عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُم مِّن مَّالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِّتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَن يُكْرِههُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ﴿٣٣﴾ ﴾ [النور آية:٣٣]
قوله تعالى : " وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) " النور : 33 .
يري بعض العلماء أن الشرط فى قوله : " إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا " شرط لغو , زاعمين أنه لا يصح إكراه الإماء على الزني إن أردن التحصن أو لم يردنه , وهذه العلة صحيحة لو كانت هي وحدها سبب الشرط , لكن الصحيح أن للشرط فائدة عظيمة , وأن استعمال ( إن ) دون ( إذا ) له فائدة أخرى .
ولكن قبل بيان ذلك أذكر سبب نزول الآية , فقد روي مسلم في صحيحة [ صحيح مسلم ثلاثه في 310 رقم الحديث 3029 ] عن جابر - رضي الله عنه – ( أن جارية لعبد الله ابن أبي ابن سلول يقال لها : مسيكة , وأخرى يقال لها : أميمة , فكان يكرهما على الزني , فشكتا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - , فأنزل الله : " وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ " إلى قوله : " غَفُورٌ رَحِيمٌ " .
وقال مقاتل : نزلت في ستّ جوار لعبد الله ابن أبي كان يكرههن على الزنى ,ويأخذ أجورهن , وهن : معاذة , ومسيكة , وأميمة ,وعمرة , وأروى , وقتيلة , فجاءت إحداهن ذات يوم بدينار , وجاءت الأخري ببرد , فقال لهما : ارجعا , فازنيا , فقالتا : والله لا نفعل ؛ قد جاءنا الله بالإسلام , وحرم الزنا , فأتيا رسول الله - صلى الله عليه و سلم - , و شكتا إليه فأنزل الله تعالى هذه الآية .[ أسباب النزول للواحدي : 326 - 327 ] .
أما فائدة الشرط ابتداء ففيه زيادة تقبيح لحالهم , وتشنيع عليهم ؛
بسبب ما كانوا عليه من القبائح مما لا يخفى على ذي بصيرة , حيث كانوا يكرهون فتياتهم على البغاء , وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور ؛ فهن فتيات , ومع قصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطي مثل هذه الرذائل ؛ فهن إماء رقيقات , وإن من له أذني مروءة لا يكاد يرضي بفجور من يحويه حرمه من إيمائه , فضلا عن أن يأمرهن به , أو يكرههن عليه , لاسيما عند إرادتهن التعفف .
قال أبو السعود - رحمه الله – [ تفسير ابي السعود 673 ] : " فتأمل , ودع عنك ما قيل من أن ذلك لأن الإكراه لا يتأتي إلا مع إرادة التحصن , وما قيل من أنه إن جعل شرطا للنهي , لا يلزم من عدمه جواز الإكراه ؛ لجواز أن يكون ارتفاع النهي لامتناع المنهي عنه , فإنهما بمعزل من التحقيق " .
وأما فائدة استعمال " إِنْ " الشرطية دون ( إذا ) فهي للدلالة على التشنيع في النهي عن إكراه الإماء على البغاء عند مجرد احتمال إرادتهن التحصن , ولو استعمل ( إذا ) , وقال : " إذا أردن تحصن " , لأشعر ذلك بأنه لا يتعين إلا عند التحقق من إرادتهن ذلك , قال أبو السعود - رحمه الله - : " و إيثار كلمة " إِنْ " على ( إذا ) مع تحقق الإرادة في مورد النص حتما للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك , فكيف إذا كانت محققة الوقوع , كما هو الواقع , وتعليله بأن الإرادة المذكورة منهن في حيز الشاذ النادر مع خلوه عن الجدوى بالكلية , يأباه إعتبار تحققها إباء ظاهرا .