عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴿٤٦﴾    [الروم   آية:٤٦]
آية (46): * فى سورة الروم الآيات 46 و48 تتحدث على نفس الموضوع بينما اختلف الموضوع في الآية 47 فما السبب في اختلاف الموضوع؟ نقرأ الآيات حتى تكون واضحة، قال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) الروم) ترتيب الآيات مهم، قبل هذه الآيات ذكر عاقبة الأمم الكافرة (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُم مُّشْرِكِينَ (42)) ثم ذكرها بعدها فضله على الذين آمنوا تحديداً قال (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45))، إذن أولاً ذكر عاقبة الأمم الكافرة ثم ذكر فضله على الذين آمنوا ثم بدأ بهذه الآيات فضله على الناس (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ) هذه عامة، هذا الكلام عن الناس (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) إذن هذا تدرج. ثم حذر المخاطبين الذين لا يشكرون ربهم على ما آتاهم من النعم وذكرهم بمن قبلهم فقال (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)) حذر المخاطبين الذي لا يشكرون ربهم إذن هذا الترتيب طبيعي. ثم بعد ذلك ذكر ما يتعلق بأمر الرياح على سبيل الخصوص، هناك ذكرها عامة ما ذكر مطر أو غيرها وإنما قال (وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46))، هنا ذكر ما يتعلق بالمطر، أول مرة ذكر موقف الأمم من الرسل ثم هنا ذكر موقف الناس من النِعم، عموم الناس (اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاء كَيْفَ يَشَاء وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48)) هم يستبشرون بهذا لكن ينسون المنعِم، استبشروا بالنعمة ولكن نسوا المنعم فاقتضوا التحذير. ثم ذكر الفلك وذكر المطر الفلك سبيل النجاة والمطر قد يكون سبيل الهلاك. الملاحظ هنا ذكر الفضل والعقوبات (وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)، ذكر الكافرين والمؤمنين، ذكر الرياح والريح (وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَّظَلُّوا مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)) الرياح تبشير والريح عقوبة، ذكر الإستبشار والإبلاس (إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) (وَإِن كَانُوا مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِم مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49)) ، ذكر الرحمة والانتقام (وَلِيُذِيقَكُم مِّن رَّحْمَتِهِ) (فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا)، جمع كل المتقابلات وكان يأتي من النعمة فيذكرهم، يذكر له شيئاً ثم يذكر أليس هذا قد أحسن إليك، ثم اذكر أمراً آخر إضافة إلى ذاك، وهذا يحصل تذكر بأمر ثم تقول أليس هذا من نعمه عليك يا رجل ثم يكر له أمراً آخر ويذكره بنعمة أخرى ويقول هل يحق لك أن تكفر به؟ يذكر نعمة ثم يحذره، يذكر نعمة أخرى ثم يحذره، هذا هو جريان مساق هذه الآيات ثم ذكر المتقابلات الفضل والعقوبة، الكافرين والمؤمنين، الرياح والريح، الإستبشار والإبلاس، الفضل والانتقام كلها في سياق واحد. * متى يكون استخدام صيغة صبّار شكور ومتى يأتى الشكر فقط؟ أولاً كلمة صبّار الصبر إما أن يكون على طاعة الله أو على ما بصيب الإنسان من الشدائد. فالصلاة تحتاج إلى صبر وكذلك سائر العبادات كالجهاد والصوم. والشدائد تحتاج للصبر. أما كلمة شكور: فالشكر إما أن يكون على النعم (واشكروا نعمة الله) أو على النجاة من الشّدّة (لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين) فالشكر إذن يكون على ما يصيب الإنسان من النِّعَم أو فيما يُنجيه الله تعالى من الشِّدّة والكرب. في سورة الشورى قال تعالى (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)) والآية فيها قنوط أولاً ثم إنزال الغيث والأول (القنوط) يحتاج إلى صبر والثاني (إنزال الغيث) يحتاج إلى الشكر لأن إنزال الغيث هورحمة تحتاج إلى الشكر أما القنوط فكان عندما كان المطر محبوساً وهو أمر يحتاج إلى الصبر. و في الآية التي بعدها فقد قال تعالى (وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)) وهذه الآيات فيها أمران أيضاً الأول وهو أن لا تجري السفن (فيظللن رواكد على ظهر) وهذا أمر يحتاج إلى الصبر والثاني إهلاكهن (أو يوبقهن) وهذا من المصائب. و(يوبقهن) لها احتمالان: ـ احتمال إرادة إهلاك من فيها، على المجاز المرسل ، فأطلق المحل وأراد الحالّ فقال تعالى السفن، والمُراد:من فيها، وهذا ما يُسمّى بالمجاز المُرسل وعلاقته محلية ـ أو احتمال إرادة البضائع التي فيها فهذه مصيبة سواء كانت في الأموال (أي السفن نفسها) أو في الأنفس (من في السفن) وكلمة يوبقهن تحتمل الإهلاك في السفن أو المال وكلاهما يحتاج إلى صبر . أما قوله تعالى (ويعف عن كثير) فهي تحتاج إلى شكر. إذن ما تقدّم الآية موضع السؤال وما جاء بعدها يحتاج لصبر وشكر والصبر تقدّم على الشكر فيها وعليه فإن نهاية الأية (صبّار شكور) حاءت واضحة ومتلائمة مع السياق. إضافة إلى هذا فإنه إذا نظرنا في القرآن كله نجد أنه تعالى إذا كان السياق في تهديد البحر يستعمل (صبّار شكور) وإذا كان في غيره يستعمل الشكر فقط. ففي سورة لقمان مثلاً قال تعالى في سياق تهديد البحر (أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)) وفي سورة الشورى (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)) أما في سورة الروم فقد قال تعالى (وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)) فجاء بالشكر فقط وكذلك في سورة النحل (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14)) وفي سورة يونس (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)) وفي سورة الجاثية (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)) وفي سورة فاطر (وقال : "وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) (12)).