عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ﴿٣٥﴾    [الذاريات   آية:٣٥]
*ما الفرق بين المؤمنين والمسلمين في سورة الذاريات(فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36))؟ هذه الآية تتكلم عن بيت واحد هو نفسه لكنه وُصِف مرة بكلمة المؤمنين ومرة أخرى وُصِف بكلمة المسلمين في موضع واحد وهو بيت لوط . والحكاية أن الملائكة جاءوا إلى إبراهيم  والقصة معروفة فسألهم إلى أين أنتم؟ قالوا: إلى هذه البقعة قال: إن فيها لوطاً، قالوا نحن أعلم بمن فيها (قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) العنكبوت) فأخرجوها من الأهلية لأنه في الأصل المرأة من أهل البيت لكن أخرجوها لما كانت تعمل بإتفاقها مع المشركين ضد لوط . الآية تقول (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (فيها) تعني من هذه البلدة التي كان فيها لوط  يدعو قومه إلى الإيمان لأنه الوحيد الذي آمن بإبراهيم  من أهل البلدة ثم صار نبيّاً وصار يدعو (فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ). نحن عندنا في القرآن الكريم في بعض المواطن هناك تفريق بين المؤمنين والمسلمين بل حتى في الحديث: في حديث سعد بن أبي وقاص لما قال : يا رسول الله أعطِ فلاناً فإنه مؤمن. قال: أو مسلم. فهناك فرق بين المؤمن والمسلم وفي الآية (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ (14) الأحزاب) فإذن الإيمان شيء داخلي : ما وقر في القلب وصدّقه العمل. العمل المصدِّق هو الإسلام لأنه لما جاء جبريل  يعلّم المسلمين أمور دينهم " حدثني أبي عمر بن الخطاب، قال: بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم، إذ طلع علينا رجل شديد بياض الثياب. شديد سواد الشعر. لا يرى عليه أثر السفر. ولا يعرفه منا أحد. حتى جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم. فاسند ركبتيه إلى ركبتيه. ووضع كفيه على فخذيه. وقال: يا محمد! أخبرني عن الإسلام. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتقيم الصلاة. وتؤتي الزكاة. وتصوم رمضان. وتحج البيت، إن استطعت إليه سبيلا" قال: صدقت. قال فعجبنا له. يسأله ويصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان. قال: "أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر. وتؤمن بالقدر خيره وشره" قال: صدقت. قال: فأخبرني عن الإحسان. قال: "أن تعبد الله كأنك تراه. فإن لم تكن تراه، فإنه يراك". قال: فأخبرني عن الساعة. قال: "ما المسؤول عنها بأعلم من السائل" قال: فأخبرني عن أمارتها. قال: "أن تلد الأمة ربتها. وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء، يتطاولون في البنيان". قال ثم انطلق. فلبثت مليا. ثم قال لي: "يا عمر! أتدري من السائل؟" قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم " الأعمال الظاهرية هي الإسلام والباطن هو الإيمان. المؤمن يقيناً هو مسلم لأن الذي يستقر الإيمان في قلبه يطبّق لكن ممكن أن الإنسان يطبّق والإيمان لمّا يدخل بعد في قلبه. كل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤناً. عندما يحدثنا عن إنسان معيّن ويقول إنه مؤمن ثم يقول بعد ذلك أنه هو مسلم معنى ذلك أنه جمع له الأمرين: الإيمان الباطني والتطبيق العملي أراد أن يشير إلى التطبيق العملي. فأهل هذا البيت كانوا مؤمنين (فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين) لوط وأهل بيته لأنه (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) البيت المقصود به أصحاب البيت، سكان البيت لأن البيت هو ما يبيت فيه الإنسان، هو ما يقضي فيه ليله . هذه على قبيل (واسأل القرية) في سورة يوسف. (فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) بمعنى غير أهل بيت من المسلمين. لم يقل المؤمنين حتى لا تتكرر أولاً لأنه لو قال في غير القرآن ( فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين، فما وجدنا غير بيت من المؤمنين) هنا التكرار غير محمود لأنه لا معنى له. (غير بيت) يكون مطلقاً ولو قال (غير بيت منهم) كأن يصغّرهم وهو يريد لهم قيمة. فإذا كرر المؤمنين هنا وهي قريبة كأنما يكون تركيزاً على الإيمان وليس فيه إشارة إلى التطبيق العملي والآية أرادت أن تذكر أنهم مؤمنون مطبقون لإيمانهم عملياً فجمعت لهم بين الإيمان والإسلام لأنهم هم أنفسهم وليسوا فريقان فريق مؤمن وفريق مسلم كما (قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا) لكن هؤلاء وصفهم بالإيمان. فحينما يعود ويصفهم بالإسلام معناه هذا تأكيد لقيامهم بالتطبيق العملي لإيمانهم، أنهم مطبقون عملياً. هذا قول جمهور المفسرين. هناك قول آخر ولا بأس أن نذكره والمشاهد الكريم يحاول أن يرى إلى أي التأويلين يطمئن قلبه لأن اللغة تحتمل ذلك. الرأي الأول وفيه رفع منزلة لأهل لوط، نحن لا ندري على وجه التعيين من كان مع لوط  من أهل بيته. هم يقولون إستناداً إلى ما ورد في التوراة أنه كان عنده بنتان وامرأته لكن هذا ليس ثابتاً عندنا من الناحية التاريخية ومن الممكن أن يكون لديه آخرون، من الممكن أن يكون في بيته من المؤمنين، وفيه وإن كان فرداً حتى إذا كان ذكر البنتين يمكن أن تكون إحدى إبنتيه إستقر الإيمان في قلبها والثانية هي مسلمة على دينه ولم يستقر الإيمان في قلبها هذا الإستقرار. فلما قال (غير بيت من المسلمين) معناه هي تدخل معهم ولو قال من المؤمنين لا تدخل معهم هذه البنت التي لم تكن قد إستقر الإيمان في قلبها أما قوله المسلمين فيشملها ذلك لأن المؤمن مسلم والمسلم غير المؤمن ذُكر أنه هو مسلم فيكون الكلام أعم عند ذلك وهذا رأي مرجوح. والرأي الراجح هو الأول أن الجميع كانوا مؤمنين، أنه نوّع بالعبارة حتى يبيّن أن أهل هذا البيت كانوا مؤمنين مطبقين عملياً لإيمانهم فوصفهم مرة بالمؤمنين ثم ألحق ذلك بكلمة وصف المسلمين. فكان الإيمان مستقراً في قلوبهم وكانوا مطبقين لعلامات الإيمان لأنه قد يكون الإنسان مؤمناً لكن يقصّر في التطبيق ولذلك يتوب إلى الله تعالى ويستغفر وليس من قبيل عدم الإيمان. فإذن هذا الوصف فيه رفعة شأن لهؤلاء. قد يقول القائل لماذا لم يقل : وجدنا فيها غير أهل بيت؟ لماذا حذف (أهل)؟ وفي آية سورة يوسف (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)) حذف أهل أيضاً؟ الحذف هناك يختلف عن الحذف هنا بحسب السياق. هناك حذف أهل وهنا حذف أهل. هناك فارق في الصورة هناك (وإسأل القرية) إخوة يوسف كانوا متهمين بأنهم ليسوا صادقين لأن عند أبيهم تجربة سابقة معهم لما جاءوا وقالوا أكله الذئب يوسف وهو لم يأكله فالآن يقولون إبنك سرق وقد يكون كذباً كالذئب فقالوا: (واسأل القرية التي كنا فيها) صحيح هي أهل القرية لكن كأنهم يريدون أن يقولوا له أن صدقنا ثابت في القرية حتى بجدرانها ،حتى بحيوانها، إسأل القرية كاملة، القرية التي كنا فيها والبلدة كأنها جميعاً تشهد لنا ليس بناسها فقط وإنما حتى بجدرانها. وهذا ينسحب على العير أي القافلة (والعير التي أقبلنا فيها) العير ومن عليها ومن معها ومن فيها لأنهم كانوا يشكّون في أنفسهم. أما في آية سورة الذاريات (غير بيت) لو قال : غير أهل بيت تكثر. أهل البيت تصير كثير: القرية من بيوت فأراد أن يبيّن قلة الذين إتّبعوا لوطاً  فقال (غير بيت) واحد ولو قال أهل بيت: الأهل مجموعة فتكون الصورة فيها كثرة فحذف هنا. هنا أراد الحذف حتى يبيّن القِلّة وهناك (في سورة يوسف) حذف حتى يبيّن الكثرة. ولكل حذف مكان بحسب السياق والله أعلم.