عرض وقفة التدبر

  • ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنجِيلُ إِلَّا مِن بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴿٦٥﴾    [آل عمران   آية:٦٥]
يقول الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: "بيان الاحتجاج بالعقل؛ لقوله: ﴿ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65]، فكيف تحاجُّون به مع أن التوراة والإنجيل لم تنزل إلا من بعده؟! وهذا خلاف العقل، ويتفرع على هذه الفائدة: أنه لا ينبغي إهمال العقل في الاستدلال، كما لا ينبغي الاعتماد عليه وترك النص؛ فالناس في الاستدلال بالعقل طرَفان ووسط: طرف غلا فيه حتى قدَّمه على السمع، وذلك بالنسبة للفقهاء من أصحاب الرأي والقياسيين الذين يعتمدون على الرأي وإن خالف النص..وفي باب العقائد جميع أهل البدع يعتمدون على العقل ويدَعون السمع، مع أن العقل الذي يعتمدون عليه ليس إلا شبهاتٍ، وليس براهين ودلالات، لكنهم ينظرون أن العقل يقتضي كذا فيثبتونه، ويقتضي نَفْيَ كذا فينفُونه، ولا يرجعون في هذا إلى السمع، ومن ذلك الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، كل من نفى صفة أثبتها الله لنفسه بشبهة عقلية، فإنه داخل فيمن يغالي في الاستدلال بالعقل. الطرف الثاني: من أنكر الاعتماد على العقل بالكلية، وقال: ليس للعقل مدخل في إثبات أي حُكم أو أي خبر، فأنكروا القياس، وهذا مثل أهل الظاهر، أنكروا نهائيًّا، وقالوا: لا يمكن أن نرجع للعقل في شيء.. ومِن الناس مَن هم وسط: رجعوا إلى العقل فيما لا يخالف الشرع؛ لأن العقل إذا لم يخالف الشرع فإن الله تعالى يحيل عليه في مسائل كثيرة، مثل: ﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، ومثل هذه الآية: ﴿ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65]، واستدلال الله تعالى على إحياء الموتى بإحياء الأرض بعد موتها استدلالٌ عقلي حسي؛ فهو حسي؛ لأنه مشاهَد، وهو عقلي؛ لأنه يستدل به على نظيره الذي لا يخالفه تمامًا. فالحاصل أن في هذه الآية اعتبار العقل دليلًا، ولكن بشرط ألا يخالف الشرع، فإن خالف الشرع فالأصح أن نقول: إنه ليس بعقل؛ لأن صحيح المنقول لا يعارض صريح المعقول أبدًا، لكن إذا ظن أن العقل يخالفه، فإما أن تكون لا مخالفة، وإما أن يكون السمعُ غير ثابت، وإما أن يكون العقل غير صحيح، ملوَّثًا بالشبهات والشهوات".