عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴿٢﴾    [الحديد   آية:٢]
(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)) ذكر أولاً أنه سبح له ما في السموات والأرض ثم ذكر أن له ملك السموات والأرض وهذا يقتضي أنه ملِك ما فيهما لأن الملك هو الحُكم (وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ (51) الزخرف) إذن لما قال (له الملك) إذن هو الملِك لأن المُلكِ لا يكون إلا على رعيّة، إذن هو الملِك، هو ملِك ما فيهما. أفاد تقديم الجار والمجرور (له) على أنه لا مُلك لأحد سواه على الحقيقة. في خارج القرآن يمكن أن يقال: (ملك السموات والأرض له) لو قدمنا الخبر وكان المبتدأ معرفاً لأن أحياناً التقديم يصير واجباً إذا كان نكرة، تقول: في الدار رجل، (لا يجوز الابتداء بالنكرة ما لم تُفِد). لكن إذا كان المبتدأ معرفة فتقديم الخبر يقولون للإهتمام وأبرزها القصر. محمد قائم، قائم محمد ، محمد في الدار، في الدار محمد، "محمد في الدار" هذه مبتدأ وخبر، "في الدار محمد" مبتدأ وخبر لكن قدمنا الخبر كأن الشخص يقول له لا ليس في الدار فتقول له لا في الدار، (محمد في الدار) إذا كان المخاطب خالي الذهن وسألته أين محمد؟ يقول: محمد في الدار ولا يقول في الدار محمد، الأصل عدم التقديم، الأصل حفظ المراتب وعدم التقديم: الفعل، الفاعل، المفعول به ثم القيود، هذا هو الأصل هذا لا يُسأل القائل لم قال هكذا؟ إذا قال أحدهم: أكرم محمدٌ خالداً لا نسأله لم قلت هذا؟. ولكن إذا قال محمد أكرم خالداً نقول لماذا قدّمت محمد؟ لأنه خالف الترتيب. "في الدار محمد" يجب أن يكون هناك أمر أن المخاطب يعتقد أن محمداً ليس في الدار، تقول له أنت هو في الدار، هو يرى أنه في الدكان، في المحل. من أهم أغراضه القصر وله أغراض أخرى كالاهتمام. في قوله تعالى (له ملك السموات والأرض) هذا حصراً، لو قلنا (ملك السموات والأرض له) هذا إخبار لكن لا ينفي أن يكون كما تقول فلان يملك وفلان لا يملك، لا يمنع أن يكون لأحد آخر ملك، هناك مالكين آخرين في هذا الملك، ليس هو الملك الوحيد وقد يكون هناك مالكون آخرون تحت هذا الملك، لكن له الملك حصراً لا ملك إلا هو حصراً ليس لغيره ولو قيل (ملك السموات والأرض له) يكون إخباراً وليس من باب الحصر. *(لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ما دلالة ورود هذه الآية بعد الآية الأولى؟ وهل هناك علاقة رابطة بينهما؟ ينزه الله تعالى، الشخص قد يُحمد في ذاته لم يكن مالكاً أو ملكاً فإن حكم فقد يتغير. شخص تعرفه في ذاته جيد ليس ملكاً فإذا صار ملكاً فقد يتغير أو ليس مالكاً فإن ملك على آخرين قد يتغير. إذن ربنا تعالى ذكر أنه منزّه في جميع أحواله: منزه في ذاته (سبح لله) قبل أن يكون هناك ملك وقبل أن يكون هناك أحد، ومنزّه في صفاته، منزه في عزته، منزه في حكمته، منزه في حكمه، منزّه في ملكه، منزّه في إحيائه وإماتته، لا يحيي ويميت عن عبث وإنما لحكمة، فهو منزه في كل ذلك، لا يفعل ذلك إلا عن حكمة. هذا يدل على خضوع أهل السموات والأرض له خضوع قهر وخضوع عبادة. قهر يعني غالب، قوة. (الذي له ملك السموات والأرض وهو العزيز الحكيم) هذا متمكن ورب العالمين وصف تعالى نفسه بالقهار (الواحد القهار) والقهر هو التمكن، هذا خضوع قهر. كثير من الرؤوساء في الدول يُخضِعون رعيتهم خضوع قهر. ربنا له خضوع، خضوع قهر باعتبار أنه هو المتمكن العزيز الحبار والمحيي والمميت هذا خضوع قهر لأنه متمكن. وخضوع عبادة (سبح لله) إذن هو يستحق التنزيه في كل هذه لأنه عندما تعز واحداً تخضع له خضوع عبادة؟ الرؤوساء هل تخضع لهم رعيتهم خضوع قهر أو خضوع عبادة؟ خضوع قهر. رب العالمين سبحانه وتعالى عباده يخضعون له في ملكه خضوعان: قهر وعبادة. العبادة (سبح لله) وقهر (العزيز الحكيم)، (يحيي ويميت) هذا قهر، سبحان من قهر عباده بالموت. إذن هذه الآية جمعت تنزيه خضوع العبادة (سبح لله) وخضوع القهر بما ذكر من الصفات فهو منزّه في ذاته وصفاته سبحانه. * ورد في بعض آي القرآن الكريم (السموات والأرض وما بينهما) أما في هذه السورة فلم يرد (ما بينهما) فهل لهذا دلالة؟ كل موطن في القرآن الكريم يذكر (وما بينهما) يأتي تعقيب على من يذكر صفات الله تعالى بغير ما يستحق، تعقيب على قول النصارى (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) وعلى قول اليهود (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) المائدة). بعد أن قال تعالى (لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَآلُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا (17) المائدة) يقول بعدها (وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) المائدة) لِمَ يتخذ الولد وهو الغني؟ له ملك السموات والأرض وما بينهما لا يحتاج الولد. اليهود يقولون نحن أبناء الله وأحباؤه تأتي بعدها (وما بينهما) لماذا رقّيتم أنفسكم؟ هو تعالى لا يحتاج هذا حتى يتخذكم أبناء، لِمَ يتخذكم أبناء وهو الغني؟ لاحظنا أنه في كل موطن يقول (وما بينهما) تأتي تعقيب في الله على ما لا يليق. موطن آخر بياني (له ملك السموات والأرض وما بينهما) فيها ذكر ثلاثة أشياء: السموات، الأرض، ما بينهما، أبداً في كل موطن في القرآن الكريم يذكر فيها (وما بينهما) يذكر ثلاث ملل: اليهود والنصارى والمسلمين. في كل موطن يذكر (وما بينهما) يذكر في السياق ثلاث ملل اليهود والنصارى والمسلمين: في المائدة ذكر الكلام على بني إسرائيل (وَلَقَدْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَآئِيلَ (12)) ، نصارى (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ (14) المائدة)، أهل الكتاب (يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِّنَ الرُّسُلِ أَن تَقُولُواْ مَا جَاءنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءكُم بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) المائدة)، ثلاث ملل. في الزخرف ذكر موسى وفرعون (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46)) وذكر عيسى (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57)) ثم قال (قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81)) في كل القرآن إذا قال (وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)) يذكر ثلاث ملل. وإذا لم يذكرها لا يذكر. في آية سورة الحديد لم يقل (وما بينهما) لأن ما بينهما تعقيب على ذكر ما لا يليق بجلال الله والآية فيها تنزيه لله تعالى. والأمر الآخر ذكر ثلاث ملل وليس في الآية ذكر لها. (يحيي ويميت) هو المنزّه في كل ما يفعل، في إحيائه وفي إماتته، في كل شيء وهذا يدل على التوحيد (وهو العزيز الحكيم) لا حكيم سواه ولا عزيز سواه هو الحاكم في كل شيء. *(سبح) بالفعل الماضي، (العزيز الحكيم)، (يحيي ويميت) بالفعل المضارع؟ وفي القرآن قال أحيا وأمات، وقدم الموت على الحياة؟ هذه لأن الموت والحياة مستمر. في مواطن أخرى قال (أمات وأحيا) قدم الموت. الأصل للأحياء والأموات أنه كان حيّاً فأماته الموت يسبق الحياة. وقد تذكر في صفات الله تعالى (وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) النجم) وقد يتكلم عن أموات سابقة أماتهم ثم أحياهم فيذكر الموت أولاً (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) النجم). الفعل المضارع له أكثر من دلالة: هو يدل على الحال والاستقبال ويدل على الإستمرار أحياناً ويدل على الحقيقة غير مقترنة بزمن، تقول مثلاً: يذوب السكر في الماء، هذه تسمى الحقيقة من حيث هي لا تقول متى؟ لو أردنا أن نتكلم عن الفعل المضارع نفرد له حلقة كاملة. *في قوله تعالى (وهو على كل شيء قدير) فيها تقديم وتأخير: هو قدير على كل شيء أراد أن كل شيء حصراً، العموم. وهنا قال (قدير) ولم يقل قادر مع أنه استخدم قادر في مواطن أخرى في القرآن لأن قدير من صيغ المبالغة على وزن فعيل، إذا عمم القدرة (وهو على كل شيء قدير) أو أطلقها (وهو العليم القدير) قادر على كل شيء هذه يستعمل صيغ المبالغة (على كل شيء) فيها كثرة. إذا عمّم أو أطلق يستعمل المبالغة، إذا عممها أي إذا قال (على كل شيء) يستخدم (قدير) وإذا قيّدها بشيء يقول (قادر) (وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (37) الأنعام) قُيّدت بإنزال آية، (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) الأنعام) قيدت بالعذاب، إذا قيّدها يقول قادر لأن قادر إسم فاعل وليس مبالغة، (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُم بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) يس) قادر إسم فاعل من فعل قدر، قدير صيغة مبالغة. قدر هي مشترك لفظي (فقدر عليه رزقه) مشترك لفظي أي لها أكثر من معنى, يقولون مشترَك لفظي وأنا أرجح مشترِك لأنه إسم فاعل لأن الفعل غير متعدي فلما تقول مشترَك يحتاج مشترك لكذا تقديراً والمشترِك هو الأصل. فحيث أطلق القدرة أو عممها أطلق الصفة (وهو على شيء قدير) ومتى قيّدها قال (قادر) ليس فيها مبالغة وليس فيها كثرة، قدير فيها كثرة. فإذن حيث أطلقها يأتي بصيغ المبالغة وحيث عمّمها بكل شيء يأتي بصيغة مبالغة وحيث قيّدها يأتي بإسم الفاعل، هذا الفارق الدلالي بين إسم الفاعل وبين صيغ المبالغة التي تدل على التكثير.