عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴿٣﴾    [الحديد   آية:٣]
(هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)) *نظرة عامة على الآية : قال تعالى (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) الأول الذي ليس لوجوده بداية وهو قبل كل شيء، الآخر الذي ليس لوجوده نهاية، ليس لوجوده بداية وليس لوجوده نهاية، ليس بعده شيء لأنه آخر (هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (88) القصص) هذا من حيث الدلالة. الظاهر لها دلالتان في اللغة وهما مقصودان في الآية: الأول: الظاهر هو الذي ظهر للعقول بالدلائل، تجلّى للعقول بالدلائل التي أقامها على وجوده فهو ظاهر (أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ (10) إبراهيم) إذن هو ظاهر ظهر بآياته ومعجزاته الدالة في الكون. إذن الظاهر الذي ظهر للعقول وتجلّى كما قال أحدهم: لو كُشِف الحجاب ما ازددت يقيناً. والظاهر يأتي بمعنى الغالب في اللغة أي العالي على كل شيء من الظهور أي الغَلَبة (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14) الصف) ظاهرين أي غالبين. إذن الظاهر لها دلالتان: الذي ظهر للعقول وتجلى للعقول بآياته والظاهر هو الغالب القهّار. الباطن أيضاً لها دلالتان، الأولى: غير المدرك بالحواس المحتجب عن الأبصار كما قال تعالى (لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) الأنعام)، والباطن أيضاً الذي يعلم كل شيء وويعلم بواطن الأمور وخفاياها، ما ظهر وما بطن من الأمور. إذن الظاهر لها دلالتان والباطن لها دلالتان هذا من حيث اللغة. الكلمة أحياناً يكون لها أكثر من دلالة تُراد ويحتملها السياق. هو اذن الذي تجلى وهو الغالب القهار وهو المحتجب عن الأبصار الذي لا تدركه الأبصار وهو الذي يعلم خفايا الأمور وبواطنها. *تعريف الصفات : ما قال تعالى: هو أول آخر ظاهر باطن وإنما قال (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) بالتعريف لأن التعريف هو للقصر أي أنه لا يشاركه في هذه الصفات أحد يعني ليس معه أول ولو قال هو أول يحتمل أن يشاركه أحد أما الأول فهي حصر، تحديداً والآخر تحديداً والظاهر إذن لا يشاركه في هذه الصفات أحد ولا شيء. الأمر الآخر أنه لم يقيّد هذه الصفات بشيء لا بإضافة ولا وصف فلم يقل مثلاً هو أول الحكماء، أول الأغنياء، الأول في كذا وبعد ذلك تتقيد الأولية بما أضاف أو بما يليها. هذه مطلقة لم يقيدها بشيء إذن هو الأول على الإطلاق ليس بموجب شيء معين ولا مقيد بأمر معين، هو الأول. الأول بالنسبة لمن؟ ومتى؟ لكل شيء فهو سبحانه قبل الزمن وكلمة الأول تخرج من نطاق الزمن ولو أراد أن يقيدها لقيدها فأنت يمكن أن تقول: هو الأول في الفصل مثلاً، هو الأول في السباق. لو قلت هذا الطالب هو الأول هذه يحددها أنت ما يريد فقد تكون القرينة مقولة وقد تكون مفهومة من السياق والمقام هو الذي يحدد وليس من الضروري أن تنطق كل القرائن. هنا في هذه الآية ليس من قرينة تحدد فهو الأول والآخر والظاهر والباطن على الإطلاق وعلى القصر والتعريف هنا يفيد القصر وعدم التقييد يفيد الإطلاق. *فائدة العطف في (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ): ما قال تعالى هو الأول الآخر كما قال في موضع آخر (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) الحشر) لأن العطف يأتي في الصفات فيما تباعَد من الصفات لأنه يصير أمراً مستغرباً، أما في الصفات القريبة فلا يؤتى بالعطف. أحياناً تأتي الواو للإهتمام وللتباعد ما بين الصفات. إذا كانت الصفات متباعدة يؤتى بالواو يعني ليست متقاربة من حيث أحداثها، مثلاً أنت تقول تتكلم مع شخص عن فلان وهو يعرفه لكن لا يعلم مثلاً أنه شاعر فتقول له: هو شاعر، فيقول : هو شاعر؟ فتقول وطبيب، الشعر والطب متباعد فيقول وطبيب؟ يستغرب من إجتماع هذه الصفات المتباعدة التي لا يعلمها هو في شخص، لذا تأتي الواو فإذا تباعدت الصفات فيحسن الإتيان بالواو. (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) الأول والآخر والظاهر والباطن صفات متباعدة ليست مثل العزيز الحكيم المتقاربة العزة والحكم متقاربة لكن الأول والآخر منتهى التباعد والظاهر والباطن منتهى التباعد. هذه الآية دلّت على إبطال الشِرك: هو الأول إذن ليس معه شريك إذن دلت على إبطال الشرك لأنه الأول إذن ليس معه شريك وأنه الغني المطلق، هو الأول إذن كل ما نراه من الأمور هو الذي أوجدها لأنه هو الأول لأنه هو الغني المطلق لا يحتاج إلى شيء لأنه قبل كل شيء الخالق القادر. ثم دل قوله (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) على العلم المطلق فهو الإله الحق في العلم والغنى والقدرة والوجود وعدم الشرك. (وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أي محيط علمه بكل شيء في الكون. *ما دلالة استخدام صيغة عليم ولم يقل عالم أو علام؟ عليم صيغة مبالغة على وزن فعيل، علاّم أيضاً صيغة مبالغة على وزن فعّال، عالم إسم فاعل. مبالغة تعني كثرة في الأشياء، هو القرآن له تخصيصات في الإستعمال أحياناً يخصص بعض المفردات بمعنىً معين وإستعمال معين ودلالة معينة بما يدل على القصد في الإستعمال. سابقاً فيما قبل، العرب لغوياً يقولون الريح والرياح ويستعملون الريح للشر والرياح للخير، والقاعدين في القرآن القاعدين عن الجهاد مع أن القعود هو ضد القيام لكن القرآن خصصها هكذا. ليس كلام العرب التخصيص ولكن القرآن يخصص في الإستعمال. إنما هو يخصصها بمعنى من المعاني وهذا يدل على التحديد والإرادة في التخصيص. لما يخصص كلمة بمعنى معين مثلاً الصلاة خصصها بمعنى واحد وهو العبادة، الصوم والصيام، الصيام خصصها للعبادة في القرآن والصوم خصصها الصمت ولا تجد في القرآن كلمة صوم للعبادة وإنما كلمة صيام (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ (183) البقرة) بينما الصوم خصصها للصمت (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا (26) مريم) الصوم عن الكلام. القرآن أحياناً يخصص المفردة بمعنى من معانيها. اللمسة البيانية في هذا التخصيص يدل على القصد في التعبير أنه ليس كلاماً ملقى هكذا لكنه مقصود. كلمة عالِم في القرآن لم ترد إلا في عالم الغيب مفرداً أو الغيب والشهادة، إما الغيب وإما الغيب والشهادة في القرآن كله لم ترد كلمة عالِم في 14 موضعاً لم ترد بمعنى آخر. مقترنة بالغيب (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) الجن) أو بالغيب والشهادة (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) الأنعام) أو لم تقترن (عالِم) إسم فاعل لا يدل على الكثير عادة فاستعملها بالمفرد الذي لا يدل على التكثير. (عليم) خصصها للغيوب (وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) التوبة) لا تجد كلمة علام في القرآن في غير علام الغيوب ولم ترد إلا مع الغيوب جمع الغيب مجموعة، العلاّم كثرة والغيوب كثرة مثل سمّاع وسميع في القرآن: سمّاع استعملها في الذمّ (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ (41) المائدة) (وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ (47) التوبة) وسميع إستعملها تعالى لنفسه (وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) واستعملها في الثناء على الإنسان (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) الإنسان) وسماع لم يستعملها إلا في الذم. إذن القرآن يخصص في الاستعمال. عليم مطلقة ويستعملها في كل المعلومات على سبيل الإطلاق (بكل شيء عليم) يستعملها إما للإطلاق على الكثير أو يطلقها بدون تقييد (واسع عليم) أو يستعملها مع الجمع أو فعل الجمع. مثلاً لما يقول (وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) يونس) هذه مطلقة (كل) تدل على العموم، (بكل شيء عليم) هذا إطلاق، أو على العموم. قلنا إذن يستعملها مطلقة (إِنَّ اللّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)، أو عامة (بكل شيء عليم) أو مع الجمع أو مع فعل الجمع. مع الجمع (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمينَ) جمع، (فَإِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) جمع، (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ) جمع، (إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) جمع. إما أن تستعمل عامة مع لكل الخلق، كل شيء أو مطلقة (واسع عليم) (سميع عليم) ليست مقيدة بشيء أو بالجمع (المتقين، المفسدين، الظالمين، بذات الصدور) أو بفعل الجمع (وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) البقرة) لم يقل وما تفعل من خير، (وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) يوسف) (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) النور) للجمع أو فعل الجمع. إذن كلمة عليم لم تحدد بشيء معين إما للعموم أو كونها مطلقة من كل شيء أو مع الجمع أو مع فعل الجمع لم يأت مع متعلق مفرد مطلقاً في القرآن لا تجد عليم بفلان أو بفعل فلان. علاّم محددة، عالِم محددة، عليم هذه استعمالاتها. إذا أراد أحدهم أن يدرس هذه الاستعمالات تدرس في باب تخصيص الألفاظ القرآنية، هذه ظاهرة في القرآن وقد نأخذ عليها عدة حلقات لاحقاً. *ارتباط الآية بما بعدها: هذه الآية مرتبطة بما بعدها: الأول مرتبط بقوله (هو الذي خلق السموات والأرض) الذي خلق السموات والأرض هو الأول، الآخر مرتبط بقوله (وإلى الله ترجع الأمور)، الظاهر قلنا لها معنيان إذا كان بمعنى الغالب يقول بعدها (له ملك السموات والأرض) فالذي له الملك غالب، وإذا كان بمعنى المتجلي للعباد (الذي خلق السموات والأرض) لأن السموات والأرض آيات دالة على وجوده، الباطن إذا كانت بمعنى المحتجب يرتبط بقوله (وهو معكم أينما كنتم) وإذا كان بمعنى الذي يعلم بواطن الأمور وخفاياها فيرتبط بقوله (وهو عليم بذات الصدور) (وهو بكل شيء عليم). إذن الآية مرتبطة إرتباطاً بما قبلها وهذه سمة في القرآن الكريم كل كلماته مرتبطة وسبق أن قلنا أن الرازي يقول أن سور القرآن كلها كالآية الواحدة بل كالكلمة الواحدة في ترابطها.