عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ ﴿٣﴾    [التحريم   آية:٣]
(وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ) كلمة بعض في اللغة تعني الواحد أو الواحدة إلا إذا تكررت (بضع من ثلاث إلى تسعة) (وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99) الكهف) بعضهم لبعض تكون جماعة لجماعة أما إذا جاءت مفردة فالغالب في لغة العرب ، هناك شاهد أو شاهدان استعملها للجماعة للقِسم لكن الراجح في كلام العرب وهذا الذي عليه القرآن الكريم أنه إذا إستعمل بعض تعني واحداً وهنا جاء بمعنى واحد (بعض أزواجه). (فلما نبّأت به) فهي كانت إحدى زوجاته ورضي الله عنهن جميعاً أسِرّ إليها حديثاً ، ما هذا الحديث؟ نحن منهجنا في فهم القرآن أنه ما سكت عنه القرآن نسكت عنه. عندنا أحاديث توضح الصورة لكن هذه الأحاديث متفاوتة الدرجات: حديث يتكلم على شرب العسل وحديث يتكلم على مواقعة ماريا القبطية في بيت حفصة رضي الله عنها. هذا الأمر ليس مهماً ولو كان مهماً لأشار إليه القرآن الكريم لكن هو قال (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا) ما قال لنا ما هو فنقول سرّاً أخبر الرسول به إحدى زوجاته والروايات تقول أنها عائشة رضي الله عنها وعن أبيها. هي لم تحفظ هذا السر يعني ضاق به صدرها فإتجهت إلى أقرب الناس إليها (زوجة ثانية من زوجات الرسول ) وبدأت تحدثها بسِرّ رسول الله أن الرسول قال لي كذا وقال لي كذا ولا شك أنها في بداية الأمر ترددت قبل أن تتحدث فهذا أخذ زمناً، الحديث أخذ زمناً والتردد أخذ زمناً هذا يناسب صيغة فعّل لأن فعّل في اللغة تحتاج إلى وقت أطول من أفعل. نبّأ (فعّل) غير أنبأ (أفعل). لما تقول: أعلمت زيداً أي أوصلت إليه معلومة لكن لما تقول علّمته التعليم يحتاج إلى وقت ويحتاج إلى جهد. أخرجت الشيء وخرّجته، وهكذا. فصيغة فعّل في لغة العرب تحتاج إلى تلبّث، وقت، زمن يأخذ (فلما نبّأت به) معناه أخذت وقتاً. أخذت وقتاً حتى في الكلام. الحكاية نفسها تحتاج إلى وقت الكلام في وقت هو لم يكن كلمة واحدة أو كلمتين وإنما حديث (وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا). (فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ) أظهره أي أطلعه وعرّفه أن فلانة أخبرت بحديثك والحديث كاملاً فالرسول  لرعايته لبيته ولأهل بيته ولسماحته عرّف بعضه وأعرض عن بعض، معناها الحديث طويل ذكر بعضه وترك بعضه ما خاض في كل التفاصيل وإنما قال جزءاً من قولها (عرّف بعضه وأعرض عن بعض). (فلما نبّأها به) هذا التعريف، هذا البعض (به) تعود على البعض الذي تحدّث به كان حديثاً أخذ زمناً قال: (فلما نبّأها). قالت (من أنبأك هذا) (هذا) يعني إفشاء السر هي تعلم تفاصيل القول وهي لا تحتاج إلى نبّأ وإنما إلى أنبأ لأنه ليس فيها سرعة وليس فيها تلبّث ولا وقت. (نبّأها) شرح لها ماذا قالت جزء من الحديث هي قالت (من أنبأك هذا) من أعلمك إفشائي للسر. إفشائي السر لا تحتاج للفعل المشدّد (نبّأ) وإنما إلى (أنبأ) لأنه يحتاج إلى وقت قصير. هذه الظاهرة إستعمال نبّأ وأنبأ مضطردة في القرآن الكريم بحيث أننا لما نأتي إلى أفعل كما في قوله (وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)) أنبأ وردت في أريعة مواضع في القرآن كله وسنجد أنها جميعاً فيها إختصار زمن، فيها وقت قصير وليس فيها وقت طويل. أما نبّأ فحيث وردت، وردت في ستة وأربعين موضعاً ( من المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم) سنعود إلى ذكر إحصائها لأن لنا رأياً فيها. لاحظ (وعلّم آدم الأسماء كلها) بمفهوم البشر التعليم يحتاج إلى وقت ولذا قال علّم ولم يقل أعلم. الأسماء كلها أي هذا الشيء إسمه كذا عذا المخلوق إسمه كذا ورب العالمين يمكن أن يقول كن فيكون. لكن أرادت الآية أن تبيّن أنه لقّنه هذه الأشياء بوقت كما أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام وكان بإستطاعته أن يقول كن فيكون. (وعلّم آدم الأسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة) وذكرنا في مرة سابقة استعمال عرضهم لأن فيها العاقل وغير العاقل. (فَقَالَ أَنْبِئُونِي) لأنه هذا ما إسمه؟ فلان أو كذا وهذا لا يحتاج إلى شرح وتطويل ما قال (نبّؤني) قال(أنبؤني) لكن في مكان آخر قال (نبؤني بعلم إن كنتم صادقين) . قالوا (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32)) أيضاً ما تعلّموه على وقت. (قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) آدم هذا كذا إسمه وانتهى، وهذا؟ كذا وهذا؟ كذا. الإنباء بكل إسم على حدة لا يأخذ وقتاً ولهذا قال (أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِم) (فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ) واحداً واحداً لا يحتاج إلى وقت. إذا جاء الفعل بصيغتي فعّل وأفعل نفس الفعل فيكون أفعل إذا جاء لزمن أقصر من فعّل مثل علّم وأعلم ونبّا وأنبأ. في سورة الكهف (سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)).هذا ليس إنباءً وإنما تبيين من نبّأ لأن فيها كلام كثير (أما السفينة، أما الغلام، أما الجدار) فهي ليست مختصرة. (سَأُنَبِّئُكَ) جاءت بالتشديد مشددة ما قال سأنبئك. المضعّفة يعني فعّل من النبأ جاءت في ستة وأربعين موضعاً كما في سورة يوسف (نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)) لأن فيها شرح بالتفصيل عن الرؤيا ولم يقل أنبئنا مختصرة وهم يريدون شرحاً مفصّلاً للرؤيا. أنبأ لم ترد إلا في أربعة مواضع. نبّا وتفصيلاتها وردت في ستة وأربعين موضعاً في ستو وثلاثين موضعاً كانت تحتمل أن تُقرأ أنبأ بالتخفيف ومنه هذا الموضع. من حيث الرسم لو رسمنا من غير همزة ونقاط وشدّة كان يمكن أن تُقرأ سأنبئك لكن رجعت إلى القراءات وحتى الشاذّة منها 36 موضعاً كان يمكن أن تُقرأ بالتخفيف لكن لم ترد قراءة واحدة بالتخفيف وللكن قُرئت كلها بالتشديد (سأنبّئكم، أنبّئكم، تنبؤنه) لم يقرأها أحد أنبأكم. ستة وثلاثون موضعاً كلها كان يمكن أن تُقرأ بالتخفيف ولم تُقرأ بالتخفيف وعشرة مواضع لا يمكن أن تُقرأ بالتخفيف لأن نبّأت به وإنما (نبّأ) بالتضعيف مثل قوله تعالى (قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الكهف) بالتشديد لأن جاء الحديث بعدها طويل (الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105)) فيها تفصيل. وحيثما وردت ولذلك لم تُقرأ بالتخفيف ما دام فيها تلبّث وزمن فلا تُقرأ بالتخفيف. وهذا القرآن من أوله إلى آخره كله جاء بهذه الصورة والإنسان يعجب (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها).