عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلًا مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴿٢٦﴾    [البقرة   آية:٢٦]
* ما تفسير قوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا (26) البقرة)؟ قال تعالى (إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَـذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ (26)) يقول علماؤنا أن هذه الآية نزلت بعد أن تكلم بعض يهود وبعض المشركين على الأمثال التي يضربها القرآن الكريم وعلى ذِكر بعض مخلوقات الله سبحانه وتعالى: ذكر الذباب فى سورة الحج، بعض يهود قالوا هذا كلام لا يقوله الله سبحانه وتعالى وما هذه الأمثلة؟ وهو نوع من المعاندة هذا المثل لما يضربه القرآن نوع من التوضيح. هذه الآيات جاءت بعد ضرب مثلين في القرآن الكريم للمنافقين (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ (17) البقرة)، (أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) البقرة) ضرب مثلين. نحن لو نظرنا في المثل: أولاً المثل مستعمل عند العرب وفيه حكمة بالغة أي يؤدي رسالة وكثير من أبيات المتنبي صارت أمثالاً "مصائب قوم عند قوم فوائد" عبارة هي صغيرة لكن تعطي صورة فالقرآن الكريم يستعمل هذه الأمثال. أما كون أن الله سبحانه وتعالى ذكر الذبابة وذكر العنكبوت والبعوضة، لو فكّر الإنسان وتمعّن هل البعوضة شيء سهل؟ أولاً المراد بالبعوضة هي صِغار البقّ لأنها بعض البقّ وسميت بعوضة من البعضية التي هي الجزئية. القرآن كأنه يريد أن يقول: الله سبحانه وتعالى لا يُحجم عن ذكر هذه الأشياء، لأن كل واحدة من هذه الأشياء لو تفكرت فيه لسجدت لله سبحانه وتعالى لعظيم صنعه. البعوضة هي أصغر ما يعرفه العربي حتى عندنا الآن ما معروف أصغر من البعوضة. الذبابة كبيرة، البقة كبيرة، هذا صغار البقّ صغير جداً أصغر منه لا يعرفه العربي من الأحياء، فلما يقول الباري (إن الله لا يستحي) أي لا يتحرج ولله المثل الأعلى أن يضرب مثلاً ما، أيّ مثل، مطلق بعوضة فما فوقها. هي بالنسبة للعربي ولنظرنا اليوم لا نعرف في حياتنا الاجتماعية خلقاً لله سبحانه وتعالى أدق من التي تسمى البعوضة (البقّة هي كبيرة يمكن أن ترى وتنقل الملاريا) البعوضة أصغر أصغر من البقّة حتى أحياناً تكون بقدر خرطومها لصغرها. لكن بعض العلماء (فما فوقها) يقولون المقصود ما هو دونها ونحن لا نميل إلى هذا وإن كانت اللغة تحتمل ذلك، تقول "فلان جاهل" فيقول آخر: "وفوق ذلك" يقصد دون ذلك، فما فوقها أي مما فوقها من البعوضة إلى البقة إلى الذبابة إلى العنكبوت إلى الطير ، كل واحد من هذه المخلوقات لو تفكر فيها الإنسان يسجد لله سبحانه وتعالى لعجيب صنعه تبارك وتعالى فغير مستغرب أن يضرب الله هذه الأمثال.هذا معنى ضرب المثل (بعوضة فما فوقها) لا نُغلِّط الذي يقول فما تحتها لكن نرجح نختار فما فوقها أي فما فوقها لأن العربي لا يعرف شيئاً دون البعوضة ونحن الآن هذه حالنا. الحياء – ولله المثل الأعلى – هذا كلام الله عز وجل، الحياء في اللغة حالة في نفس الإنسان تجعله يُحجِم عن شيء، يحجم عن كلام إستحياء لا يتكلم أحياناً، عن فعل ينوي أن يفعله أو فعل شيئاً إذا وُجه فيه يصيبه الحياء. هي حالة نفسية لكنها لا تنطبق على الباري سبحانه وتعالى وإنما لأنه يستعمل الطريقة التي يتكلم بها العرب فيُفهم من ذلك أن كتاب الله تعالى يرد فيه من غير إحجام ومن غير تردد ذكرٌ لهذه الأمثال. إذا ضرب هذا المثل المؤمن الواعي المدرك يعلم أنه حق لأنه سيتفكر.أما الذين كفروا (فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلا) فيرد عليهم القرآن (يضل به كثيراً) هذا المثال يكون سبباً للإضلال وسبباً للهداية. المؤمن لما يتفكر يهتدي وغير المؤمن أو الفاسق كما عبّرت الآية (وما يضل به إلا الفاسقين) الفاسق الخارج من طبعه أو الخارج من فطرته - لأن المخلوق يولد على الفطرة.