عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ﴿١٣٣﴾    [آل عمران   آية:١٣٣]
آية (133): *(وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) آل عمران) ترى لو قلت وأسرعوا إلى مغفرة أتُحقق ذات الغرض والفائدة التي تحققها صيغة (وسارعوا)؟(ورتل القرآن ترتيلاً) بالطبع لا فالبيان القرآني جاء بصيغة سارعوا للمبالغة في طلب الإسراع. وتنكير (مغفرة) ووصلها بقوله (من ربكم) مع استطاعة الإضافة مباشرة بأن يقول: وسارعوا إلى مغفرة ربكم غرضه التضخيم والتعظيم. ثم لسائل أن يسأل لِمَ جاء البيان الإلهي بقوله جنة عرضها ولم يقل جنة طولها؟ سيأتي الجواب أن الكلام هنا على طريقة التشبيه البليغ والأصل: وجنة عرضها كعرض السماء والأرض كما جاء في سورة الحديد والغرض هنا أريد به تمثيل شدة الإتساع ليُطلق العنان لخيال السامع فإذا كان عرض الجنة بهذا الإتساع صعب التخيّل فكيف يكون طولها؟! * ما الفرق البياني بين آية 133 من سورة آل عمران وآية 21 من سورة الحديد؟(د.فاضل السامرائى) قال تعالى في سورة آل عمران (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) وقال تعالى في سورة الحديد (سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) . في الآيتين أكثر من وقفة: قضية الواو وانعدامها، السموات والسماء، عرضها وكعرض، للمتقين و للذين آمنوا بالله ورسله، ذلك فضل الله ولم ترد في الآية الثانية. *السماء والسموات : السماء في اللغة وفي المدلول القرآني لها معنيان: 1ـ واحدة السموات السبع، كقوله تعالى: "ولقد زَيّنا السّماءَ الدنيا بِمَصابيح " الملك. 2ـ كل ما علا وارتفع عن الأرض ـ فسقف البيت في اللغة يسمى سماء. قال تعالى: " مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ"الحج:15يقول المفسرون :(أي ليمد حبلا إلى سقف بيته ثم ليخنق نفسه) فالسماء هنا بمعنى السقف. ـ وقد تكون بمعنى السحاب: "أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا " ّالرعد:17. ـ وقد تكون بمعنى المطر : " ينزل السماء عليكم مدرارا" نوح. ـ وقد تكون بمعنى الفضاء والجو : "أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ "النحل:79 . ـ وذكرهذا الارتفاع العالى(وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ)(الأنعام:125) . فالسماء كلمة واسعة جدا قد تكون بمعنى السحاب أو المطر أو الفضاء أو السقف ، وبهذا تكون السموات والسموات موطن الملائكة جزءا من السماء ، لأن السماء كل ما علا وارتفع مما عدا الأرض، والسموات جزء منها بهذا المعنى الواسع الذي يشمل الفضاء والسقف والمطر والسحاب، فإن (السماء) تكون أوسع من (السموات) فهي تشملها وغيرها. قال تعالى: " قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (الفرقان:6) وقال: "ربي يعلم القول في السماء والأرض" لأن القول أوسع من السر، فهو قد يكون سرا أوجهرا والسر جزء منه، فلما وسع قال (القول) وسع وقال (في السماء). ولما ضيق وقال (السر) قال (السموات) . *عرضها، كعرض : ولذلك لما قال (السموات) قال (عرضها السموات)، ولكن عندما اتسعت اتساعا هائلا جاء بأداة التشبيه (عرضها كعرض السماء) لأن المشبه به عادة أبلغ من المشبه، فهي لا تبلغ هذا المبلغ الواسع الذي يشمل كل شيء. كلمة (السماء) تأتي عامة "والسماء بنيناها بأيد" ، "وفي السماء رزقكم وما توعدون" ، "أأمنتم من في السماء.." ثم تتسع لأشياء أخرى، فعندما يقول: "سبع سموات طباقا" فهي ليست الفضاء ولا السقف ولا السحاب، فعندما اتسعت قال (كعرض السماء)لأنها أقوى وأوسع وأشمل وعلى هذا بني التعبير كله في الآيتين . هناك استعمل الكاف للتشبيه وهنا لم يستخدمها. السموات جمع السماء. صحيح هي مفرد لكن حينما يأتي وحدها تأتي لعدة مصالح. السماء والأرض عظيمة جداً فاستعمل لها التشبيه لأنها غير محدودة لكن لما استعمل السموات إستعمل التحديد (عرضها السموات والأرض) للتقريب. لكن العربي لما يسمع عرضها عرض السموات والأرض قد يفهم منها السماء الأولى الواحدة لكن لما قال (كعرض السماء والأرض) يفهم أن هذا إطلاق. (كعرض) أقوى من (عرضها) وأشمل وأوسع هكذا يُفهم. *أعدت للمتقين، أعدت للذين آمنوا : عندما ضيق حددها للمتقين ثم وصفهم في الآيات التالية، وعندما وسع عمم القول ليسع الخلق (الذين آمنوا بالله ورسله) وهؤلاء المتقون جزء من الذين آمنوا، ولم يحدد عملا محددا لهؤلاء. *سابقوا، سارعوا : عندما قال (سارعوا) قال (عرضها السموات والأرض)، وعندما قال (سابقوا) قال (كعرض السماء والأرض) كثرة الخلق المتجهين لمكان واحد تقتضي المسابقة، فإن قلّوا اقتضى ذلك المسارعة فقط ، وليس المسابقة. اتسع المكان فاتسع الخلق ، ذكر السماء التي تشمل السموات وزيادة ، وذكر الذين آمنوا بالله ورسله وهي تشمل المتقين وزيادة ، ثم زاد وقال: "ذلك فضل الله" . لأن الفضل أوسع مما جاء في آل عمران بل الفضل واضح إذ جاءت عامة *تكرار العطف : وكذلك لو لاحظنا الناحية الفنية لرأينا وضع كل واحدة يناسب ما هي فيه، ففي سورة الحديد تتكرر عبارات (آمنوا بالله) و(الفضل العظيم) و(يضاعف لهم) ففيها تفضلات كثيرة. وكذلك وضع الواو في سارعوا ، آية آل عمران فيها تعاطفات، أماالأخرى فبلا عطف وفي آل عمران نرى المتقين والأمر بالتقوى يتكرر عدة مرات. لما نأتي إلى سياق الآيات لذا نقول دائماً فهم الآيات يكون بالرجوع إلى السياق. نلاحظ الآية الأولى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132)) هناك تشريع ونهي عن ارتكاب إثم عظيم، ودعوة للتقوى، اتقوا ما يوصلكم إلى النار، لاحظ الواوات، ثم (وسارعوا إلى مغفرة) جاءت الآية في إطار العطف. بينما الآية الأخرى في سورة الحديد (أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)) فيها نوع من الإيضاح والشرح لقضية معينة ثم ما عندنا نهي أو أمر فجاءت (سابقوا) من غير الواو. (وسارعوا) لما يكون تشريع ويكون هناك إثم عظيم وهوالربا على ارتكاب المخالفة. وكان كثير من المسلمين يتعاطون بالربا قبل تحريمه فلما جاء التحريم طلب منهم أن يسارعوا وليست مسألة مسابقة وإنما كل واحد مسؤول عن فعله لأنه أمر شخصي فطلب إليه أن يُسرع إلى مغفرة. كيف يُسرع لها؟ بالتوبة والتوبة شخصية فجاءت كلمة سارعوا. ليس هناك مجال للمسابقة أنت وآخَر. الآن المناسبة تعنيك والكلام على الربا والربا شخصي. لكن (سابقوا) الكلام على الدنيا والدنيا فيها منافسات وتنافس ولعب وما من لعب إلا وفيه منافسة واللهو يتنافس فيه الناس والتفاخر الناس يتنافسون فيه. اللعب واللهو كلُ يريد أن يظهر شأنه فيه وتفاخر يتسابقون في الفخر. الموضوع ليس هنا ولكن المسابقة هي أن تتسابقوا إلى مغفرة من ربكم تلجأون إلى الله تعالى عن هذا اللهو والعبث لكن فيه تسابق والسباق قطعاً فيه سرعة وزيادة.