عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿٣١﴾    [الإنسان   آية:٣١]
*ما التوجيه الإعرابي لكلمة (والظالمين) في الآية (يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31) الإنسان)؟ الواو ليست للعطف وإلا لعطف الظالمين على الذين يدخلهم تعالى في رحمته وليست للإستئناف. هذا يسمونه باب الإشتغال. في الإشتغال الواو هنا واو عاطفة جملة على جملة أو إستئنافية يعني تقدير الكلام: وأعدّ للظالمين عذاباً أو أُذكر الظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً. فهو باب في النحو يسمى باب الإشتغال كأنه تعالى عاقب الظالمين لأنه لما يكون الإشتغال بحرف جرّ يأتون بالمعنى. هنا الإشتغال بحرف جر (والظالمين أعدّ لهم). لما نقول: زيدٌ أكرمته: الفعل أكرم يتعدّى، تقول أكرمت زيداً (زيداً مفعول به) ولك أن تقدّمه للإهتمام فتقول: زيداً أكرمت فيكون مفعول به مقدّم، لكن لما تقول: زيداً أكرمته (أكرم) أخذ الهاء فمن الذي نصب زيداً؟ قالوا هنا الفعل إشتغل بنصب ضميره عن نصبه. كيف نعرب زيداً؟ قالوا فيها شتى الأقوال ولكن أفضل الأقوال في الدراسة الحديثة هو ما ذهب إليه الدكتور فاضل السامرائي في كتابه معاني النحو يقول نعرب زيداً إسم منصوب على الإشتغال وكفى. لا نقول هناك فعل محذوف. هنا (والظالمين أعدّ لهم) لأن هذا إشتغل عن طريق حرف الجر (لهم) فتُأوّل عند ذلك من معناها يعني (عذّب الظالمين أو عاقب الظالمين أعدّ لهم عذاباً أليماً) يقدّر فعل. أما على رأي الدكتور فاضل (والظالمين) إسم منصوب على الإشتغال وإنتهى. مثل زيداً مررت به كأنه المقصود: جاوزت زيداً مررت به لكن من أين جئنا بفعل جاوزت؟ قُل منصوب على الإشتغال وإنتهى الأمر. النحو علمٌ نضج وإحترق فلا يبعد أن يكون أحد العلماء القدامى قال مثل هذا الكلام الذي قاله الدكتور فاضل لكن إلى الآن فالدكتور فاضل هو الذي قال هذا الكلام. (والظالمين) منصوب على الإشتغال وليس معطوفاً على مرفوع. الخطوط التعبيرية في سورة الإنسان الواضح في هذه السورة أنها بُنيت على التثنية ووردت الأشياء فيها صنفين على سبيل المثال: ذكر صنفين من الناس: الشاكر والكفور، وفي آخرها ذكر المرحوم والمعذّب. ذكر صنفين من العذاب: القيود والسعير. وذكر صنفين من القيود: السلاسل والأغلال. وذكر صنفين من أصحاب الجنة: الأبرار وعباد الله السابقين. وذكر نوعين من الشراب الممزوج: الممزوج بالكافور والممزوج بالزنجبيل. وذكر نوعين من العبادات الظاهرة: الوفاء بالنذر والإطعام. وذكر نوعين من العبادات القلبية: الخوف (نخاف من ربنا) والإخلاص (إنما نطعمكم لوجه الله). نفى المُطعمون عن أنفسهم أمرين: الجزاء (وهو المكافأة بالفعل) والشكور (الثناء باللسان). لقّاهم شيئين: النضرة (وتكون في الوجه) والسرور (في القلب). جزاهم الله تعالى بصبرهم شيئين: الجنة (للأكل) والحرير (للبس). ونفى عنهم رؤية شيئين: الشمس والزمهرير. وذكر دنو شيئين منهم: الظلال والقطوف. ذكر الطواف بشيئين: الآنية والأكواب. ذكر الشُرب بصورتين: من الكأس ومن العين. وذكر نوعين من الشرب من الكأس: شرب بساقي وشرب بدون ساقي. ذكر نوعين من الثياب: سندس واستبرق. ذكر نوعين من الزينة: لباس وأساور. ذكر لهم شيئين: جزاء وسعيكم مشكورا. نهى عن إطاعة صنفين من الناس: الآثم والكفور. طلب من الرسول  الصلاة والتسبيح في النهار والليل. ذكر وقتين: بكرة وأصيلا. ذكر عبادتين في الليل: السجود والتسبيح. ذكر حياتين: الدنيا (العاجلة) والآخرة. وذكر الحبّ والترك (يحبون ويذرون). ذكر أمرين من أمر الإنسان: الخلق وشدّ الأسر. ذكر مشيئتين: مشيئة الله تعالى وكشيئة الإنسان (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله، ويخل من يشاء في رحمته). ختم بصنفين من الناس: المرحوم (يُدخل من يشاء في رحمته) والمعذّب (والظالمين أعدّ لهم عذاباً أليما). والسورة فيها خط آخر: أنه يذكر الأحداث المستقبلية بالفعل الماضي: (إنا أعتدنا للكافرين) (كان مزاجها) (كان شره مستطيرا) (فوقّاهم) (ولقّاهم) (وجزاهم) و(ذُللت) (كانت قواريرا) (قدّروها) (حُلّوا) (سقاهم) (كان لكم جزاء) (كان سعيكم) (أعدّ لهم). هل للتعبير عن المستقبل بالفعل الماضي دلالة بيانية محددة في اللغة؟ العرب والقرآن يُعبّرون عن الأحداث الماضية بفعل مضارع وعن الأحداث المستقبلية بفعل ماضي. والتعبير عن الأحداث المستقبلية بالفعل الماضي دلالة على أن هذا الأمر واقع وهو بمنزلة ما مضى من الأفعال. فلا شك في وقوع حدث ماضي لأن الفعل الماضي لا شك في حدوثه فهذه الأحداث المستقبلية وإن كانت مستقبلة فهي بمنزلة ما مضى من الأفعال ولا شك بوقوعها. فكما أن الفعل الماضي حصل ووقع فهذه بدلالة ما وقع وحصل. كما في قوله تعالى (وسيق الذين كفروا) وكذلك قوله (ونادى أصحاب الأعراف). فهذه الأحداث المستقبلية هي من التحقق بمنزلة ما مضى من الأفعال. وبالمقابل له أكثر من غرض متى يستعمل الفعل الماضي في المضارع؟ قال تعالى (قد نرى تقلب وجهك في السماء) حكاية الحال الفعل الماضي تضفي عليه الحركة والحيوية وتجعله كأنه معاصر خاصة في الأمور المهمة. وقال تعالى (فلم تقتلون أنبياء الله من قبل) لم يقل قتلتم وهذا من باب التشنيع على الفعل فعندما تكون الأمور مهمة التي تحتاج إلى جعلها صورة معاصرة لأن الإنسان يتفاعل مع الصور الحيّة معه القريبة منه وهي ليست كالأحداث الماضية البعيدة عنه، فقد نسمع أحداث ماضية ولا نتفاعل معها لكننا بالتأكيد نتفاعل مع حادثة قتل أمامنا مثلاً. فالعرب عموماً إذا أرادوا حكاية الحال ليعبّروا عن الأحداث الماضية يجعلونها حيّة. ويقول النحاة إما ينقلك إلى الحدث أو ينقل الحدث إليك. وكلاهما تعبير عن الأفعال الماضية بالفعل المضارع ويدخل في زمن الفعل. وللفعل أزمان متعددة وللفعل الماضي وحده 16 زمن وما يُدرس في المدارس والجامعات هو زمن واحد أي الماضي فقط. فالتضاد من الخطوط التعبيرية في السورة فما فائدة التضادّ في اللغة؟ التضاد يُبرز المعنى ويوضحه. والشيئ يُظهر حسنه الضدّ.