عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ ﴿١٣﴾    [القمر   آية:١٣]
* لماذا جاء وصف السفينة في سورة القمر على هذا النحو (وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13)) ولم يستعمل الفلك أو السفينة؟ (د.حسام النعيمى) يأتي بنا إلى الكلام على ما أطلق العلماء عليه الفاصلة القرآنية. العربي يميل بطبعه إلى رتابة النهايات في الجُمل لذلك جاء عنده السجع والسجع يراه كلاماً عالياً لما يكون الكلام مسجوع في النثر، والسجع هو أن تنهي الجمل بحرف واحد مثلما قال: من مات فات وكل ما هو آتٍ آت. وفي الشعر هناك القافية، حرف الرويّ الذي هو فيها ملازم لحرف واحد يأتي. هذه طبيعة قبائل العرب يميلون إلى ذلك، يأنسون به، يرون فيه نوعاً – على قولهم- من الموسيقى يأنسون لها، هذه الرتابة كأنها رتابة سير الجمل يرفع قدمه ثم تستقر في موضع واحد. هذه السورة لما نأتي إلى القرآن الكريم نجد نهايات الآيات أو ما يسمى برؤوس الآي تلزم في كثير من الأحيان حرفاً واحداً علماؤنا تحرّجوا أن يسمونه سجعاً أو أن يسموا ذلك قافية إبتعاداً بالقرآن عن لفظ السجع والقافية لأنه من كلام البشر فأطلقوا عليه كلمة الفاصلة القرآنية، فواصل القرآن فجاءت على ما يأنس به العربي. لكن هل كانت الفاصلة مرادة لذاتها من غير علاقة بالمعنى؟ الجواب قطعاً لا ولذلك – لعلنا ذكرنا هذا مرة – إذا كان المعنى يقتضي التضحية بالفاصلة فالآية تضحّي بالفاصلة. أمامنا نموذج، مثال، (إستطراد من المقدم سأل عن سورة الضحى فأجاب الدكتور أن سورة الضحى لم يضحي بالفاصلة وإنما أراد الفاصلة لكنه مرتبط بالمعنى لما قال (ما ودعك ربك وما قلى) ما قال ما قلاك، حصل على الفاصلة لكن في الوقت نفسه نزّه ضمير الرسول  من أن يرتبط بالقلا الذي هو البغض) . (وحملناه على ذات ألواح ودُسُر): الدُسُر جمع دسار مثل كتب وكتاب والدسر أو الدسار العربي يستعملها لمعنى المسمار لأن أصل دسر بمعنى أدخل بقوة أو شدّ بقوة. إن أراد الإنسان أن يربط خشبتين بحبل لا بد أن تربط بقوة، فهذه العملية يقولون دسر فإما بمعنى المسمار وإما بمعنى الحبل وقسم يقول حبل الليف على وجه الخصوص والظاهر أنه الليف لأن هذه الخيوط المترابطة التي تحتضن النخلة وتحصر السعف حتى لا يتساقط، فهذا ينسجون منه الحِبال. (حملناه على ذات ألواح ودسر) ذات ألواح ودسر يعني الفلك لكن لم يذكرها وإنما ذكر الصفة. حذف الموصوف وذكر الصفة. لدينا منه أمثلة: بيت للمتنبي الذي كان فارساً شاعراً وقتله بيتٌ من الشعر، قال: مفرشي صهوة الحصان ولكن قميصي مسرودةٌ من حديد مفرشي صهوة الحصان (المكان الذي يوضع عيله السرج) أي أنا هناك حتى من غير سرج ولكن قميصي (القميص مذكّر) مسرودة بالحديد (مؤنث). كيف يقول المتنبي قميصي مسرودة؟ قال: هو ما أراد القميص وإنما أراد أن يقول قميصي درعٌ مسرودة من حديد فحذف الموصوف وأبقى الصفة على غرار الآية :وحملناه على فلك هي ألواح ودسر. لِمَ لم يقل فلك مع أنه استعمل الفلك (ويصنع الفلك)؟ لو نظرنا إلى الجو العام جو رعب، جو خوف (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاء بِمَاء مُّنْهَمِرٍ (11) القمر) كأن السماء من حيث نظر الإنسان يرى باباً مفتوحاً من الماء، ما قال غيث لأن الإنسان لما يسمع كلمة مطر أو غيث يتخيل نقاطاً، قطرات، هذا ماء منهمر الذي يقولون عنه كأفواه القِرَب المفتوحة. (وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاء عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) القمر) يعني كل ذرة من الأرض انفجرت عيوناً، الأرض كلها صارت عيوناً، (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ (42) هود) معناه هناك ريح تعصف بحيث تضرب الماء فيرتفع الماء فيكون أمواجاً هذا شيء مخيف. لو قال في فلك، الفلك مكان آمن خاصة إذا إستعمل (في)، الإنسان آمن في داخل السفينة. لكن أراد أن يقوي صورة الخوف والرعب فقال (على ذات ألواح ودسر) هي عبارة عن ألواح مشدودة وقال (وحملناه على ) ما قال (في) فلما يتخيل الإنسان هذا المشهد، هو فوق ألواح ودسر وهذا الماء بهذا الشكل يزداد رعباً ويتذكر أن ذلك قدرة الله سبحانه وتعالى كيف حمل نوحاً ومن معه على هذه الألواح والدُسُر. هذا المعنى يفوت لو قيل في غير القرآن وحملناه على فلك أو في فلك أو في سفينة أو على السفينة يضيع هذا المعنى وإلا القرآن قادر أن يقول وحملناه في فلك ويضحي بالفاصلة كما ضحى بها في (وهو يهدي السبيل)، لكن الصورة تختلف. تخيل الإنسان الذي تقدّم بالعمر يتذكر أن أناساً كانوا ينقلون بضائعهم بين المدن التي على النهر عن طريق ألواح ودسر حتى عندنا يسمونهم بالعامية الكلك، مجموعة أخشاب مشدودة ببعضها ويجلسون عليها وينقلون عليها البضاعة من مكان لمكان ولما يرجع يسحبها بالحبل على كتفه. فتخيل الإنسان لو كان هنا وهي كالجبال وهذه الريح والماء من فوقه ومن تحته، أيُّ رعب هذا؟! ينتقل الإنسان رأساً للتشبث برحمة الله سبحانه وتعالى التي أنجت نوحاً ومن معه وهو في هذه الحال.