عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَّا يُبْصِرُونَ ﴿١٧﴾    [البقرة   آية:١٧]
  • ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ ﴿٦٣﴾    [الواقعة   آية:٦٣]
  • ﴿أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ﴿٦٤﴾    [الواقعة   آية:٦٤]
  • ﴿لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ﴿٦٥﴾    [الواقعة   آية:٦٥]
  • ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ﴿٦٨﴾    [الواقعة   آية:٦٨]
  • ﴿أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ﴿٦٩﴾    [الواقعة   آية:٦٩]
  • ﴿لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ ﴿٧٠﴾    [الواقعة   آية:٧٠]
  • ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا ﴿٤٢﴾    [الكهف   آية:٤٢]
  • ﴿قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ ﴿٦٢﴾    [الشعراء   آية:٦٢]
قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُون (17)صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُون (18)}[البقرة:17]. في هاتين الآيتين عدة وقفات: الوقفة الأولى: قال ابن كيسان:(({اسْتَوْقَدَ}بمعني (أوقد)، وقد يجوز أن يكون استوقدها من غيره، أي: طلبها من غيره)). والصحيح أن الهمزة والسين والتاء في قوله:{اسْتَوْقَدَ} تدل على الطلب، وهي ههنا توحي وتشعر بما تكبده موقد النار من مشقة ونصب في سبيل إشعالها، وتنبئ عن تعاظم تلهفه على ذلك؛ لتنير النار له غياهب الظلمة المدلهمة، وتقشع من طريقه الحيرة والوحشة، فحين يفقدها الموقد يفقد عزيزاً، وفقد المتعوب عليه أشد وأقسى على القلب من فقد ما نيل بيسر وسهولة، ودون نصب ولا كبد، ألا ترى إلى قوله تعال: {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُون (63) أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُون(64) لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُون(65)}[الواقعة:63-65]، فقال:{لَجَعَلْنَاهُ } مؤكداً باللام مع الزرع؛ لأن فقده فقد متعوب عليه ، ثم قال:{ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاء الَّذِي تَشْرَبُون (68)أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُون (69) لَوْ نَشَاء جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلاَ تَشْكُرُون(70)}[الواقعة:68-70]، فقال مع الماء:{ جَعَلْنَاهُ } غير مؤكد؛ لأن فقده فقد غير متعوب عليه. وحين يقرأ قارئ هاتين الآيتين – أعني آيتي سورة البقرة-بتدبر وتمعن يتصور مدى ظلمة الليل البهيم، الذي يبدو كما قال تأبط شراً: وليلٍ بهيمٍ كلما قلت غوّرت كواكبه عادت فما تتزيلُ به الركب إما أومض البرق يمّموا وإن لم يلح فالقوم بالسير جُهل وترتسم في مخيلته صورة مستوقد النار، وهو يلهث بغية جمع الحطب، وهو بلا شك حاطب ليل لا يفرق بين رطب ويابس، وجاءت محصلته بعد جهد جهيد حطباً رطباً، بطئ الاشتعال، كثير الدخان، لا ينفك باغي النار من مثله ينفخ في ناره، كنافخ الكير يشرق بدخانه، وحيث كان مضطراً إليها، غير مستغنٍ عنها، لم يمل، ولم يكل، حتى شب أوارها، وملأ ضوءُها الآفاق، ولكن فجأة ذهب النور، فيا لخيبة التعب، فهو كصاحب الجنة المحترقة:{وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا}[الكهف:42]، وهكذا كانت لفظة{اسْتَوْقَدَ } أبلغ في هذا الموضع من (أوقد) بما دلت عليه الهمزة والسين والتاء من طلبٍ ومشقةٍ. الوقفة الثانية: في قوله:{فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ } عبر عن مكان الإضاءة بقوله:{مَا حَوْلَهُ }حيث كان الضوء لما حوله مجاوراً له ، وليس منبعثاً منه ، ولا مضيئاً له،(( ولو اتّصل ضوءها به، ولابسه، لم يذهب ،ولكنه كان ضوء مجاورةٍ ، لا ملابسةٍ ومخالطةٍ، وكان الضوء عارضاً ، والظلمة أصليةً، فرجع الضوء إلى معدنه ،وبقيت الظلمة في معدنها، فرجع كلٌ منهما إلى أصله اللائق به حجة من الله قائمة، وحكمةً بالغة تعرف بها إلى أولي الألباب من عباده)). الوقفة الثالثة:قوله{ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ }: فيه نكتتان بليغتان: * إحداهما: أنه تعالى عبّر عن انقطاع النور عنهم بذهاب الله به، ولم يقل: (انقطع نورهم)، بل عبّر عن ذلك بما يتضمن انقطاع النور وذهابه بعد ذهاب مسببه به، وهو المولى – عز وجل- ، فانقطعت عنهم معية الله تعالى، فذهاب الله بذلك النور هو انقطاع المعية التي خص بها أولياءه، فقطعها بينه وبين المنافقين، فلم يبق – أي الله- عندهم بعد ذهاب نورهم ، ولا معهم فليس لهم نصيب من قوله:{لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا}[التوبة:40]، ولا من : {قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِين}[الشعراء:62]. وقال ابن القيم – عليه رحمة الله-: ((ولم يقل: (أذهب الله نورهم)؛ لأن الذهاب بالشيء هو استصحاب له ومضي به، وفي ذلك نوع احتياز للمذهوب به، وإمساكٌ له عن الرجوع إلى حالته، والعود إلى مكانه، وليس كذلك الإذهاب للشيء؛ لزوال معني الاحتياز، وهذا كلامٌ دقيقٌ يحتاج إلى زيادة تأمل، وإنعام نظرٍ، فافهمه)). * والنكتة الأخرى: أن الله تعالى قال:{بِنُورِهِمْ } ولم يقل (بنارهم)، فيكون ذلك اتساقاً مع أول الآية {اسْتَوْقَدَ نَاراً }، ولا : (بضوئهم) توافقاً مع قوله:{فَلَمَّا أَضَاءتْ } ؛ وسبب ذلك – والله أعلم – أن النار تشتمل على ثلاثة أشياء، هي: الضوء ، والنور، والحرارة، فالضوء زيادة في النور، فذهابه لا يعني ذهاب أصله، وهو النور ، لأن النور إشراقٌ وضياءٌ، لكن الذهاب بالنور ذهابٌ بالضياء؛ ((لأن الضوء هو زيادة في النور، فلو قال: (ذهب الله بضوئهم) لأوهم الذهاب بالزيادة فقط دون الأصل ، فلما كان النور أصل الضوء كان الذهاب به ذهابا بالشيء وزيادته، وأيضاً فإنه أبلغ في النفي عنهم، وأنهم من أهل الظلمات الذين لا نور لهم ، وأيضا فإن الله تعالى سمى كتابه نورا، ورسوله نورا ، ودينه نورا ، ومن أسمائه النور، والصلاة نور ، فذهابه – سبحانه- بنورهم ذهابٌ بهذا كله )). والحرارة والإحراق والأذى مما تشتمل عليه النار، وبقاؤها مرادٌ هنا؛ لأن من أوجه الشبه بين المنافقين ومستوقدي النار ذهاب ما ينفعهم من البهاء والإشراق، وبقاء ما يضرهم من الاصطلاء بحرارتها وإحراقها، ولذلك لم يقل: (بنارهم)؛ لأن الله تعالى شبه (( أعداءه المنافقين بقوم أوقدوا ناراً لتضيء لهم ، وينتفعوا بها ، فلما أضاءت لهم النار ، فأبصروا في ضوئها ما ينفعهم وما يضرهم ، وأبصروا الطريق بعد أن كانوا حيارى تائهين، فهم كقوم سفر ضلوا عن الطريق، فأوقدوا النار ، تضيء لهم الطريق، فلما أضاءت لهم ، فأبصروا وعرفوا طفئت عنهم تلك الأنوار، وبقوا في الظلمات لا يبصرون )) ، فالمنافقون اكتسبوا نوراً ظاهرياً بما عرفوا من الحق؛ بمخالطتهم المؤمنين، وصلاتهم معهم، وصيامهم معهم ، وسماعهم القرآن ، لكن ذلك النور ذهب بعد أن تلطخت قلوبهم بوحل النفاق ودنسه، فبقيت في قلوبهم حرارة الكفر والنفاق والشكوك والشبهات، تحرقها، وتغلي كالمرجل فيها، وكذلك ستكون حالهم في الآخرة حيث يرزقون نوراً ظاهرياً، فإذا وقفوا على الصراط ، وكانوا أحوج ما يكونون إليه، أُطفئت أنوارهم ، وبقوا في الظلمة على الجسر حتى تخطفهم كلاليب النار. وهناك وجه شبه آخر بين المنافق ومستوقد النار، هو أن المستوقد حين أوقدها كان في ليلة مظلمة، بمفازة موحشة، فاستضاء بها ما حوله، واتقى ما يخاف،وأمن، فبينما هو كذلك إذ طفئت ناره، فبقي مظلماً خائفاً متحيراً، وكذلك المنافق إذا أظهر كلمة الإيمان استنار بها، واعتز بعزها، وأمن على نفسه وماله وولده، فإذا مات عاد إلى الخوف، وبقي في العذاب والنقمة. الوقفة الرابعة:قوله:{وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} جمع المولى عزّ وجلّ (الظلمة) في مقابل إفراد (النور)؛ لأن الحق واحد،((وهو صراط الله المستقيم الذي لا صراط يوصل إليه سواء، وهو عبادة الله وحده لا شريك له بما شرعه على لسان رسوله # ، لا بالأهواء والبدع وطرق الخارجين عما بعث الله به رسوله# من الهدى ودين الحقّ، بخلاف طرق الباطل فإنها متعددة متشعبة .....)).