عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿الم ﴿١﴾    [البقرة   آية:١]
  • ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴿٢﴾    [البقرة   آية:٢]
ما دلالة استخدام إسم الإشارة (ذلك) في الآية (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) بدل إسم الإشارة هذا؟ إسم الإشارة نفس الإسم أحياناً يستعمل في التعظيم وأحياناً يستعمل في الذم والذي يبين الفرق بينهما هو السياق. كلمة (هذا) تستعمل في المدح والثناء "هذا الذي للمتقين إمام" ويستعمل في الذم (أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) الفرقان) (كذلك) تستعمل في المدح "أولئك آبائي فجئني بمثلهم" أولئك جمع ذلك وهؤلاء جمع هذا، والذم. (ذلك) و(تلك) من أسماء الإشارة ((قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ (32) يوسف) تعظيم، وأحياناً يكون في الذم تقول هذا البعيد لا تريد أن تذكره فهنا الذي يميز بين ذلك الاستعمال والسياق. (ذلك الكتاب لا ريب فيه) هنا إشارة إلى علوه وبعد رتبته وبعده عن الريب وأنه بعيد المنال لا يستطيع أن يؤتى بمثله (ذلك) دلالة على البعيد والله تعالى قال في نفس السورة (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ (24)) هذا الأمر بعيد عن المنال أن يؤتى بمثله. إذن ذلك الكتاب إشارة إلى بعده وعلو مرتبته. والقرآن يستعمل (هذا) لكن في مواطن (إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ (9) الإسراء) عندما قال يهدي للتي هي أقوم يجب أن يكون قريباً حتى نهتدي به لكن لما قال ذلك الكتاب هو عالي بعيد لا يستطاع أن يؤتى بمثله. ثم إنه لم يذكر القرآن إلا بـ (هذا) ولم يقل (ذلك) كلما يشير إلى القرآن يشير بـ (هذا) لأن القرآن من القراءة وهو مصدر فعل قرأ وكلمة قرآن أصلاً مصدر، قرأ له مصدرين قراءة وقرآناً. لما تقرأ تقرأ القريب إذن هذا هو القرآن. الكتاب بعيد ليس قراءة وإنما قد يكون في مكان آخر وهو في اللوح المحفوظ يسمى كتاباً. هناك فرق بين الكتاب والقرآن فالكتاب فيه بعد متصوَّر أما القرآن فيكون قريباً حتى يُقرأ. حتى في كلمة الكتاب لما يقول أنزلنا يقول كتاباً (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ (92) الأنعام). لو قال هنا في آية البقرة هذا الكتاب لا ريب فيه لكن كونه بعيد أن يؤتى بمثله لأنه في السورة نفسها قال (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا) يعني بعيد عليكم فإسم الإشارة (ذلك) دل على علوِّهِ منزلة. * ما دلالة استخدام إسم الإشارة (ذلك) في الآية ؟ وفي سورة الإسراء استخدم (هذا) (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9))؟( د. في آية البقرة (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2)) أشار إلى الكتاب بـ (ذلك) وذلك للبعيد فيدل على علوّه أنه بعيد المنزلة. بعيد عن الريب، مكانته بعيدة وبعده عن الريب لأن بعض الآيات (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23)) بعيد عن الريب لا تستطيعون (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا (24)) معناه أنه ليس في استطاعتهم هذه المسألة بعيدة وهذا الأمر بعيد عن طاقتكم ولذلك قال (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) نفي الريب. (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ) (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ). (مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا) يعني الكتاب نفسه (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) بينما آية الإسراء فيها أكثر من مسألة. أولاً لما ذكر في هداية الناس ومعرفتهم بأحكامه ينبغي أن يكون قريباً حتى يفهموه وإلا كيف يهتدون به ومعرفة أحطامه؟ إذن يجب أن يهتدوا به. هذا أمر، ثم في آية الإسراء لا يحسن أن يقول في آية الإسراء (إن ذلك القرآن يهدي) لا يصح، لأنه تقدم هذه الاية قوله تعالى (وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (2)) لو قال (إن ذلك الكتاب) لرجع إلى التوراة. (وَآَتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) هذه التوراة لو قال بعدها (إن ذلك الكتاب يهدي للتي هي أقوم) لرجع إلى التوراة وليس القرآن ولذلك قال (إن هذا القرآن) إسم العلم حتى لا يشتبه أن المقصود به التوراة البعيدة. ليس فقط هذا، أصلاً في القرآن لم ترد الإشارة إلى القرآن إلا بـ (هذا) لم ترد (ذلك) في جميع القرآن. (وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ (19) الأنعام) (وَمَا كَانَ هَـذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ (37) يونس) (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَـذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا (41) الإسراء) لماذا؟ القرآن من القراءة والقراءة تكون من قريب إذن هذا القرآن. * إرتبط بعينه بالإسم الذي اشتُق منه ؟ ولذلك لا تجد في القرآن الكريم الإشارة إلى القرآن بالبعيد، عدة مناسبات السياق من ناحية وغيره. * هذا يسمى في اللغة شيئاً محدداً أن يرتبط العين باللفظ الذي اشتُقّ منه؟ هو راعى مناسبة الاشتقاق. طبعاً، صارت مناسبة للاشتقاق، هذا كله من باب البلاغة، كونه راعى ما قبلها (ذلك الكتاب) ولما راعى معنى القرآءة معنى القرآن. * هل هو كتاب أم قرآن؟ هو كتاب وقرآن. قال تعالى (وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ (92) الأنعام) * هو كتاب بالنسبة لمن يكتبه أم بالنسبة لمن يقرأه؟ أولاً هو مكتوب في اللوح المحفوظ كتاب، وهنا كُتب إشارة إلى أنه يُكتب، يُقرأ ويُكتب. يُقرأ قرآن ويُكتب كتاب. أيضاً لاحظ (وهذا كتاب أنزلناه) قال أنزلناه فلما أنزلناه صار قريباً قال (هذا) ما قال ذلك. ولذلك كلما يقول أنزلناه يقول (هذا) . الاثنان إسم إشارة، هذا للقريب (هذا كتاب أنزلناه) وقال أنزلناه. وحتى أحياناً يراعي مراعاة أخرى (وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا (12) الأحقاف) كما ذكرنا في آية الإسراء لأنه قال قبلها (وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً (12) الأحقاف) في نفس الاية (وَهَذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَانًا عَرَبِيًّا (12) الأحقاف) لو قال (ذلك) لرجع إلى التوراة. مراعاة دقيقة جداً . *مقارنة بين بداية سورة لقمان وبداية سورة البقرة ؟ • أشار إلى الآيات (تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) لم يشر إلى الكتاب كما في البقرة (ذلك الكتاب) لو لاحظنا في سورة لقمان تردد كثير من الآيات السمعية والكونية، مثلاً قال (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا (7)) الآيات الكونية (خلق السموات بغير عمد، إلقاء الرواسي وإخراج النبات) وسمّاها آيات (وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)). • ثم هنالك أمر وهو أن كلمة الكتاب ومشتقات الكتابة في البقرة أكثر من الآيات وفي لقمان كلمة الآيات أكثر من الكتابة. في البقرة مشتقات الكتاب والكتابة 47 مرة والآيات 21 مرة وفي لقمان ذكر الكتاب مرتين والآيات خمس مرات، هذه سمة تعبيرية أن التي بدأت بالكتاب ذكر فيها الكتاب أكثر والتي بدأ فيها بالآيات ذكر فيها الآيات أكثر. • نلاحظ أيضاً أن هنالك أمر: قال في لقمان (الْكِتَابِ الْحَكِيمِ) في البقرة لم يصف الكتاب. ما معنى الحكيم؟ الحكيم قد يكون من الحكمة أو من الحكم أو استواؤها وعدم وجود الخلل فيها وهذا من باب التوسع في المعنى. لو أراد تعالى معنى محدداً لخصّص. في سورة البقرة ما وصف الكتاب لأن السورة فيها اتجاه آخر. قال الحكيم ثم قال هدى ورحمة، وهنا قال (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) البقرة). وصفه بالحكيم هو مناسب لما ورد في لقمان من الحكمة (آتينا لقمان الحكمة) وذكر الحِكَم، (لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) متناسب مع (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ (23) البقرة) في سورة البقرة وربنا وصف أن الله تعالى عزيز حكيم في سورة لقمان أكثر من مرة فكلمة حكيم مناسبة لجو السورة تبدأ (وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ (12)) وذكر الحكمة. • في البقرة قال (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) ثم قال (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُواْ شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ اللّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَاتَّقُواْ النَّارَ (24)) اتقوا النار مقابل المتقين فإذن هناك مناسبة بين هدى للمتقين وكلمة التقوى ترددت كثيراً في البقرة. فإذن (لاَ رَيْبَ فِيهِ) متناسب مع قوله (وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ) والمتقين واتقوا الله. في لقمان قال (هدى ورحمة للمحسنين) وفي البقرة قال فقط (هدى للمتقين). أولاً ما الفرق بين المتقي والمحسن؟ المتقي هو الذي يحفظ نفسه يتقي الأشياء، المُحسِن يحسن إلى نفسه وإلى غيره (وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً (83) البقرة) الإحسان يتعداه إلى نفسه وإلى غيره. إذن الإحسان لا يقتصر على النفس أما التقوى فتقتصر على النفس، الإحسان إلى الآخرين من الرحمة فلما رحموا الآخرين وتعدى إحسانهم إلى غيرهم فرحموا الآخرين ربنا يزيد الرحمة، أما التقوى للنفس وهؤلاء إحسان للنفس وإلى الآخرين والإحسان إلى الآخرين هي الرحمة فلما زادوا هم زادهم والجزاء من جنس العمل، حتى في الآخرة زاد لهم الجزاء قال تعالى في الآخرة (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26) يونس) وهذه رحمة، فكما زاد الجزاء لهم في الآخرة زاد لهم في الدنيا، (هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) و(هُدًى وَرَحْمَةً لِّلْمُحْسِنِينَ). ولو لاحظنا أن هذه الأوصاف هدى ورحمة للمحسنين هي مناسبة لما ورد في عموم السورة وما شاع في جو السورة، قال هدى ورحمةوإحسان، لو لاحظنا مظاهر الهدى المذكورة في سورة لقمان قال(وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ (15)) الذي يسلك السبيل يبتغي الهداية، هذا هدى،جوالهداية في سورة لقمان شائع. والرحمة لما ذكر قوله تعالى (أن تميد بكم) هذا من الرحمة، ولما ذكر تسخير ما في السموات والأرض وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، (أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ (20)) هل هناك أعظم من هذه الرحمة؟ من مظاهر الإحسان إيتاء الزكاة وفي الوصية بالوالدين والإحسان إليهما، إذن جو السورة كلها شائع فيه الهدى والرحمة والإحسان وهذه ليست في البقرة وإنما سورة البقرة ذكرت أموراً أخرى (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)) (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) وصف كثير ثم انتهى (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)) أما في لقمان فاختصر (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ). في لقمان كرر كلمة (هم) في البقرة لم يكررها (وبالآخرة هم يوقنون). الإيمان أعمّ من الإحسان ولا يمكن للإنسان أن يكون متقياً حتى يكون مؤمناً وورود كلمة المتقين، المؤمنين، المحسنين والمسلمين يعود إلى سياق الآيات في كل سورة. • في البقرة قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) ما قالها في لقمان وقال في البقرة (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) ولم يقلها في لقمان، وقال في لقمان (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاة) وفي البقرة قال (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) وهذه أعم من الزكاة والزكاة من الإنفاق فإذن مما ينفقون تحت طياتها الزكاة. (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وهذا متعلق بالسورة نفسها كما ذكرنا أن في لقمان شاع فيها تردد ذكر الآخرة وهنا جو السورة ومفتتح السورة غالباً ما يكون له علاقة بطابع السورة من أولها إلى نهايتها. في سورة البقرة، قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وبعدها قال (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8)) هذا من الغيب لم يؤمنوا لا بالله ولا باليوم الآخر. وقال على لسان بني إسرائيل (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً (55)) إذن هم لا يؤمنون بالغيب وطلبهم عكس الغيب لذلك هو قال (الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ) وليس مثل هؤلاء الذين يقولون آمنا وما هم بمؤمنين ولا مثل هؤلاء الذين طلبوا أن يروا الله جهرة بينما في لقمان قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25)) إذن هم مؤمنون بالغيب وقال (وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ (32) لقمان) إذن هم دعوا الله، يختلف الطابع. الطابع العام في سورة البقرة الإيمان بالغيب وطلب الإيمان أو الإنكار على عدم الإيمان بالغيب بينما في لقمان الإيمان بالغيب حتى الذين كفروا قال (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) إذن يؤمنون بجزء من الغيب بينما أولئك في سورة البقرة ينكرون (لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً) هذه ليست إيماناً بالغيب وربنا يريد الإيمان بالغيب. ونلاحظ قال (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) وفي البقرة قال (وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ) لأن تكرر في البقرة وذكر عدا الزكاة الإنفاق 17 مرة في البقرة وذكر الزكاة في عدة مواطن وذكر الإنفاق (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ (261)) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَا أَنفَقُواُ مَنًّا وَلاَ أَذًى (262)) (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً (274)) 17 مرة تكرر الإنفاق عدا الأمر بالزكاة في البقرة فإذن هذا أعم. في لقمان ما ذكر الإنفاق فطابع السورة يختلف. حتى (والَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ) لم يقل هذا في لقمان لأنه في البقرة جرى هذا وطلب من أهل الكتاب أن يؤمنوا بما أُنزل إليه وما أنزل من قبله في آيات كثيرة جداً (وَآمِنُواْ بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ (41) البقرة) إذن يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك وهؤلاء لم يؤمنوا (أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ (75)) (وَإِذَا لَقُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ قَالُواْ آمَنَّا (76)) (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ (91)) هم لا يؤمنون بما أُنزل إليه بينما هو طلب (يؤمنون بما أنزل إليك) وحتى في آخر البقرة قال (آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ (285)) طابع السورة هكذا وفي لقمان لم يجد مثل هذا أصلاً ولذلك مفتتح سورة البقرة فيها طابع السورة. • قال تعالى فى سورة لقمان(الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) وفي آية البقرة قال(وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)) أي كرر هم قبل (بالآخرة) ذلك أنه لو لاحظنا في سورة لقمان تردد في السورة ذكر الآخرة وأحوالها والتوعد بها في زهاء نصف عدد آيات السورة وأولها وآخرها (لهم عذاب مهين، فبشره بعذاب أليم، لهم جنات النعيم، عذاب غليظ، إليه المصير، مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ، وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِه) ثم هي بدأت بالآخرة (يوقنون) وانتهت بالآخرة بقوله تعالى (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ (34)) فناسب زيادة (هم) توكيداً على طابع السورة وما جاء في السورة. إضافة إلى أن هؤلاء ذكر أنهم محسنون والمحسنون كما علمنا أنهم يحسنون إلى أنفسهم وإلى غيرهم وزاد فيهم هدى ورحمة وليس كما في البقرة المتقين الذي يحفظ نفسه. فزاد في وصف هؤلاء الذين يعبدون الله كأنهم يرونه وهذا من الإحسان "أن تعبد الله كأنك تراه" زاد في ذكر إيقانهم ويقينهم لما كانوا أعلى مرتبة وزاد لهم في الرحمة وزاد لهم في الآخرة (لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ (26) يونس) زاد في ذكر إيمانهم فقال (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) هم أعلى في اليقين لأن اليقين درجات والإيمان درجات فالإيمان يزيد والاطمئنان درجات واليقين درجات والمحسنين يبعدون الله كأنهم يرونه إذن درجة يقينهم عالية فأكد هذا الأمر فقال (وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) فأكدها على ما ذكر في سورة البقرة (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) .السورة والآية كلها تختلف والسياق يستدعي ذكر الزيادة. • لكن الملاحظ أنه في البقرة وفي لقمان قدم الجار والمجرور على الفعل (وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) لم يقل وهم يوقنون بالآخرة. الأصل في اللغة العربية أن يتقدم الفعل ثم تأتي المعمولات الفاعل والمفعول به والمتعلق من جار ومجرور والتقديم لا بد أن يكون لسبب وهنا قدم (وبالآخرة) وكذلك في البقرة (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) لأن الإيقان بالآخرة صعب ومقتضاه شاق أما الإيمان بالله كثير من الناس يؤمنون بالله لكن قسم منهم مع إيمانه بالله لا يؤمن بالآخرة مثل كفار قريش (وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ (32) الجاثية) وهم مؤمنون بالله (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ (25) لقمان) إذن هم مؤمنون بالله لكن غير مؤمنين بالآخرة ولذلك هنا قدم الآخرة لأهميتها فقال (وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) الإيمان بالله كأنه متسع لكن اليقين بالآخرة ليست متسعة والتقديم هنا للإهتمام والقصر. • النهاية واحدة (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ). هؤلاء المذكورون بهذه الصفات (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) واقتران لفظ الرب مع الهداية اقتران في غاية اللطف والدقة لأن الرب هو المربي والموجه والمرشد والمعلم، هذا الرب في اللغة. لم يقل على هدى من الله وإنما قال على هدى من ربهم وفيها أمران: يمكن أن يقال هدى من الله لأن الله لفظ الجلالة إسم العلم كل الأمور تنسب إليه يصح أن تُنسب إليه بإسمه العلم وأحياناً تنسب إلى صفاته بما يناسب المقام، ينسب لله ما يشاء وكلها تنسب لإسمه العلم ولكن هناك أشياء من الجميل أن تنسب إلى صفاته سبحانه وتعالى مثل أرحم الراحمين، الرحمن الرحيم فهنا قال على هدى من ربهم والرب في اللغة هو أصلاً المربي والموجه والمرشد فيناسب اللفظ مع الهداية واختيار لفظ الرب مع الهداية كثير في القرآن وهو مناسب من حيث الترتيب اللغوي (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) طه) (قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) الشعراء) (قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (161) الأنعام) كثيراً ما تقترن الهداية بالرب وهو اقتران مناسب لوظيفة المربي. إضافة إلى أن ربهم أمحض لهم بالنصح والتوجيه والإرشاد وإفادته هو. (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) لا شك أن ربهم يهدهم فيه إخلاص الهداية وإخلاص التوجيه ورب الإنسان يعني مربيه أخلص له من غيره، هناك دلالة لطيفة بين الرب والهدى وبين بالإضافة ربهم هم، لو استعمل إسم العلم ليس فيه علاقة بهم وإنما عامة لكن على هدى من ربهم لا شك أن ربهم هو أرحم بهم وأرأف بهم لذا فاختيار كلمة رب مناسبة مع الهداية. ثم إضافته إليهم أمر آخر أنه أرأف بهم وأرحم بهم "على هدى من ربهم هم" لأن ربه هو أرأف به وأرحم به وأطلب للخير له. الهدى مقترن بالرب وفيه من الحنو والإرشاد والخوف على العباد ثم إضافة الضمير (ربهم) هذا فيه أن الله يحبهم ويقربهم إليه وفيه من الحنو والنصح والإرشاد والتوجيه ولا شك أن رب الإنسان أحن عليه. وناك أمر إلتفت إليه الأقدمون: قال تعالى (أُوْلَـئِكَ عَلَى هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ) يستعمل مع الهداية لفظ (على) بعكس الضلال يستعمل لها لفظ (في ) (لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) يوسف) هذا ملاحظ في القرآن الكريم (عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (4) يس) (إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) النمل) ويستعمل في للضلال (إِنْ أَنتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (47) يس) وليس فقط في الضلال وإنما ما يؤدي إلى الضلال (فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) التوبة) (فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) يونس) كأن المهتدي هو مستعلي يبصر ما حوله ومتمكن مما هو فيه مستعلي على الشيء ثابت يعلم ما حوله ويعلم ما أمامه أما الساقط في اللجة أو في الغمرة أو في الضلال لا يتبين ما حوله بصورة صحيحة سليمة لذا يقولون يستعمل ربنا تعالى مع الهداية (على ) ومع الضلال (في). • ثم ختم الآية بقوله (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) أولاً جاء بضمير الفصل (هم) وجاء بالتعريف (المفلحون) لم يقل أولئك مفلحون ولم يقل هم مفلحون وإنما حصراً إن هؤلاء هم المفلحون حصراً ليس هنالك مفلح آخر. أولئك الأصل إسم الإشارة من الناحية الحسية المحسوسة إذا لم نرد المجاز أن أولئك للبعيد وهؤلاء للقريب هذا الأصل مثل هذا وذلك. ثم تأتي أمور أخرى مجازية كأن هؤلاء أصحاب مرتبة عليا فيشار إليهم لعلو مرتبتهم بفلاحهم وعلو مرتبتهم بأولئك إشارة إلى علو منزلتهم وعلو ما هم فيه فالذي على هدى هو مستعلي فيما يسير هو مستعلي أصلاً فيشار إليهم بما هو بعيد وبما هو مرتفع وبما هو عالٍ ثم حصر الفلاح فيهم قال (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصراً فمن أراد الفلاح ولا شك أن كل إنسان يريد الفلاح. والذي يؤمن بالآخرة يؤمن بكل شيء وبكل ما يتعلق بذلك وهي ليست كلمة تقال. وذكر ركنين أساسيين واحدة في إصلاح النفس وواحدة في الإحسان إلى الآخرين: إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة فإقامة الصلاة هي أول ما يسأل عنه المرء ولذلك هو قال (وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصراً لا فلاح في غير هؤلاء ومن أراد الفلاح فليسلك هذا السبيل أن يكون على هدى من ربه إذا أراد الفلاح عليه أن يكون على هدى من ربه وليس وراء ذلك فلاح.