عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ ﴿٢﴾    [المعارج   آية:٢]
*ما دلالة اللام في قوله تعالى (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) المعارج)؟ في ستة مواطن في القرآن ورد (وقع على) لأن الوقوع هو سقوط من أعلى، المناسب للوقوع هو (على)، في مكان جاءت (واقع بهم) استعمل الباء وهنا استعمل اللام (للكافرين) ولكل استعمال غرضه البياني. من البداية (الباء) في قوله (بعذاب) عادة يقال سأل عن الشيء، سأل بالشيء فلا بد أن يكون لها لمسة بيانية. كان يمكن أن يقول: سأل سائل عن عذاب واقع على الكافرين والله تعالى لا يعجزه ذلك فلما يأتي بهذه الصيغة ينبغي أن نبحث. الباء (بعذاب) الباء للإلصاق كأنه ألصق الشيء يقال كتبت بالقلم كأنه إلتصق بيدك وقد تأتي للسببية (مررت على زيد بهذا الأمر) أي بسبب هذا الأمر. لما نبحث عن أسباب النزول - وليس شرطاً أن نعرف السبب وإنما من عموم اللغة- لكن السؤال هنا لم يكن سؤال مستفِهم وإنما سؤال طالِب. السؤال هو بمعنى الطلب، سأله أي يطلب إجابة وأحياناً يطلب شيئاً. أصل الآية عندما نزلت في إنسان كان عنده نوع من المجابهة ونوع العنجهية (إئتنا بعذاب) أي طلب عذاباً ويقال في الروايات أنه رُميَ بصاعق كما تقول الروايات وهو خارج، سأل العذاب فوقع عليه، فلما طلب هذا الطالب عذاباً (سأل سائل بعذاب) فالباء عند ذلك تكون زائدة – لا نعني أن وجودها كعدمه – لما نقول (وكفى بالله حسيباً) أو (وكفى بالله شهيدا) في غير القرآن يمكن أن نقول وكفى الله شهيداً، (وما ربك بظلام) وما ربك ظلام يقولون الباء زائدة لكن حقيقتها للتوكيد، حقيقة الباء للتوكيد. لما نقول هي زائدة فهذا مصطلح لا يعني أن وجودها كعدمه وإنما نعني أنها لا تتعلق وما بعدها بشيء لأن الجار والمجرور يتعلقان كما نقول (كتبت بالقلم) الجار والمجرور (بالقلم) يتعلقان بالفعل (كتب)، (زيدٌ في الدار) الجار والمجرور متعلقات بزيد أي زيد موجود في الدار. لما نقول (وما ربك بظلام للعبيد) لا نقول الجار والمجرور (بظلام) متعلقة فهي ليست متعلقة بشيء لذا يقال الباء مؤكدة وظلاّم خبر (ما) منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة منع من ظهورها إشتغال المحل بحركة حرف الجر الزائد (الباء تعمل لكن لا تتعلق مع ما بعدها). (بعذاب) مفعول به منصوب وعلامة نصبه الفتحة المقدرة وجُرّ بالباء لفظاً (وإن كان بعض العلماء لا يجيزون هذه العبارة). سأل سائل كأنه قال طلب طالب عذاباً وجاءت الباء للتوكيد. ليس هذا فقط، صحيح فيها معنى التوكيد فقط وإنما فيها معنى الإلصاق أيضاً أي أن العذاب لاصق به وهذا العذاب فعلاً وقع. ومعاني الباء كثيرة وإبن هشام يذكر لها إثني عشر معنى. يقول العذاب (واقع) سيقع لكن أكبر من (سيقع) (واقع) لا محالة ولم يقل بعذاب سوف يقع فيها تراخي وإنما قال بعذاب واقع، واقع للكافرين إن لم يكن الآن فهو واقع في الآخرة لأن الآيات بعدها تتكلم عن الآخرة لذا قلنا المعنى ليس فقط منحصراً بسبب النزول. (للكافرين): اللام أيضاً لها معاني من جملتها الملك كأن نقول: الكتاب لزيد أي يملكه. اللام فيها معاني متعددة، هذه اللام لما نقول واقعٌ له، ما الذي وقع له؟ ما الذي امتلكه من الآية؟ امتلك عذاباً، تخيّل أن هذا العذاب يرتبط به كأنه ملكية. وأحياناً تكون للتخصيص أي خاص به، ملكٌ له، مرتبط به. اللام فيها مجموعة من المعاني ولو قيل في غير القرآن: بعذاب واقع على الكافرين تفوت تلك المعاني ويبقى معنى نزول العذاب عليهم فقط. أصل المسألة كأن فيها نوع من المشادة كأنما فأراد أن يجمع لهذا ومن يكون على منهجه أن هذا العذاب سيلصق بكم إلتصاقاً و سيكون كأنه ملك لهم وهذه صورة مخيفة للعرب لأنها أشد لأن تأتي اللام بمعنى على. وهناك ارتباط بين اللام والباء وإبن هشام يقول في كتابه معاني الحروف يذكرإثنا عشر معنى لللام منها المِلك (لله ما في السموات) من معانيها إنتهاء الغاية (كلٌ يجري لأجل مسمى) كأن غاية العذاب ينتهي إليهم، صار ملكاً وغاية. وتنطبق على الآية، والإستعلاء (ويخرون للأذقان) تضمن معنى (على) وزاد عليها معنيين إنتهاء الغاية والملك، فإجتمعت كل هذه المعاني في كلمة (للكافرين). *ما الفرق بين (مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) الطور) و(لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) المعارج)؟ لماذا استعمل مرة (ليس) ومرة (ما)؟(د.حسام النعيمى) سؤال طريف حقيقة يدل على تنبّه أنه كلتا الآيتين تنفي وجود الدافع عن العذاب. العذاب واقع ففي الآية الأولى لا يوجد شيء سيمنع هذا العذاب وفي الآية الثانية لا يوجد شيء سيمنع هذا العذاب. لكن صيغة التعبير مرة جاءت (ما له من دافع) ومرة جاءت (ليس له دافع) فهو من حقه أن يسأل حقيقة لأنها تلفت النظر. بشكل أولي حقيقة نحن عندنا تأكيد الجمل : الجملة الإسمية آكد وأقوى من الجملة الفعلية. (ليس) فعل فحينما تنبني مع مبتدأ وخبر تكون الجملة فعلية ولذلك الجملة مع (ليس) أقل توكيداً. أنت تقول: ليس زيدٌ حاضراً في نفي حضور زيد لمن ليس في ذهنه شيء لكن إذا كان شاكّاً فلك أن تقول له: ليس زيدٌ بحاضر لك تؤكده بالباء ولك أن تنتقل من الجملة الفعلية إلى الجملة الإسمية فتقول: ما زيد حاضراً لأن (ما) حرف فدخولها على الجملة لا ينقلها من إسميتها إلى الفعلية. (ما زيدٌ حاضراً) آكد من (ليس زيد حاضراً) فيها تأكيد. الآية الأولى استعملت(ما له من دافع) (ما) فالجملة الإسمية، (ليس له دافع) الجملة فعلية، فالآية التي في سورة الطور آكد يعني فيها تأكيد من الجملة التي في سورة المعارج. لكن يبقى السؤال: طبعاً هنا (ما له من دافع) (من) التبعيضية يعني فيها زيادة تأكيد حتى جزء دافع ما له. (ما و من) بدل (ليس). لو قال: (ماله دافع) ستكون مجرد تأكيد بينما (ما له من دافع) زيادة في التأكيد. يبقى السؤال: السياق الذي وردت فيه الآيتان: لما ننظر فيه نجد أن الآية الأولى التي في الطور فعلاً تنسجم مع شدة التوكيدات والآية الثانية أصلاً ليس فيها توكيد. نلاحظ الآية الأولى في الطور تبدأ السورة بقسم والقسم توكيد، لما تقسم على شيء فأنت تؤكده فإذن فالجو جو تأكيد (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8)) قسم لتذكير بيوم القيامة (إن عذاب ربك لواقع) و(إنّ) تأكيد مشددة واللام (لواقع) مؤكدة، لاحظ المؤكدات فالجو جو توكيد فجاء (ماله من دافع) فجاءت منسجمة مع الجو العام للسورة التي هي تعيش في توكيدات. لكن لما نأتي إلى السورة الثانية سورة المعارج (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3)) هكذا تبدأ السورة فليس فيها جو توكيدات حتى يؤكد. هناك الجو بكامله جو تأكيد فاستعمل الصيغ التي تتناسب مع جو السورة ونحن دائماً نقول حقيقة الكلمة تناسب جو السورة ،الآية تناسب جو السورة هناك تناسب. لما ننظر هنا لاحظ (سأل سائل) كلام اعتيادي لماذا؟ هذا سائل والسائل هنا لا يعني المستفهم وإنما يعني الذي يدعو، هذا شخص لم يذكره القرآن الكريم من هو على عادته في إفال ذكر الأشياء التي لا أهمية لها. (سأل سائل) يعني دعا على قومه ونفسه بالعذاب وهذا معنى سأل والعذاب واقع ، العذاب سيقع سواء هو سأله أو لم يسأله واقع على الكافرين لا محالة. هذا الروح روح سؤال العذاب تتكرر عند العرب في أكثر من موضع. انظر في سورة الأنفال آية 32 و33 (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)) يعني الإنسان ماذا يتوقع؟ العرب كانت تعرف الله عز وجل ويقولون يا الله واللهم (وإني إذا حدثٌ المّ أقول ياللهم ياللهم) يعني حينما يقول إذا أصابنا شيء ندعو، إذا حدثٌ المّ يقول ياللهم يجمع بين يا والميم. فماذا نتوقع من قوم يقولون: يا رب إذا كان ما يقول محمد  هو الحق من عندك فما الجواب؟ المنطق: إذا كان هذا هو الحق فاشرح صدورنا له، إذا كان هذا هو الحق فاجعلنا نتّبعه لكن لاحظ هذه القسوة في قلوبهم وأن تأخذهم العزة بالإثم، هذه الشدة فقالوا (وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) يا مساكين أنتم تقولون إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة؟ يعني كيف؟ هذا يدل على انفعالهم الوقتي. يعني هم منفعلون لأن القرآن الكريم بعد ذلك وضّح لنا حالتهم النفسية كيف قال لاحظ وهذه صورة عجيبة في البيان القرآني (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) وجودك يا محمد  في هؤلاء مانع من العذاب. مانع أوّل و(وما كان الله معذبهم وأنت فيهم) (وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) معناه أنهم بعد هذا القول بلحظات صاروا يستغفرون: اللهم اغفر لنا، يخشون أن ينزل عليهم العذاب. هل أفادت التعدية بالباء معنى التكذيب؟ التعدية بالباء في (بعذاب) حقيقة سأل بالشيء يعني كأنه دعا به لبيان أن هذا الفعل قد استُخدم في معنى آخر غير المعنى الأساسي الذي هو الاستفهام لكن هذا السؤال هو دعاء أيضاً أو طلب فهو طلب هذا العذاب لكن حمّله معنى الدعاء أنه طلب بدعاء فدخلت الباء كما تدخل على الفعل دعا (دعا بكذا على قومه).