عرض وقفة أسرار بلاغية
-
وقفات سورة التكاثر
وقفات السورة: ٢٩٦ وقفات اسم السورة: ٢٥ وقفات الآيات: ٢٧١
﴿أَلْهَاكُمُالتَّكَاثُرُ (1) حَتَّىزُرْتُمُالْمَقَابِرَ (2) كَلَّاسَوْفَتَعْلَمُونَ (3) ثُمَّكَلَّاسَوْفَتَعْلَمُونَ (4) كَلَّالَوْتَعْلَمُونَعِلْمَالْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّالْجَحِيمَ (6) ثُمَّلَتَرَوُنَّهَاعَيْنَالْيَقِينِ (7) ثُمَّلَتُسْأَلُنَّيَوْمَئِذٍعَنِالنَّعِيمِ (8)﴾[التكاثر: 1-8]
هذه السورة العظيمة مؤثرة جدا في كل من ألقى السمع وهو شهيد، تقرع القلوب، وتهزها هزا يعيدها إلى جادة الحق، إذا أراد الله تعالى لأصحابها خيرا في الدارين.
ولي في هذه السورة تنبيهات:
التنبيه الأول: تأملوا قوله:﴿أَلْهَاكُمُالتَّكَاثُرُ﴾ حيث أسند الله تعالى الإلهاء إلى التكاثر، ومع أن اللاهين هم الكفار، ولهوهم يكون عن الإيمان، أو هم المؤمنون، ولهوهم يكون عن الأزدياد من الصالحات، وإسناد الإلهاء إلى التكاثر أبلغ من قول: (لهوتم بالتكاثر)؛ لأنه في الآية الكريمة السبب الوحيد في الغفلة والبعد عن الإيمان أو الطاعات؛ فكأنه لا سبب غيره، أما لو لم يسند إليه لكان سببا من أسباب كثيرة.
ثم تأملوا قوله:﴿التَّكَاثُرُ﴾ فصيغة التفاعل تدل على التفاخر في ذلك والتباهي به، وتدل على فشوهما في المتخاصمين أو في القبائل، فكل قبيلة تفاخر الأخرى حتى تشتغل بذلك عن الإيمان والطاعة، وكل واحد من المتكاثرين همه أن يكاثر صاحبه، ولذلك لو حصلت الكثرة من غير تكاثر لم تضر.
ولم يحدد الله المتفاخر به؛ ليعم كل ما يمكن أن يدخل فيه من مال، أو عبيد، أو أولاد، أو مزارع، أو مصانع، أو علوم لا يراد بها وجه الله تعالى، فالإيجاز بالحذف هنا دل على العموم؛ لأن المهم ليس المتكاثر به، بل المهم التكاثر نفسه، وما ينتج عنه من صرف لصاحبه عن الإيمان والطاعة.
التنبيه الثاني: في قوله تعالى: ﴿حَتَّىزُرْتُمُالْمَقَابِرَ﴾ سمع أعرابي رجلا يقرأ هذه الأية، فقال: (بعث القوم للقيامة ورب الكعبة)، وقال علي بن أبي طالب –رضي الله عنه- : (ما زلنا نشك في عذاب القبرحتى نزلت : ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ ﴿1﴾ حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ ﴿2﴾ ﴾).
وقال عمر بن عبد العزيز –رحمه الله- بعد أن قرأ الآية: (ما أرى المقابر إلا زيارة، وما للزائر بد من أن يرجع إلى منزله، إما إلى جنة إو إلى نار).
فالتعبير عن الموت بالزيارة تعبير في غاية البلاغة عن كون الموت مرحلة برزخية، ينتقل بعدها الموتى إلى دار الأخرى، فليست القبور دار استقرار، ولا أهلها باقون فيها، وإنما هم فيها بمنزلة الزائرين، يحضرون مدة، ثم يرحلون عنها، كما هو شأن الزائر، يرحل ولو بعد حين. فما أجمله من تعبير!!!
التنبيه الثالث: قوله: ﴿كَلَّاسَوْفَتَعْلَمُونَ﴾ قيل: إنها تأكيد لقوله قبله ﴿كَلَّاسَوْفَتَعْلَمُونَ﴾ والصحيح أن العلم الأول يكون عند نزول الموت بهم، فيعاينون العذاب، وما بعد ﴿ثُمَّ﴾ مقصود به العلم بعذاب القبر.
وذكر ابن القيم –رحمه الله- خمسة أدلة على ذلك، هي:
الأول: أن الفائدة الجديدة والتأسيس هو الأصل، وقد أمكن اعتباره، مع فخامة المعنى وجلالته، وعدم الإخلال بالفصاحة.
الثاني:توسط ﴿ ثُمَّ ﴾ بين العلمين – وهي تفيد الترتيب مع التراخي -، فهي مؤذنة بتراخي ما بين المرتبتين حقيقة زمانا وخطرا.
الثالث:أن هذا القول مطابق للواقع؛ فإن المحتضر يعلم عند المعاينة حيقية ما سيكون عليه، ثم يعلم في القبر وما بعده ذلك علما يقينا، فهو فوق العلم الأول.
الرابع:أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وغيره من السلف فهموا من الآية أن المقصود بها عذاب القبر.
الخامس:أنه ذكر عذاب النار بعده, فقال ﴿كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ ﴿5﴾ لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ﴿6﴾ ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ ﴿7﴾ ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ﴿8﴾ ﴾ فدل على أن الأول غير مراد به النار.
وقيل: إن الأول توعد بما ينالهم في الدنيا، والثاني توعد بما أعد لهم في الآخرة، فليس في السورة تكرار.