عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا ﴿١﴾    [الطلاق   آية:١]
*ما اللمسات البيانية فى آية سورة الطلاق (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ (1))؟ (يا أيها النبي) نداء للنبي يفترض في غير القرآن لما يقول: يا فلان، أن يقول: إذا فعلت كذا، لكن قال (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء) حكم عام، هذا يُفهم منه أنه عندما يكون الخطاب للنبي المراد بذلك رسول الله مع أمّته لأنه متابَع فلما يُخاطَب معناه خاطب الأمة. لما يقول يا أيها النبي معناه يا أيها النبي ويا أتباع النبي فتأتي العبارة بخطاب المؤمنين كأنه محذوف: يا أيها النبي أنت ومن معك إذا طلقتم النساء لأن الحكم ليس خاصاً برسول الله . إذا خصّه بشيء يكون خاصاً به كما في قوله تعالى (وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ (50) الأحزاب) هذا نص، لكن لما يقول (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا (59) الأحزاب) شيء عام، أي وبنات المؤمنين أيضاً، لأن بنات المؤمنين دخلت ضمن بناتك. الرسول لما يتصرف بشيء، لما يخاطَب بحكم إلا إذا كان دلّ دليل على أن ذلك الحكم خاص به. ليس هناك خلط في النص القرآني (إذا طلقتم النساء) كأنه قال يا أيها النبي ويا أتباع النبي. وقد يكون للتعظيم أنه لما تخاطب تقول: أنتم ذكرتم كذا، لكن هذا ليس مراداً بقدر ما هو مراد للتنبيه أنه لما ينادى النبي المؤمنون ينتبهون فيذكر لهم الحكم العام. الرسول كان يتصرف أحياناً ويقول كلاماً - حتى نفهم كثيراً من الأحاديث التي قد يُشكل فهمها على القارئ - لما يقول كلاماً هذا معناه أنه يريد أن يعلّم المسلمين. في الحديث الصحيح في الترمذي وابن ماجه وأحمد " عن أنس في الترمذي وعن جابر في مجمع الزوائد: عن أنس قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثر أن يقول: " يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك "، قالوا: يا رسول الله! آمنا بك وبما جئت به، فهل تخاف علينا؟ قال: " نعم، إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله يقلبه كيف يشاء " . كيف فهمها الصحابة؟ هل أن الرسول يدعو لنفسه (ثبت قلبي)؟ ما دخل أنه يخاف علينا بالدعاء؟ فهِم أنس أن الرسول عندما يقول شيئاً معناه تعلّموا هذا ورددوه، فلما قال الحديث كأنه يقول قولوا هذا واحفظوه معي. كان يكثر من الدعاء ففهم الصحابة أنه يعلّمهم. ولذلك لما يقول : إني لأستغفر الله في اليوم سبعين مرة، أي تعلّموا، استغفروا ولا يعني أنه حاشاه كان يُكثر من الخطأ فيكثر من الاستغفار. هذه فرصة لبيان هذه الجزئية. (يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن): إذا طلقتم معناه إذا باشرتم أو قاربتم التطليق، إذا نويتم أن تطلّقوا ليكن التطليق وهنّ مستقبلات العدة لأنه لما يطلقها ستلتزم بعدة، أشهر معينة، إما بالحيض أو بإنتهاء الحيض (القُرء إما الحيض وإما الطهر) وهي مستقبلة لما سوف تعدّه، أما وهي في داخل الحيض لا يجوز. كما قال تعالى (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) أي إذا أردتم القيام إلى الصلاة فتوضأوا. فلما يأتي الفعل أحياناً ليس بمعنى المباشرة ولكن بمعنى قرب المباشرة، إذا قاربتم ذلك. (لعدتهن): اللام هنا كأنها لام الزمن، تسمى اللام التي للزمن. لما يقول الكاتب: "انتهيت من كتابة هذا الكتاب لثلاث خلون من رجب" أي لهذا الوقت. فطلقوهن لوقت عدتهن، للوقت الذي يمكن أن يعتدّدن فيه فهي في الحيض لا تعتدّ، فلا يجوز أن تطلق وهي في هذا الحيض. هذه الآية وتبقى الأحكام الفقهية المستنبطة من الآية ومن بعض الأحاديث والواقع هذه شأنها لأهل الفقه ونحن نتكلم على جانب الآية كما هي وفتاوى العلماء تؤخذ من أصحابها من أهل العلم. ولذلك نقول هدم البيت لا يكون بسهولة، يغضب الإنسان ويقول أنت طالق، لا ولكن يجب أن ينظر في حالها، ينظر في وضعها، أنها ليست حائضاً، أنها في طهر لم يمسها فيه، كانت حاضت وانتهى حيضها وهي طاهر فإذا كان قد واقعها فلا يجوز له أن يطلقها حتى تأتي الحيضة وتنتهي وتعود طاهر في طهرها لم يمسها فيه عند ذلك يطلق. لاحظ المدة لأن الإسلام يريد أن يبقى البيت مبنياً ليست مسألة فورية لعل النفوس تهدأ وسنجد في نهاية الآية (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا). (وأحصوا العدة): أي إضبطوا العدد وكان العدد يضبط بالحصى إذا أراد أن يعد شيئاً يعده بالحصى (حصاتين، ثلاث، أربع) وأصل الإحصاء مأخوذ من الحصى كانوا يعدون بالحصى. هذا الذي كان جالساً في المسجد كان يسبح 33 ويحمد33 ويكبر 33 فواضع أمامه حصيات ينقلها من مكان لمكان فأنكر عليه إبن عباس رضي الله عنهما وقال لو أن كل المسلمين أحصوا بالحصى يمتلئ المسجد بالحصى فالتسبيح يكون على السُلامى واستنبط منه بعض العلماء إنكار التسبيح بالمسبحة، هذا اجتهاد إبن عباس قد لا يلزم الآخرين لكن إجراؤه سليم. فإذن أصل الإحصاء من الحصى. أحصوا العدة: أي أتقنوا إحصاء وقتها. (واتقوا الله ربكم): لاحظ هذه اللمسة لم يقل واتقوا الله فقط. كان يمكن في غير القرآن أن يقول: "أحصوا العدة واتقوا الله" لكن كلمة ربكم جاءت هاهنا لأن الربّ فيه معنى التربية وفيه معنى التوجيه وفيه معنى الرعاية فالمربي يرعى من يربّي. فإذن اعلموا أن هذا الحكم هو من رعاية هذا الربّ سبحانه وتعالى. (إتقوا الله) تخويف من الله أي خافوا الله، ثم (ربكم) الذي يعلّمكم فجمع بين التخويف وبين هذه اللمسة لقلوب المؤمنين أن هذا الحكم ليس قاسياً عليكم، ليس لإيذائكم، ليس للإضرار بكم. فخافوا من الله أن تخالفوه واعلموا أنه لخيركم من مربٍّ (واتقوا الله ربكم). لاحظ الواو في (وأحصوا، واتقوا) كان يمكن أن يقول في غير القرآن "ولا تخرجونهن" لكن حذف الواو كأنه ابتدأ كلاماً جديداً لبيان أهمية ما سيأتي بعده (لا تخرجوهن). الواو للعطف فيها ربط لكنه كأنه قال قفوا، هناك شيء، قال (لا تخرجونهن من بيوتهن) لم يقل: ولا تخرجونهن، كأنه حكم مهم إشارة إلى أهميته. ثم قال (لا تخرجوهن من بيوتهن) قال بيوتهن مع أنها بيوتهم والبيت للرجل لكن سماه: من بيوتهن إشارة إلى شدة إلتصاقها بالبيت، لا تخرجها هذا بيتها، لا تخرجونهن من بيوتهن لا يجوز لك أن تُخرج المطلقة من بيتها. أدب القرآن أن تبقى في بيتها. (ولا يخرجن) هي أيضاً لا تغادر البيت وتبقى وهذا نوع من التقريب: تبقى في البيت وهو في البيت وهي لا تخرج وقد يكون هذا سبباً في إعادة الألفة ممكن صار إصرار بسبب من الأسباب وإنتظر لوقت الطهر وبقي مصراّ على الطلاق وبعض العلماء يقولون هذا حكم (لا تخرجوهن) نهي و (ولا يخرجن) هذا نفي أريد به النهي إلا إذا إتفقا من غير إرهاق. وسبق وقلت أن هذه القضايا الفقهية لا نخوض فيها. المطلقة لا يجوز لزوجها أن يخرجها من بيتها ولا تخرج هي من البيت مدة العدة وتبقى هناك فتاوى فقهية لأهل الفقه. (إلا) إستثناء أي أن الخروج معلّق على شرط (أن يأتين بفاحشة مبيّنة) الفاحشة هي كل ما فيه عِظَم في الإساءة. يقال هذا ثمن فاحش أي فيه مغالاة. فأي عمل فيه مغالاة في السوء قد يُسبب إخراجها، يقولون إذا أساءت إساءة عظيمة إلى الرجل- قبل مدة شاهدت إحدى الأستاذات جزاها الله خيراً على ما تقوم به من توجيه، إتصلت بها امرأة تشكو قضية مع زوجها تقول لها عندي مشاكل مع زوجي وضربته بالشبشب فما الحكم في هذا؟ فأخفت الأستاذة وجهها وصارت تضحك - إذا وصل الأمر إلى هذا الحد أن تتجاسر على زوجها فهذه فاحشة. الفاحشة هي الفعل السيء العظيم ومنه الزنا. فإذا ارتكبت الزنا في بيتها عند ذلك تخرجها بإقامة الحدّ عليها . ومنه رتب الفقهاء أنه ليس الزنا حصراً فاحشة فالزنا نوع من الفاحشة وإنما إذا إرتكبت فاحشة بحق زوجها أو حق أم زوجها وهي في البيت ويقدره أهل العلم في وقتها يمكن أن تخرج من بيتها أما بدون هذا (ولا يخرجن). (مبيّنة) أي فاحشة واضحة صريحة يعلمها الناس، لا تقول هي نظرت إليّ نظرة شزراً هذه فاحشة بالنسبة لي، لا، هي ليست فاحشة مبيّنة عند الناس لكن أن تقول لك كلاماً أو تتصرف معك تصرفاً هو من السوء العالي العظيم لأن البيت في الغالب كان يعني الحُجرة، الرسول  في مرض موته طلب أن يُطبّب في بيت عائشة (بيت عائشة كان حجرة) حجرات أمهات المؤمنين لذا كان هناك ستارة تختبئ وراءها المرأة إذا جاء ضيوف. (وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ): لأنه يسيء إلى نفسه ويدخلها النار. لا تدري هذا الحكم من أجل ماذا هذا التطويل؟ (لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) لعل الله تعالى يجمع بينكما من جديد. فإذن الإسلام يحرص على عدم هدم البيت المسلم لأنه أساس بناء المجتمع المسلم. الطلاق في الإسلام ليس بالأمر السهل الهيّن، هذه المراحل والمراتب وتبقي المرأة في حجرتك تنامون وتجلسون وتأكلون حتى الغُسل كان يتم في نفس الحجرة إلا قضاء الحاجة فكان خارجاً في الخلاء. إذا حصل كدر في وقت من الأوقات لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً. هذا من حرص الإسلام على الصلح.