عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴿١٣﴾    [الحديد   آية:١٣]
  • ﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿١٤﴾    [الحديد   آية:١٤]
آية (13-14): (يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14)). *نظرة عامة على الآية : بعد أن ذكر المؤمنين والمؤمنات ذكر المنافقين والمنافقات بمقابل المؤمنين والمؤمنات حتى يدل على أن كل فرد من الجنسين الذكور والإناث ينال جزاءه للا يشفع لأحد ما قرابة وما تغني المؤمنة عن قريبها المنافق أو قريبتها المنافقة كما أن المؤمن لا يغني عن قريبه ولا عن زوجه وإنما كل واحد بنفسه ولا تقول المنافقة كنت تابعة لزوجي أو لأخي وإنما كل واحد ينال جزاءه. المنافقون والمنافقات مقابل المؤمنين والمؤمنات يقولون للمؤمنين (انظرونا نقتبس من نوركم) يمعنى انتظرونا ولم يقولوا انتظرونا لأن الانتظار فيه تمهل وإبطاء أما الإنظار فليس فيه ذلك ولا يشترط فيه ذلك. انتظر على وزن (إفتعل) وفيها تمهّل مثل اصبر واصطبر وكسب واكتسب وجهد واجتهد. اصطبر هو صبر طويل شديد، (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) المزمل) (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا (132) طه) لأن الصلاة هي كل يوم خمس مرات كل يوم ولا تنقطع طوال العمر. أما اصبر على ما يقولون واهجرهم لا يحتاج لصبر لكن قال (واصطبر عليها) لأن الصلاة تحتاج لصبر طويل ودائم. صيغة افتعل فيها تمهّل ومدّة واجتهاد وإبطاء. مثل كسب واكتسب (لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (286) البقرة) الإكتساب فيها تعمّل واجتهاد وليست اكتسب عامة أنها في الشر. الكسب يكون في الخير والشر لأن الكسب أسرع والاكتساب فيه تعمّل واجتهاد وكسب حتى يكتسب والسيئات تحتاج إلى مشقة أما الخير فقد يأتيك وأنت لا تعلم، يغتابك أحد وتكسب أنت خيراً وهو يكتسب شراً. لم يقل انتظرونا لأن الانتظار فيه تمهل وإبطاء وهؤلاء يُسرع بهم ولو قالوا انتظرونا ليس هناك مجال أن يجيبوهم، انظرونا ولو قليل، هم يُسرع بهم الآن إلى الجنة فلا ينتظرون، هم يعلمون أنه لو قالوا انتظرونا لم يجيبوهم لأنه ليس هناك فسحة للوقت فهم طلبوا أقل الوقت. (المنافقون والمنافقات) في صدر الآية حتى لا يشفع أحدهم للآخر لا تقول المنافقة هذا زوجي يملك أمري كان منافقاً فماذا أفعل؟ لا يشفع هذا لها وينبغي أن تستقل بالعقيدة استقلالاًـ فيها إفراد لتتحمل المسؤولية لا يغني عنك هذا. في العقيدة ليس هناك طاعة "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق" التغليب يدل على العموم والشمول وأحياناً يراد به التفصيل. (انظرونا نقتبس) تحتمل انظروا لنا، هي فيها احتمالين انظروا إلينا نقتبس من نوركم. (أَنظَره بمعنى أمهله) (قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) الأعراف) هذا فعل رباعي انظرني من الفعل الرباعي، انظر مضارعه يُنظِر وكل رباعي مضموم حرف المضارعة. هنا أُنظرونا من نظر ينظر. انظرونا لها معنيين: على الإمهال (أنظرني في الدِيْن) أي أمهلني وانظرونا بالعين. نظر فعل متعدٍ بذاته (فَلْيَنظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا (19) الكهف). ذكرنا المنافقين والمنافقات وذكرنا أنه فصّل وذكرهم ليدل على أن كل فرد من الجنسين ينال جزاؤه ولا يشفع لأحدهم قرابة فلا تقول المنافقة كنت تابعة لزوجي أو أخي. وذكرنا أن الانتظار فيه تمهل وإبطاء وقلنا أن نظر أسرع من انتظر لأن انتظر فيها تمهل وإبطاء على وزن (إفتعل) وضربنا أمثلة في حينها والمؤمنون يُسرع بهم إلى الجنة فلا يوجد وقت للانتظار والمنافقون يعلمون هذا ولو قالوا لهم انتظرونا لم يجيبوهم ولم يأبهوا لهم لأنهم يُسرع بهم إلى الجنة فطلبوا مدة قليلة أن ينتظروهم ولو كان في الأمر متسع في الوقت كما قال تعالى في الدنيا (فانتظروا إني معكم من المنتظرين) لكن الظرف لا يسمح بالانتظار والتمهل الكثير. قال انظرونا وهي ليست مثل انتظرونا من حيث دلالتها على الزمن. إبليس قال (أنظِرني إلى يوم يبعثون) أي أمهلني وهذا معنى مختلف. أَنظِرني أي أمهلني أما انظرونا بمعنى انتظرونا وهنا لم ترد اَنظرونا من أنظر الفعل الرباعي كما قال إبليس وإنما انظرونا من الفعل الثلاثي نظر ينظر وليس من أنظر. أُنظرونا في اللغة تحتمل أمرين: أنه انظروا إلينا وبمعنى انتظرونا وذكرنا هذا سابقاً. انظرونا أي استقبلونا بوجوهكم حتى نرى لأن لديهم نوراً في أيديهم حتى يستضيؤا به، قال انظرونا. إذن تحتمل معنيين يحتمل الانتظار ولو كان قليلاً ليستضيؤا بهم ويحتمل انظروا إلينا ليمشوا في نورهم. (نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) أي نُصِب من نوركم وليس بمعنى نأخذ لأن القبس يستعمل في النار وهو الشعلة من النار. القبس ويقال اقتبس من علمه لكن في الأصل هو الشعلة من النار (بشهاب قبس) لكن فرق بين نأخذ ونقتبس فالقبس أن تأتي بعود وتضعه في النار فيشتعل فتأخذه أما الأخذ فهو أن تلتقط من النار لذا قال تعالى (نقتبس) ولم يقل نأخذ لأن الاقتباس لا يُنقِص من المقتَبَس أما الأخذ فقد ينقص منه لذلك قال تعالى (نقتبس من نوركم) أي أن نوركم باقٍ لكن دعونا نقتبس منه ولا نأخذ منه ولو قال نأخذ منه حتماً سيردّوهم. ولذلك قال نقتبس لأنه لن يؤثر على نورهم والنور كبير عندهم. أما لو قال نأخذ قطعاً يعرفون أن المؤمنين لن يوافقوا على هذا الطلب. قال (نقتبس) ولم يقل نقبس لأن الاقتباس أعظم من القبس (اقتبس على وزن افتعل) أكثر. هذا يدل على عِظَم نور المؤمنين فهو ليس قليلاً مهما أُخِذ منه فهو كثير فقالوا نقتبس من نوركم وهذا يدل على عظم النور الذي أعطاه الله سبحانه وتعالى للمؤمنين. فقالوا نقتبس، رأوا نوراً عظيماً عند المؤمنين فقالوا (نقتبس). هذا يشير للسامع العربي إلى النور العظيم الذي أعطاهم إياه الله تعالى حتى يقول المنافقون نقتبس منه وهذا معناه أنه نور عظيم وهذا يدل على إكرام المؤمنين، هذا النور لا ينقص بالاقتباس وهو كثير. هذا ليس من قبيل زيادة المبنى تدل على زيادة لمعنى هو في الغالب هذا صحيح لكن في بعض الأحيان قد يكون البناء الأقل أبلغ من البناء الأكثر مثلاً من صيغ المبالغة (حذِر) وحاذِر إسم فاعل لكن حذِر أبلغ من حاذر مع أن حذر بناؤها أقل. فهذه ليست قاعدة مضطردة. (نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ) لم يقل من النور الذي معكم. وقال (يسعى نورهم) إذن هو نورهم هم، ملكهم، ليس من النور الذي معكم وإنما لكل واحد منهم نور. * هل في هذا دلالة على التملك؟ هو دلالة على شبه التمليك فهو أي النور لا يملّك. ما قالوا انظرونا نقتبس من هذا النور لأن من نوركم أكبر ونور المؤمنين أكرم فكل واحد له نور عظيم وليس نوراً عادياً بحيث يمشون فيه وإنما لكل واحد نور خاص يمشي به. (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا): لاحظ الآية تقول (يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا) إذن هم يخاطبون الذين آمنوا، (قيل) فعل مبني للمجهول ولم يقل قالوا لأنه من الذي قال؟ الملائكة لأن المؤمنين مشغولون بما هو أعظم وأهمّ وأدعى للاهتمام لذلك قال (قيل ارجعوا) الملائكة هم الذين قالوا لأن هذا ليس كلام المؤمنين وإنما هم يُسعى بهم إلى الجنة فليس عندهم وقت للوقوف والكلام. *(قيل ارجعوا وراءكم) إرجعوا فيها دلالة الوراء فما دلالة وراءكم؟ هذه فيها أكثر من أمر في اللغة: إما أن يكون ظرفاً مؤكِّداً (وراءكم) ونحن عندنا ظرف مؤكد وظرف مؤسس كما عندنا حال مؤكد وحال مؤسس ونعت مؤكد ونعت مؤسس. المؤسس هو الذي يؤسس معنى جديداً غير موجود في الجملة مثل: أقبل أخوك مسرعاً، رأيت أخاك نائماً، نائماً ليست من رأيت أخاك وليس لها علاقة برأيت أخاك هذه يسمونها حال مؤسسة. أما قوله تعالى (ولّى مدبراً) حال مؤكدة. عندنا ظرف مؤسس وظرف مؤكد، ظرف مؤسس أكثر مثال على الظروف تقول: جاء يوم الجمعة لأن المجيء يمكن أن يكون في أيام أخرى، جلس بين الأشجار (مؤسس) لكن جلست زمناً لا بد أن يكون له زمن، تكلّم حيناً هذا يسمى ظرف مؤكد. (وراءكم) ظرف مؤكد لـ (ارجعوا). والدلالة التي يزيدها التوكيد هنا لأن التأكيد مطلوب في اللغة كما قال تعالى (فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ (26) النحل) السقف معروف أنه فوق وكذلك قوله تعالى (وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ (38) الأنعام) معروف أن الطائر يطير بجناحيه فالتوكيد موجود في اللغة وغرضه البياني زيادة في التوكيد والاهتمام. وقد يكون (وراءكم) إسم فعل بمعنى ارجع فيكون فيها تأكيدين: إسم الفعل وتأكيد بالفعل. (إرجعوا وراءكم) فيها إهانة أشد للكافرين. ثم (وراءكم) ليس بالضرورة أن تكون مؤكدة. لما تقول إرجع قد ترجع في مكانك بظهرك من غير إستدارة لكن لما تقول إرجع وراءك فلا بد أن تستدير وترجع للمكان الآخر فهناك فرق بين ارجع أي أفسح المجال أو وسِّع أما ارجع وراءك فهو أمر آخر وهو أن يذهب للخلف يستدير ويرجع فهذا كالطرد. (قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا)، قيل ارجعوا قلنا أن المؤمنين لم يقولوا هذا الكلام وإنما الملائكة قالتها لأن المؤمنين مشغولون بما هو أهمّ. لم يقل هناك نور وإنما قال (فالتمسوا نورا) أي اطلبوا منهم نوراً، لم يقل هناك نور موجود وإنما قال إلتمسوا نوراً. (فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ) حُجِز بينهم ولم يقل بينهما مع أنهما فريقان كما قال في آية أخرى (فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) النمل) أي بين الأفراد أجمعين لأنه قال بالجمع منافقين ومنافقات وعندنا مؤمنين ومؤمنات فضرب بينهم على الجمع أي حُجِز بينهم بسور. ضرب في اللغة لما تأتي بالباء (ضرب بينهم بسور) أي ليس ضرباً بالعصى وإنما حُجِز بينهم ويسمى هذا تضمين يعني يضمّن الفعل معنى آخر. أصل الفعل يتعدى بحرف جر ثم يأتي بفعل آخر لا يتعدى بهذا الحرف وتعدّيه بهذا الحرف الجر فيعطي معنى آخر، مثلاً: نصرناهم من الذين كفروا، فعل نصر لا يتعدى بـ (من) وإنما فعل نجّى يتعدى بـ (من) فلما قال نصرناهم من ضمّن معنى نجّى واكتسب معنى النجاة ومعنى النصر. هذا يسمى في اللغة التضمين يكتسب معنيين المعنى الأصلي المذكور ومعنى ذلك الفعل الذي أشار إليه بحرف الجر. (ضرب بينهم بسور) أي حجز بينهم. السور هو ما أحاط بالشيء لكنه قال (له باب) حتى لا يُظنّ أن المؤمنين محتجزون فيه. لو لم يكن له باب يحتمل أنهم محتجزون. المؤمنون والمنافقون حُجِ. بينهم بسور هذا السور له باب يدخل منه المؤمنون ينفذون منه إلى مرادهم إلى الجنة والمنافقيون لا يستطيعون أن ينفذوا منه. فالسور يحجز بينهم بحيث هذا الباب يفضي بالمؤمنين إلى الجنة والمنافقون خارج السور والمؤمنون داخله فهمنا هذا من قوله تعالى (باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) داخله فيه الرحمة وهي الجهة التي فيها المؤمنون وظاهره من قِبَلِه العذاب جهة المنافقين. لم يقل بينهم سور وسكت وإنما من جهة المؤمنون السور له باب يسعون به في طريقهم إلى الجنة والمنافقون لا يمكن لهم الدخول لأن الباب ليس من جهتهم وإنما من باطنه أي جهة المؤمنين. ولاحظ أنه قال عن السور (باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب) أي أن ظاهره يختلف عن باطنه كما أن المنافقين ظاهرهم يختلف عن باطنهم فهي لمسة فنية دقيقة جداً. فكما أن المنافقين يخالف باطنهم ظاهرهم كذلك السور باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب. ولم يقل باطنه فيه الرحمة وظاهره فيه العذاب لأنهم خارجه. (يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) قبلها قال تعالى (يوم يقول المنافقون والمنافقات) باستعمال الفعل (يقول) والآن (ينادونهم) نادى أي رفع الصوت، مدّ الصوت، مدّ النداء والقول عام حتى في النفس كما في قوله تعالى (وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ (8) المجادلة). هم كانوا قريبين منهم في البداية لكن مع السور صار كل واحد في جهة ويحتاجون لرفع الصوت (ينادونهم) أي يرفعون أصواتهم لأن القول حتى لو تكلم أحدهم بأخفض الأصوات هو القول حتى في النفس. الآن صار بينهم حاجز ويحتاجون لرفع الصوت (ينادونهم). *(يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ) لم يقولوا ألم نكن منكم؟ هم لم يكونوا منهم ولو قالوا ألم نكن منكم لقال المؤمنون كلا. ألم نكن منكم أي مؤمنين، ألم نكن معكم صحيح أنتم معنا تُظهرون الإيمان، فالمعيّة لا تعني بالضرورة أن يكونوا منهم، نعم هم موجودون معهم في نفس المكان أو المدينة لكنهم ليسوا منهم. (معكم) ظرف و (من) حرف جر وكل واحدة لها دلالة. قالوا بلى أنتم معنا ولكن ليسوا منهم (قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ). * هنا قال تعالى (قالوا بلى) وفي الآيات السابقة قال (قيل ارجعوا وراءكم)؟ لو قال :قيل بلى الكلام ليس حكماً لأنهم يكلمون المؤمنين ولو قيل بلى كيف يكون حكماً على الآخر؟ أنا أسألك أنت وغيرك يجيب عنك كيف تكون أجبت أنت؟ هذا سؤال، أما (انظرونا نقتبس من نوركم قيل ارجعوا) هذا طلب يحتمل أن يرد الآخر عني أما في السؤال فلا يجب أن يجيب عنك أحد. (ألم نكن معكم) من يقول هذا الكلام صحيح؟ أنت المسؤول تجيب فقال (قالوا بلى) لا يمكن أن تكون هنا (قيل بلى) لأنه احتمال أن يجيب غيرهم أن يكون معهم أو لا. لو قال واحد بلى يقال أنا لا أسألك أنت ولكن أسألهم لأنني كنت معهم. *(وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) هل هذا الترتيب مقصود هنا؟ هو قطعاً مقصود لأنه مرتب ترتيباً منطقياً. أولاً نعرف ما هو معنى (فتنتم أنفسكم)؟. فتن أشرنا إلى معناها في الحلقة السابقة، (فتنتم أنفسكم) معناه الاختبار وقد يكون التعذيب (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ (191) البقرة) والفتنة إدخال الناس في النار (يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) الذاريات) وكل هذه المعاني مطلوبة هنا. أنتم فتنتم أنفسكم أي وضعتم أنفسكم في الاختبار وتقولون لهؤلاء نحن معكم ولهؤلاء نحن معكم وكل فريق سوف يختبركم إذن هم وضعوا أنفسهم في فتنة الاختبار. ثم هذا الاختبار طال (تربصتم وارتبتم) فصار هناك تعذيب نفسي هي ليست لحظة وإنما عمر، والتعذيب في الدنيا والآخرة. التربص هنا هو الانتظار والنار مأواهم. تربصتم أي تنتظرون النتيجة لكل واحد يتربصون بالفريقين، (الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ (141) النساء) ثم يتربصون بالفريقين وينتظرون ماذا سيكون؟ أي فريق الذي فيه نفع لهم؟ يقولون نحن معكم، هذا فيه تربص ثم لما دخلتهم الريبة من سيفوز؟ الريبة بمعنى الشك. والشك يختلف عن الريبة لأن الريبة حتى يقال هذا الحيوان لا يريبه شيء أي لا يزعجه شيء فالريبة أعمّ (ذلك الكتاب لا ريب فيه). ما قال ارتبتم في شيء لأن الحياة عامة ليست في شيء محدد وهذا عمر والأمر طال. ارتبتم حتى تربصتم ولم يذكر شيئاً والفريقان ينتظرون من سيفوز؟ طال الأمر وينتظرون من سيفوز هؤلاء أم هؤلاء؟ دخلتهم الريبة لأنه طال الانتظار. ولما طال الانتظار دخلتهم الريبة ولما دخلتهم الريبة بقيت الأمنيات. لما لم يحدث شيء بقيت الأمنيات. ثم دخل الشيطان فقال (وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ) فهي مرتبة ترتيباً منطقياً أحدها يفضي إلى الآخر. هم ظلموا أنفسهم وأظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر ثم طال التربص ودخلتهم الريبة والشكوك ثم طالت المسألة ثم دخل الشيطان حتى جاء أمر الله ورحلوا عن الدنيا منافقين مغرورين من الشيطان (وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ). في صدر الآية قال (انظرونا نقتبس من نوركم) هو الآن مشهد ذكر أن المؤمنين يسعى نورهم بين أيديهم (بشراكم اليوم جنات) هذا الآن يُسرع بهم إلى الجنة أما المنافقين فليس عندهم غير أن يطلبوا النور حتى يمشون لكن النور انقطع فقالوا أعطونا النور قيل ارجعوا وراءكم ثم صار تدرجاً، صار سور، (ألم نكن معكم) بدأ الحوار.