد يُعرف عنها النحت في باطن الأرض قصيدة قالها ابو النجم العجلي ومنها هذه الأبيات :
ومن المقابر والمدافن الأثرية مدافن أخرى شرق بلدة البديع تحتوي على مئات القبور الركامية ، ويوجد مدفن ثالث به عشرات القبور الركامية المتفرقة ويقع عند بداية القنوات المائية المتجهة لساقي آل ناهض شمال الطريق المسفلت، وقد أرشدني إلى هذين المدفنين الأثريين الأستاذ راشد مسفر بن عموش الصخابرة .
كما تجدر الإشارة أن هذه المقابر والمدافن النادرة لم تأخذ حقها في التنقيب والبحث العلمي، فقد توقف البحث فيها قبل أكثر من ثلاثين سنة ، فلا يوجد لها من التقارير سوى بضع صفحات منشورة في مجلة أطلال من تقريرالعالم الأمريكي زارينيس ورفاقه ، وأما رسالة د. عبدالله السعود فقد كتبها باللغة الإنجليزية كونها مقدمة إلى جامعة أدنبرة في بريطانيا ولم تطبع ، وكذلك لم تترجم ليستفيد منها الباحثون ويمكن الاطلاع عليها من موقع جامعة أدنبرة من خلال الربط التالي :
إن كل من يزور هذه القصور الأثرية يحتار في تفسير سبب بنائها وفائدتها الوظيفية، وهذه أبرز التفسيرات لها :
1- يشير فيلبي إلى أنها مدافن قديمة وذلك خلال زيارته الثانية للأفلاج عام 1949م (انظر لتقريره هنا ) ، ويتفق مع فيلبي في ما ذهب إليه الباحث الأستاذ حميد بن مبارك الدوسري، فقد أخبرني أنه يعتقد أن قصيرات عاد تشير إلى مقابر تحتها، مثل ما هو موجود في قرية الفاو، وذكر لي قصة : أن أحد المقاولين في عهد الملك فيصل رحمه الله قد أخذ مناقصة لتركيب مضخة مياه على أحد أبار قرية الفاو ،وأثناء مرور سيارته بالقرب من البئر هبط جزء من الأرض، فشاهدوا تحت الأرض مدفناً جماعياً أشبه بالقبو الكبير مليء بعظام الموتى .
قلت : قد تكون مشابهه للمقابر الملكية في قرية الفاو ، مثل قبر الملك معاوية بن ربيعة ملك قحطان ومذحج ، وخصوصا أن أحد لصوص الآثار قام بحفر أحد الركام الضخم القريب من قصيرات عاد فوجد أسفله حفره منحوته في الصخور تشابه القبر .
وهذه صوره للموقع اُلتقِطت بعد عملية النهب بفتره بسيطة ، وقبل أن تبدأ الرمال في دفن الموقع ، وتلاحظون العمق الكبير للتجويف :
-43-
2- قيل أنها هي البتيل الذي كانت تبنيه طسم وجديس و قد تكون فائدتها أنها تستعمل كأبراج للمراقبة، وذكر ذلك الهمداني فقال عن خضراء حجر [ وهي حضور طسم وجديس وفيها آثارهم وحصونهم وبتلهم الواحد بتيل وهو مربع مثل الصومعة مستطيل في السماء من طين قال أبومالك: لحقت منها بناء طوله مئتا ذراع في السماء قال وقيل كان منها ما طوله خمسمئة ذراع من أحدها نظرت زرقاء اليمامة إلى من نزل من جوّجان من رأس الدام مسيرة يومين وليلتين ] (صفة جزيرة العرب ص 140 ،141 ).
وهذه الصفات متوافقة مع قصيرات عاد فهي مربعة الشكل ، وعرض جدارها أكثر من 3م وضخامة القاعدة قد تكون من دلائل الارتفاع بحيث تناقص عرض الجدار كلما ارتفع البناء أي أنها كانت مرتفعة بشكل أكبر مما هي عليه الآن، وكذلك وجود الركام الكثير على جوانبها من الداخل والخارج، وهذا الرأي رجحه د. عيد اليحيى ، ونشر رسماً تخيلياً لها وهي بارتفاع عالٍ مثل ما وصفها الهمداني .
-44-
3-أنها مبنية للعبادة : ذكر العلامة حمد الجاسر في كتاب الرياض عبر أطوار التاريخ ص54 : [ويرى بعض الباحثين أن كلمة (بتيل) مكونه من كلمتين : (بت ) بمعنى (بيت) ، و (أيل) بمعنى ( الله ) ، فيكون المعنى بيت الإله ] ، ومن يزور هذه المباني المُحيرة لا يجد لها أبواب، فقد يكون ذلك متعمداً، لأنها بيت للإله .
وهذه المباني المحيرة كثيرة في هذا الموقع إلا أن أغلبها الآن أصبحت ركاماً ضخمة ومرتفعة عن سطح الارض ، ومن يشاهدها يظن أنها تلال طينية ، وعند الاطلاع على صوره بالأقمار الصناعية تشاهد ما يشبه بقايا مباني آثريه بالقرب منها .
والجزم بحقيقة هذه المباني يحتاج إلى دراسة ميدانية وأجهزة كشف متطورة لما يمكن أن يكون تحت سطح الأرض،و من فريق مختص في الآثار، لبحث وضيفة هذه المباني وهيئتها وكشف ما بداخلها وتحليل عمره الزمني فقد يكون ما أسفل الأرض أكثر عمراً وقدماً مما هو ظاهر فوق سطح الأرض، فتكون حضارة بنيت على أنقاض حضارة ، لأن صور هذه القصيرات بالأقمار الصناعية توحي أن حواليها أساسات مبانٍ مطمورة تحت الأرض ، وقد ذكر د.عبدالله السعود أنه عندما حفر أحد الأساسات حول عيون الأفلاج ، لم يصل إلى التربة التي بُني عليها إلا بعد أن تجاوز الحفر الثلاثة أمتار .(ص119).
وأما التاريخ الذي وضحته نتائج تحليلات الكربون المشع لبقايا الحيوانات والفحم من جدران هذه المباني وأنها تعود إلى 2800 سنة من الوقت الحالي ، فهذا يؤكد أنها لأحفاد قوم عاد ، وهم قوم جديس فقد ذكرت المصادر القديمة أن جديس حي من عاد ، وقد سكنت في مساكن أسلافهم من القبيلة الأم .جاء في تهذيب اللغة للأزهري [قَالَ اللَّيْث: جَدِيسٌ: حَيٌّ من عَرَبِ عادٍ الأولى، وهم إخْوَةُ طَسْمٍ، وَكَانَت مَنازِلُهُمْ اليمامَةَ] .
وختاماً : من خلال الشواهد التي أوردتها من الكتاب والسنة ومن المراجع والكتب والدراسات والبحوث والواقع الميداني والمقارنات الجغرافية والثوابت الشعرية والخرائط الإغريقية يمكن أن نقول أنه بمجموع ما تقدم أن الأفلاج هي الأقرب أن تكون موطن قوم عاد وأن منطقة العيون بقنواتها ومجاريها العملاقة ومبانيها الضاربة في قدم الزمان والسوق العظيم وغيرها من الآثار الغير ظاهرة هي التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ووصفها الباري جل شأنه لم يخلق مثلها في البلاد، والله أعلم .
-45-
لفتة ختامية عن عيون الأفلاج :
زار أ.د.عبدالعزيز الغزي عيون الأفلاج عام 1426هـ فكتب مقالاً نشره في جريدة الرياض ترجم جميع ما تكنه صدورنا تجاه هذه العيون وآمالنا تجاهها ، فقال [ يجب أن تكون العيون أكرم منا، فكم من جيل وراء جيل اعتمد على مياه تلك العيون، وكم من زرع قام على مياه تلك العيون؟، وكم قطيع بإثر قطيع شرب من ماء تلك العيون؟ وكم من منزل شيد باستخدام ماء تلك العيون، فطينه خلط بمائها وبنّاؤه شرب من مائها وزاد فريق البناء طبخ بمائها، وكم من إنسان ورد وارتوى من ماء تلك العيون؟، وكم من قافلة وقفت وتزودت بماء تلك العيون؟، وكم وكم وكم؟ فهذا هو الكرم المتعدد ويجب إلا يقل كرمنا عنه.. فيجب أن نحافظ على تلك العيون، فلا يزال هناك طير يريد أن يشرب، ولا يزال هناك حيوان يريد أن يرتوي، ولا يزال هناك إنسان يريد أن يعيش.. فهل نكون كرماء ونسعى بإعادة العيون إلى حالها.
-46-
وبعد أن فكرت وجدت أن حالنا مع تلك العيون تشبه حال ابن لوالدته عاق، فهي قدمت الكثير من أجله، كادت أن تموت ليحيا، وسهرت لينام، وجادت بما تملك ليسعد.. أما هو فيعترف لها بالقليل، فإن طلبت تذمر، وإن ضجرت انفجر، وإن توجعت هرب.
فهل هناك مجال لاستصلاح تلك العيون، أو إعادة تأهيلها من جديد، أو المحافظة على أشكالها، أو ضخ مياه فيها، أو البحث عن قنواتها الباطنية وإعادة تأهيلها.. أملنا بالهيئة العليا لحماية البيئة وأمينها كبير، وأملنا بالهيئة العليا للسياحة وأمينها كبير، وأملنا بالله فوق كل أمل، فعسى أن يُسخر لتلك القنوات من يعيد إليها جزءاً من ديْنها فقد أعطتنا وأعطت أسلافنا الشيء الكثير، يشابه ما تعطي الأم لوليدها، فعسى أن لا نكون من العاقين.] (العدد13731تاريخ 27-12-1426)
وصلنا لنهاية البحث ، فإن وفقت فهو بتوفيق من الله وحده وإن كان هناك قصور فأرجو أن اوفق مستقبلا في اكماله وابرازه بصورته الصحيحة او أن يقيض الله له من يكمل ما بدأته، فما ذكرته سابقا ليس إلا بداية، والله سبحانه ولي التوفيق.
وفي الختام أشكر الله تعالى أن وفقني ويسر لي هذا البحث ، ثم أشكر كلا من :
والدي الأديب سعد بن ثلاب السبيعي
والأستاذ عبدالمحسن بن محمد القباني
والأستاذ عبدالعزيز بن محمد المفلح
والأستاذ شايع بن راشد آل حبشان
الذي أستفدت كثيراً من أراءهم وتوجيهاتهم وتصويباتهم ، فلهم مني وافر الشكر والتقدير .
كما أشكر كل من ساعدني ميدانيا في الدلالة على المواقع الأثرية وهم :
الأستاذ راشد بن مسفر بن عموش الصخابرة
و الاستاذ صويان بن مسفر بن عموش الصخابرة
والاستاذ سعيد بن محمد بن سعد آل شريد
والاستاذ عبدالله بن محمد الدماعين
وأشكر موقع تدارس القرآن على إستضافته لهذا الموضوع ، كما أشكرهم كذلك على هذا الموقع الرائع لتدارس القرآن والذي أبدعوا في فكرته ، فكل آية من القرآن تجد لها الكثير من مقاطع الفيديو لتفسيرها و 26 كتاب في التفسير ، فضلا عن الالاف التدبرات والأسرار البلاغية في الآية ، وبلا شك إستفدت من هذه الإمكانيات الجبارة التي أتاحها الموقع للمستخدمين ، لذلك أنصح بتحميل تطبيقهم والمتوفر بنسختين للأيفون والأندرويد من على هذا الرابط
التعليقات
إضافة تعليق