عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُوا لَوْلَا أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ﴿١٢﴾    [هود   آية:١٢]
برنامج لمسات بيانية آية (12) : * (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12)) مناسبة هذه الآية الكريمة لما قبلها؟ قبلها قال (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ (11)) لماذا يترك بعض ما يوحى إليه؟ هذا يقتضي الصبر هذا مما يقتضي الصبر(إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ) (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) هذا الأمر إذن يحتاج إلى صبر. لأن هنالك أمور تقتضي الصبر (أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ) وما يجد في نفسه من ضيق (وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) هذا يقتضي الصبر أيضاً. فهي تماماً متصلة بما قبلها (إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ) فاصبر على ما تواجهه ولا تترك (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ). * (لعلّ) في اللغة ماذا تفيد؟ في اللغة (لعل) للترجي لكن أحياناً يقصد بها التحذير، لعلك تقصر فيما أمرتك به ، التحذير وأحياناً الزجر. (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) حذره من هذا الأمر. * ماذا في هذه الآية؟ هو قال (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) لم يقل كل ما يوحى إليك إذن التحذير من ترك أي شيء من أمور الدين، ينبغي أن يبلّغه كله مهما كان موقف الكافرين واستهزاؤهم وضيق الصدر بهم. *وإذا قال (تارك ما يوحى إليك) يعني كله ، أما النص على عدم ترك البعض فمن باب أولى أن يترك الكل ؟ طبعاً، هو حذّر من ترك شيء، من ترك القليل بسبب استهزائهم وضحكهم وقولهم، مهما كان الموقف، مهما كان المقابل، مهما تلقى، مهما سبب من ضيق، إياك أن تترك شيئاً مما يوحى إليك وإن كان قليلاً . * (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) هنا بمعنى تحذير؟ نعم. حتى ولو ضاق صدرك بلِّغ (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) الحجر) بلِّغ مهما كان، لا يمنعك من ذلك موقفهم أنهم يستهزئون ويسخرون ويضحكون ويقولون كذا وكذا. * هنا قال ربنا (وَضَآئِقٌ) ولم يقل ضيق، لماذا؟ حتى يدل على أنه ضيق عارض وليس ضيق وصف دائم. ضائق إسم فاعل وضيّق صفة مشبهة. هذه ثابتة. لكن ضائق بسبب معين الرسول كان أفسح الناس صدراً، ضيق تعني صفته ضيق الصدر. سيّد وسائد، سيّد دائماً وسائد في أمر في موقف معين. جواد وجائد، جواد هو جواد دائماً وجائد في حالة معينة، في موقف، هذا في اللغة عموماً مثل حسن وحاسن، هذا قياس، فرح وفارح، كريم وكارم، هذا قياس إذا أردت الأمر العارض جئت به على فاعل وأما الثبوت صفة مشبهة. (وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) هذا ضيق مؤقت عارض و ليست سمة أو صفة. * الملاحظ في هذه الآية (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) تاركٌ بالتنوين لماذا جاءت بالتنوين ولم تأت بالإضافة مثل قوله تعالى (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ (9) آل عمران)؟ عندنا قاعدة في النحو أن إسم الفاعل، إعمال إسم الفاعل شرطه أن يدل على الحال والاستقبال ، إعماله يعني يعمل عمل فعله بشرط الحال والاستقبال (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً (30) البقرة) (وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) الكهف). أنا ضارب زيداً إما أضربه الآن أو سأضربه، هذا شرط، هذا الإعمال شرط. الإضافة عامة قد تدل على الماضي وقد تدل على الاستقبال (قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَـمًّى (10) إبراهيم) هذا ماضي، خالق السموات والأرض هذا ماضي، لو قال فاطرٌ سيفطرها. * عجيب! التنوين يتحكم بالدلالة إلى هذه الدرجة؟! لما تذكر مفعول به لا بد أن يكون دالاً على الحال أو الاستقبال لا بد، هذه قاعدة. الإضافة عامة قد تكون في المضي (ضاربُ زيدٍ) معناه ضربه إحتمال. (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9) آل عمران) أو للإستقبال أيضاً. ولذلك نذكر مسألة يقال كان محمد بن الحسن الفقيه المعروف والكسائي كان ملازماً للرشيد في اللغة العربية (هو إمام القراءات) كان محمد بن الحسن ينال من العربية ومن أهل اللغة فأراد الكسائي أن يعطيه درساً أمام الرشيد فقال له لو جاءك أحد فقال هذا قاتلٌ أخي أو قال هذا قاتلُ أخي أيهما تحكم عليه بالقصاص؟ قال كلاهما، فقال له الرشيد أخطأت. هذا قاتلٌ أخي هذا لم يقتله بعد فكيف تقتص منه؟!، هذا قاتلُ أخي يعني قتله. إذن في قوله (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) يعني الآن أو في المستقبل ليس في الماضي، فلو قال تاركُ كان احتمال أنه تركه فيحذره مما ترك في الماضي ولكن الرسول لم يترك شيئاً . فحتى لا يحتمل شيئاً. * وهكذا (وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) إذن ما ضاق صدره؟ إعمال للمفعول به هذا بالذات ونحن نتكلم عن إعمال إسم الفاعل. هذه للمفعول به. * وقوله (رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيه) بالإضافة؟ هذه عامة. * إذن واضع اللغة العربية حكيم لم تكن اللغة عشوائية اعتباطية؟ أكيد كان لها أسس وقواعد ودلالات ومفاهيم! كيف تكون اعتباطية؟! في غاية الدقة * والعرب حينما نزل القرآن بقمة البيان والفصاحة فهموه إذن هم كانوا على قدم المساواة في الدرس اللغوي والبلاغي والبياني؟ في الفهم لكن ليس في القول ليس كلهم امرؤ القيس ولا كلهم زهير ولا كلهم النابغة لكن كانوا يفهمون القرآن. * إذن كانت اللغة مكتملة حينما نزل القرآن الكريم؟ نعم كانت مكتملة. يفهمون كل شيء إلا إذا كانت إشارات إعجازية تتعلق بالعلم تأتي فيما بعد، فيما يتعلق باللغة يفهمون كل شيء. نحن لا نفهم إلا القليل عموماً. * هل ثبت من خلال قراءاتكم أن أحداً الكفار في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم اعترض على آية إعترض على كلمة في القرآن قال أن هذه لا توافق العربية أبداً؟ أبداً، مطلقاً. * سبحان الله! هذه شهادة منهم بأنه حق! طبعاً (فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (33) الأنعام) هكذا قال عنهم ربنا. * قدّم (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ) على (وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) مع أن القريب إلى العقل والمنطق أن يكون العكس وليس على ما أتت به الآية الكريمة فلماذا؟ يعني ضيق الصدر مقدّم على ترك بعض ما يوحى إليه؟ ضيق الصدر سيؤدي إلى الترك؟ أيُّ الأهم ضيق الصدر أو الترك؟ الترك إذن قدّم الأهم. أهم من ضيق الصدر. أحياناً قد يضيق صدره بأمر لكن لا يترك الأهم. أحياناً الإنسان يضيق صدره لكنه يصنع. المتدبر يعلم أنها رحمة من الله سبحانه وتعالى وليست مجموعة من التكاليف، هي رحمة. * (وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) قدّم (به) على صدرك فلماذا؟ وفي آية أخرى قال (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) الحجر) قدّم الصدر على الجار والمجرور؟ (وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) (به) قد يعود على بعض ما يوحى إليه هذا أهم من الصدر فقال (وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) إقرأ الآية (فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ) لأنهم يستهزئون ويسخرون فيضيق صدره فلا تتركه. فقدّم (به) هذا الأهم. بينما الآية الأخرى (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ) أيُّ الأهم صدر الرسول أم ما يقولون؟ صدر الرسول، فقدّم صدر الرسول. قدّم الأهم أيضاً. عندنا ما يوحى للرسول وصدر الرسول فقدّم ما يوحى على الصدر لأهمية ما يوحى وعندنا صدر الرسول وما يقوله هؤلاء فقدّم صدر الرسول لأنه أهمّ. ماذا يسمى هذا؟ مع أنه حتى في خارج القرآن قد يكون الأمر هكذا كدلالة عامة ضائق به صدرك ضائق صدرك به المهم أن صدره ضاق، لكن المهم مراعاة المقام، مراعاة السياق، مراعاة الأهمية في الكلام أيُّ المهم؟ ينبغي أن يوجّه إليه، ما يوحى إليه هذا هو المهم * (أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ) لماذا هذه الصيغة (أَن يَقُولُواْ) وليس مثلاً (لقولهم) أو (أن قالوا) مع أنه ماضي كما نفهم؟ (أَن يَقُولُواْ) يفيد الدوام والاستمرار لأنهم لن ينتهوا وإنما يستمرون في الكلام. ليس فقط ماضي، قالوا ويقولون مستمرين في موقفهم ليس فقط قالوا وانتهى. (وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ) الآن وفي المستقبل هذا استمرار بينما (أن قالوا) ماضي و(لقولهم) يحتمل أن يكون ماضي. (أَن يَقُولُواْ) استمرار. * (لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ) هنا قال ربنا تبارك وتعالى أُنزل كنز والكنز موجود في الأرض فلماذا يستخدم أُنزِل مع أن أُنزل تفهم أنه من السماء من فوق؟ هذا من التعجيز. (وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ (8) الأنعام) وقسم يقولون أُنزِل هنا بمعنى إعطاء. لكن استعمال الإنزال هنا من باب التعجيز من كلاهم أو مما يضيق به صدرهم. * (إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ) تعقيب على هذه الجملة؟ ليس عليك إلا أن تنذرهم بما أوحي إليك ليس عليك ردّوا أو لم يردوا، استجابوا أم لم يستجيبوا، اقترحوا أو تهاونوا، ليس عليك الأمر إنما عليك البلاغ، أنذرهم وكفى ليس عليك بالنتيجة ردوا تهاونوا ضحكوا سخروا هذا الأمر لا يعنيك، مهمتك هي الإنذار. * إذا كان الأمر هكذا للرسول عليه الصلاة والسلام أن يبلِّغ فقط فلماذا يضيق صدره؟ ولماذا يحزن؟ هو كان بوده أن قومه يستجيبون له يحب أن يكونوا مستجيبون له وكان يدعو أن يستجيبوا له، يحب هذا الأمر. (بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) التوبة).
روابط ذات صلة: