عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴿٩﴾    [الحديد   آية:٩]
(هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (9)) *رؤوف رحيم ترد في القرآن معاً فهل وردتا متفرقتين؟ وما الفرق بين الرؤوف والرحيم؟ قبل الإجابة على هذا السؤال نبدأ من أول الآية. قال تعالى (هو الذي ينزل على عبده) هو أي هو لا غيره. واختار كلمة عبد وأضافه إلى ضميره وهذا فيه تكريمان: الأول إختيار كلمة (عبد) لأن الله تعالى في القرآن الكريم لما يذكر (عبد) يذكره في مقام التكريم لأن العبودية نوعان في القرآن الكريم: العبودية الإختيارية والعبودية القسرية. العبودية الإختيارية هي أن الإنسان يختار أن يكون عبداً لله مطيعاً له وبهذا يتفاضل المؤمنون. ففي مقام مدح نوح  قال تعالى (ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3) الإسراء) أثنى على نوح وصفه بالعبودية. وقال تعالى (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً (1) الإسراء) وصفه بالعبودية (وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) الجن). أما العبودية القسرية فليس فيها فضل لأنه رغم عن الإنسان نحن كلنا عباد الله شئنا أم أبينا (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) مريم) عبادة قسرية رغماً عنا، الله تعالى يرزقنا ويختار لنا المكان الذي نولد فيه ويختار الأبوين ويعطينا إمكانيات ونعيش في السنن التي وضعها لا نتجاوزها هذه عبادة قسرية شئنا أم أبينا ليس فيها فضل وكل الناس هكذا (أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاء أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) الفرقان) هذه عبودية قسرية ليس فيها فضل وقمة العبودية هي العبودية الإختيارية وحتى الأنبياء يتفاضلون في عبوديتهم لله سبحانه وتعالى (نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) ص). فكلمة عبد وسام للشخص من الله تعالى فإذا أضافها إلى ضميره (عبده) نسبه إليه إذن فيها تكريمان لأنه لما ينتسب العبد إلى الله تعالى يكون في حمايته. فقال تعالى (هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) فيها ثلاث تكريمات: هو الذي ينزل على عبده لا غيره، وعبده، وآيات بينات. لماذا؟ ليخرجكم من الظلمات إلى النور، إذن هو الذي ينزل ويخرجكم من الظلمات. وكلمة (عبده) المقصود بها رسول الله  ووصف الآيات بأنها بيّنات ظاهرات بحجة والدلالة واضحة . آيات مقصود بها القرآن الكريم. *من الذي يُخرج؟ (ليخرجكم) فيها إحتمالان وكلاهما يصح: الله تعالى هو الذي يُخرِج والرسول  يُخرِج لأنه هادي. (يخرجكم) يحتمل أن يرجع إلى الله تعالى وأن يرجع إلى الرسول  وكلاهما صحيح. قال تعالى (ليخرجكم من الظلمات إلى النور) يجمع القرآن دائماً الظلمات ويٌفرِ النور لأن الظلمات مصادرها متعددة أما النور مفرد وليس له إلا سبيل واحد وهو الطريق النازل من السماء. ليس هناك هداية على الحقيقة إلا ما جاءت به الرسل. أما الظلمات متعددة الشيطان والنفس وغيرها، لذلك الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم يجمع الظلمات في القرآن ويفرد النور. *قال تعالى في أول الآية: هو ثم عبده، وفي نهاية الآية قال: إن الله بكم لرؤوف رحيم فلماذا لم يقل مثلاً إنه بكم لرؤوف رحيم؟ وما الفرق بين الرحمة والرأفة؟ هو أوضح من هو بعد أن كان ضميراً جاء بالظاهر، الظاهر والضمير تضافرا على المقصود وحتى لا يشت الذهن لأمر آخر قال (وإن الله بكم لرؤوف رحيم). *الفرق بين الرأفة والرحمة : الرأفة أخصّ من الرحمة والرحمة عامة. الرأفة مخصوصة بدفع المكروه وإزالة الضرر والرحمة عامة (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ (107) الأنبياء)، (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا (65) الكهف) ليست مخصوصة بدفع مكروه. تقول أنا أرأف به عندما يكون متوقعاً أن يقع عليه شيء. الرحمة عامة (وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا (48) الشورى) فالرحمة أعمّ من الرأفة. عندما نقول في الدعاء يا رحمن ارحمنا هذه عامة أي ينزل علينا من الخير ما يشاء ويرفع عنا من الضر ما يشاء وييسر لنا سبل الخير عامة. *هل أفردت الرأفة عن الرحمة في القرآن؟ فقط في موطنين في القرآن كله قال (والله رؤوف بالعباد) في موطنين: في سورة البقرة (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) البقرة) وفي سورة آل عمران (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَاللّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (30)) ما قال تعالى رؤوف رحيم. *يثار سؤال لماذا رؤوف رحيم وهنا في الموطنين اختلف؟ لو لاحظنا السياق الذي وردت فيه الآيتان يتوضح الأمر. في سورة البقرة قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) البقرة) السياق لا يحتمل رحمة لما يقول (فحسبه جهنم) كيف يناسب الرحمة؟ لا يناسب ذكر الرحمة. في الآية الثانية قال تعالى (لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ (28) آل عمران) مقام تحذير وليس مقام رحمة ولا يتناسب التحذير مع الرحمة لأن التحذير يعني التهديد. فقط في هذين الموضعين والسياق اقتضاهم أفردت الرأفة عن الرحمة. *ما دلالة التوكيد بـ (إنّ) واللام في هذه الآية (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)؟ التوكيد بحسب ما يحتاجه المقام، إذا احتاج إلى توكيدين مثلاً لما يذكر الله تعالى النعم التي أنزلها علينا يؤكد وإذا لم يحتج إلى توكيد لا يؤكد ولو احتاج لتوكيد واحد يؤكد بواحد. (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (143) البقرة) أكّد. (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّه رَؤُوفٌ رَحِيمٌ (20) النور) ما أكّد. في الآية الأولى كانوا في طاعة (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) ويقولن هذه الآية نزلت لما تحولت القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة تساءل الصحابة عن الذين ماتوا هل ضاعت صلاتهم؟ وهل ضاعت صلاتنا السابقة؟ سألوا عن طاعة كانوا يعملون بها فأكدّ الله تعالى (إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) أما في الآية الثانية فهم في معصية (يحبون أن تشيع الفاحشة) فلا يحتاج إلى توكيد. في تعداد النعم ( ألم تر أن الله سخر إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ) لما هم في طاعة يؤكد ولما يكون في معصية لا يؤكد. ولم يقل في القرآن (والله رؤوف رحيم) أبداً إما مؤكدة باللام و(إنّ) أو (رؤوف بالعباد). *هل قدمت الرحمة على الرأفة في القرآن؟ وهل جاءت رحيم رؤوف؟ لم ترد رحيم رؤوف في القرآن ووردت فقط رأفة ورحمة (وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا (27) الحديد) لكن ليس بهذه الصيغة. حسب السياق الذي ترد فيه أحياناً من الخاص إلى العام وأحياناً من العام إلى الخاص.