عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴿٢٢﴾    [المجادلة   آية:٢٢]
﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ٢٢﴾ [المجادلة: 22]. * * * مناسبة هذه الآية لما قبلها، فإنه بعد أن ذكر الذين يحادّون الله ورسوله ويتولون قوماً غضب الله عليهم، ذكر المؤمنين وصفاتهم وأنهم لا يوادّون من حادّ الله واليوم الآخر موالياً لمن حادّ الله ورسوله ولو كان أقرب الناس إليه. وفي هذا ما فيه من الزجر والمبالغة في النهي. جاء في (الكاشف): ((من الممتنع المحال أن تجد قوماً مؤمنين يوالون المشركين. والغرض به أنه لا ينبغي أن يكون ذلك، وحقه أن يمتنع ولا يوجد بحال، مبالغة في النهي عنه والزجر عن ملابسته)). وجاء في (النكت والعيون): ((وفيه وجهان: أحدهما: أنه خارج مخرج النهي للذين آمنوا أن يتوادّوا من حاد الله ورسوله. الثاني: أنه خارج مخرج الصفة لهم والمدح بأنهم لا يوادّون من حادّ الله ورسوله، وكان هذا مدحاً)). ((وقدم الآباء؛ لأنه يجب على أبنائهم طاعتهم ومصاحبتهم في الدنيا بالمعروف. وثنى بالأبناء؛ لأنهم أعلق بهم لكونهم أكبادهم، وثلّث بالإخوان؛ لأنهم الناصرون لهم ... وختم بالعشيرة؛ لأن الاعتماد عليهم والتناصر بهم بعد الإخوان غالباً)). ﴿أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ﴾. أي: أثبته الله تعالى فيها. ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ﴾. أي: قواهم برحمته وهداه، ونور منه. فالضمير في قوله (منه) يعود على الله. قيل: ويجوز أن يعود الضمير على الإيمان، أي: قواهم بنور الإيمان سبب لحياة القلوب. جاء في (الكشاف): ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ﴾ بلطف من عنده حييت به قلوبهم. ويجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان، على أنه في نفسه روح لحياة القلوب)). ﴿رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ﴾ بطاعتهم له. ﴿وَرَضُواْ عَنۡهُۚ﴾ بما أوتوه عاجلاً وآجلًا في الدنيا والآخرة. وجاء في (النكت والعيون): ((رضي الله عنهم في الدنيا بطاعتهم. ﴿وَرَضُواْ عَنۡهُۚ﴾ فيه وجهان: أحدهما: رضوا عنهم في الآخرة بالثواب. الثاني: رضوا عنه في الدنيا بما قضاه عليهم فلم يكرهوه. وجاء في (التفسير الكبير) للرازي: ((أنه تعالى عدد نعمه على المؤمنين، فبدأ بقوله: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ ٱلۡإِيمَٰنَ﴾ ... والنعمة الثانية قوله: ﴿وَأَيَّدَهُم بِرُوحٖ مِّنۡهُۖ﴾ ... النعمة الثالثة: ﴿وَيُدۡخِلُهُمۡ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَاۚ﴾ وهو إشارة إلى نعمة الجنة. النعمة الرابعة: ﴿رَضِيَ ٱللَّهُ عَنۡهُمۡ وَرَضُواْ عَنۡهُ﴾ وهي نعمة الرضوان، وهي أعظم النعم وأجلّ المراتب. ثم لما عدد هذه النعم ذكر الأمر الرابع من الأمور التي توجب ترك الموادة مع أعداء الله فقال: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱللَّهِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ وهو في مقابلة فيهم: ﴿أُوْلَٰٓئِكَ حِزۡبُ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱلشَّيۡطَٰنِ هُمُ ٱلۡخَٰسِرُونَ﴾. وقوله: ﴿هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ أي: المختصون بالفلاح، فليس لغيرهم فلاح. قد تقول: لقد قال سبحانه في سورة المائدة: ﴿وَمَن يَتَوَلَّ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ٥٦﴾. فختم الآية بقوله: ﴿فَإِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ﴾. وختم آية المجادلة بقوله: ﴿أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾. فما الفرق؟ فنقول: إن سياق كل من الآيتين يوضح ذلك. فإن سياق آيات المائدة في استعانة الذين في قلوبهم مرض باليهود والنصارى واتخاذهم أولياء؛ ليحتموا بهم وينصرونهم، كما أخبر سبحانه عنهم بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ٥١ فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ٥٢﴾ [المائدة: 51-52]. فقال لهم ربنا: إنه من يتول الله ورسوله والذين آمنوا هم الغالبون، وليس الذين يتولون الكافرين. فآية المائدة في النصرة والغلبة، فختمها بقوله: ﴿هُمُ ٱلۡغَٰلِبُونَ﴾. (من كتاب: قبسات من البيان القرآني للدكتور فاضل السامرائي- صـ 152: 155)