عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ ﴿٤٣﴾    [التوبة   آية:٤٣]
* ما دلالة إستعمال يتبيّن مع الصادقين وتعلم مع الكاذبين في الآية (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) التوبة)؟(د.حسام النعيمى) هذه الآية فيها أكثر من سؤال: في مسألة (عفا الله عنك) والخطاب للرسول . أصل العفو في اللغة المسح، عفت الريح الأثر أي مسحته وما بقي أثر فلما نقول عفا عن فلان أي مسح ذنبه كأنه لم يذنب وكأنه ما عاد له ذنب. هذا الأصل اللغوي للمفردة لكن ننطرها في السياق، فهل أثم الرسول  حتى عفا عنه؟ ولم أذنت لهم؟ كان يمكن في غير القرآن أن يقول : حتى يتبين لك الصادقين وتعلم الكاذبين أو يقول: حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الذين كذبوا. لكن أولاً لنعلم فيمن نزلت هذه الآية؟ نزلت في المنافقين الذين ثبطوا الجيش المسلم في تبوك، هذه الغزوة التي صرّح بها الرسول  من سائر غزواته وكان دائماً يورّي إذا أراد الذهاب إلى الشمال يورّي ويرسل سرية إلى الجنوب إلا في تبوك فصرّح  وقال إنا ذاهبون إلى الروم. القرآن يتكلم عن هؤلاء (لَوْ كَانَ عَرَضًا قَرِيبًا وَسَفَرًا قَاصِدًا لاَّتَّبَعُوكَ) تبوك بعيدة، (وَلَـكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) يهلكون أنفسهم لأنهم كاذبون حتى مع قسمهم. (عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَـكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِين (47) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)) إذن هؤلاء طائفة من المنافقين جاءوا إلى الرسول  إستأذنوه بعدم الخروج قالوا: إئذن لنا أن لا نأتي معك لظروفهم، فالرسول  أذن لهم لأن الجهاد تطوعي والمجاهدون كان يتطوعون تطوعاً ما عندنا جيش إلزامي، فكأن القرآن يقول له لو تصبّرت قليلاً وقلت لهم لا أسمح لكم كانوا يجاهرونك بالعصيان وينكشفون لأنهم لا يريدون أن يخرجوا معك فأنت أذنت لهم فأزلت فرصة كشفهم. ولو شاء الله تعالى لأراه إياهم (ولتعرفنهم في لحن القول). عبارة (عفا الله عنك) العربي يستعملها استعمالاً خاصاُ وبها نزل القرآن الكريم وهو العتاب الرقيق اللين الدال على المحبة وليس فيه محو ذنب لأن الأصل في المسألة أن النبي  هو قائد الجيش وهو الحاكم لما يأتيه شخص يطلب رخصة أن لا يخرج معه فيأذن له، هو ما خالف شيئاً. أنت تعفو عمن يرتكب مخالفة وهو ابتداء لم يرتكب  مخالفة وإنما استعمل حقه في الإذن لهؤلاء. لكنه نوع من العتاب المحبب ولمسة لقلب رسول الله  في موضع التعليم. فيه نوع من العتاب اللين المحبب الرقيق على لغة العرب. ونحن عندنا أبيات علي بن الجهم صاحب عيون المهى لما أراد في البداية أن يمدح الخليفة قال له: أنت كالكلب في وفائك للعهد وكالتيس في قراع الخطوب فقام عليه الجند فقال الخليفة دعوه وأجلسه على نهر دحلة فخرج بقصيدته: بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري فغضب عليه المتوكل لأمر ما وقرر إبعاده فعلي بن الجهم يقول ومن حق الخليفة أن يُبعد: عفا الله عنك ألا حرمة تعوذ بعفوك أن أُبعدا نوع من العتاب الرقيق المحبب ونحن الآن نستعملها تقول فلان مريض أريد أن أزوره وأحد الأصدقاء يقول لك أنا زرته بالأمس تقول له: سامحك الله كنت تقول لي فأذهب معك، هو لم يرتكب جرماً حتى تقول له سامحك الله وأحياناً نقول رضي الله عنك، هو غير ملزم أن يخبرك وغير ملزم أن يأخذك معه. العرب فهمت أن عفا الله عنك ليس عن ذنب وكانوا يستعملونها عندهم كنوع من المعاتبة الرقيقة كما نقول في المثال سامحك الله. (لم أذنت لهم) هذا هو العتاب الرقيق الذي سبقته كلمة العفو وهو نوع من التعليم، ما قال له كيف اذنت لهم؟ وإنما قال (لم أذنت لهم) الرسول  دائماً في موضع التعلم من الله عز وجل دائماً والله عز وجل هو الذي علم رسوله هذه الأمور. (عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) التبين فيه معنى الإنكشاف، تبين الشيء بمعنى ظهر وبان ووضح والصدق عادة يكون واضحاً لا لبس فيه ولا غموض فاستعمل معه الفعل يتبين. واستعمل معه الذين صدقوا ما قال الصادقين لأن هؤلاء ليسوا صادقين حتى لو صدقوا في هذه الجزئية فهم كاذبون في غيرها فما أراد أن يعطيهم صفة الصدق الملازمة لأن الإسم ملازم. ما قال الصادقين لأن كلمة الصادقين صفة لازمة الفاعل لما تقول هذا صادق أي هذه صفته لاصقة لازمة به أي صدق في هذه القصة وقد يكذب في غيرها، هم منافقون كذبوا في غيرها. هم منافقون لو انتظرت قليلاً كان سيتضح لك الذي يعتذر بصدق لكن الصدق في هذه الجزئية وما أراد أن يصفهم بالصادقين لأن وصف الصادقين وصف عالٍ، المهاجرون وُصفوا بالصادقين (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) الحجرات) يقصد المهاجرين. وهذه التي استدل بها أبو بكر الصديق في السقيفة لما كانوا يدرسون مسألة من يخلف الرسول  فقال: الأنصار: منا لأننا أهل المدينة فالذي يخلف الرسول  منا، فقال أبو بكر أنتم تبع لأن الله تعالى قال عنا نحن الصادقين وأنتم قال عنكم (وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) الحشر) فوصفهم بوصف آخر (المفلحون) لكن على المهاجرين قال الصادقين. ما قال الصادقين وإنما قال الذين صدقوا أي صدقوا في حالة واحدة، صدق هنا. (وتعلم الكاذبين): أراد أن يبين أن هؤلاء الذين كذبوا في الحقيقة الكذب متلبس بهم لم يكذبوا في هذه القضية فقط ولو قيل في غير القرآن :وتعلم الذين كذبوا، كأنه هنا كذبوا وقد لا تكون هذه صفة ملازمة لهم لكن لما قال (وتعلم الكاذبين) رسّخ الصفة لهم. والكذب يحتاج إلى تدقيق وإلى تبصر وإلى أناة وإلى بحث ينسجم معه العلم (وتعلم) وليس التبيين لأن الكذب ليس منكشفاً كالصدق لأن الصدق واضح، فمع الإنكشاف استعمل (يتبين) ومع الحرص والتثبت استعمل العلم الذي يليق بهذا (وتعلم). آية واحدة فيها كل هذه اللمسات!. (حتى يتبين) ما معنى حتى؟ بدل أن يقول له كان عليك أن لا تأذن لهم حتى يكون كذا وكذا، قال (لم أذنت لهم)، هو سؤال بنوع من التلطف فبدل أن يواجه الرسول  ما كان عليك أن تأذن لهم، كان عليك أن تتوقف حتى يتبين لك، وإنما حذف الكلام وقال: (لم أذنت لهم حتى يتبين لك) ليكون كذا فـ (حتى) هي تعليلية إذن