عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿٣٣﴾    [لقمان   آية:٣٣]
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)} لقد أمر الله الناس أن يتقوا ربهم فقال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ}، وقال: (ربكم) بإفراد الرب وإضافته إليهم ليدل على أن لهم ربًا واحدًا، فليس ثمة أرباب ولا هو رب فئة دون فئة أو شعب دون شعب، وإنما هو رب الناس جميعًا. واختيار لفظ الرب ههنا له دلالته، ذلك أن الرب هو المربي والمالك والسيد والمنعم والقيم، وهذا يعني أن بيده النفع والضر، فعلى الناس أن يتقوا من بيده ذاك لئلا يمسك نفعه عنهم ويوقع بهم الضر. والناس عادة يحذرون من بيده نفعهم أو يمكن أن يضرهم، بخلاف من لا يملك شيئًا إزاءهم، فذكرهم بربوبيته لهم لأن ذلك من موجبات الاتقاء. واختيار لفظ الرب مناسب أيضًا لذكر الوالد والولد بعده، ذلك أن الرب هو المربي والمعلم والمرشد والقيم، وكذلك الوالد مع ولده فإنه القيم عليه والموجه له والمربي، فهو تناسب لطيف. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 512 إلى ص 512. * * * {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} معنى (لا يجزي): لا يقضي، والمعنى لا ينفعه بشيء ولا يدفع عنه شيئًا (1). لقد قال ههنا: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}، والتقدير (لا يجزي فيه)، غير أنه لم يذكر الجار والمجرور، فلم يقل: (لا يجزي فيه). بخلاف آيات أخرى فإنه ذكر الجار والمجرور فيها، فقد قال: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} {البقرة: 281}، وقال: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} {النور: 37 – 38}. والسبب - والله أعلم - أن الحذف يفيد الإطلاق، ذلك أن النفع والدفع في قوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ .....} لا يختص بذلك اليوم فقط، فإنه إذا جزى أحد عن أحد فإنه لا يقتصر أثر ذلك على ذلك اليوم، بل سيمتد إلى الأبد لأنه سيكون في الجنة، ولو قال: (فيه) لربما أفهم أن أثر ذلك مقتصر على ذلك اليوم. ولذا حيث قال: (لا تجزي) لم يقل: (فيه) وذلك نحو قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} {البقرة: 48}، وقوله {وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ} {البقرة: 123}. بخلاف قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} {البقرة: 281}، فإن ذلك مختص بيوم الحساب، يدل على ذلك قوله تعالى: {ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ}. ويوم الرجوع إلى الله وتوفية الحساب هو يوم القيامة، فذكر (فيه) للتخصيص. ونحوه قوله تعالى: {يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} {النور: 37 – 38}، فإن ذلك مختص بيوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار وهو يوم الجزاء فذكر (فيه) لذلك، والله أعلم. وقال ههنا: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}، فذكر الوالد والولد، وقال في البقرة: {لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا} فذكر عموم النفس وذلك لأكثر من مناسبة. فقد ذكر في السورة الوالدين والوصية بهما ومصاحبتهما بالمعروف، فبين بقوله: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ ....} أن الإحسان إليهما ومصاحبتهما بالمعروف إنما هو مختص في الدنيا ولا يمتد إلى الاخرة. ثم من ناحية أخرى أنه لما ذكر الرب بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} ذكر أنه لا يجزي الوالد عن ولده، لأن الوالد مرب لابنه، فناسب ذكر الرب ذكر الوالد والولد، ولم يرد مثل ذلك في البقرة، فذكر عموم النفس. وقدم الوالد على الولد فقال: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} لأن الأب أكثر شفقة على الولد وأحرص على الدفع عنه فقدمه لذلك. جاء في (البحر المحيط): "لما كان الوالد أكثر شفقة على الولد من الولد على أبيه بدأ به أولاً" (2). وجاء في (التحرير والتنوير): "وابتدئ بالوالد لأنه أشد شفقة على ابنه فلا يجد له مخلصًا من سوء إلا فعله" (3). وقال في الوالد: {لَا يَجْزِي وَالِدٌ} بالفعل، وقال في الولد: {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ} بالاسم، ذلك أن الله وصى الإنسان بوالديه إحسانًا، وهو مكلف بذلك على جهة الدوام والثبوت، بخلاف الوالد فإنه غير مكلف بولده بعد البلوغ، وإنما يدفع عنه أو ينفعه بدافع الشفقة، ففرق بين الجزاءين، فجعل المكلف بالصيغة الاسمية وجعل غير المكلف بالصيغة الفعلية؛ لأن الاسم يدل على الثبوت، وهو أثبت وأدوم من الفعل. ثم إنه لما مر في السورة توصية الإنسان بوالديه ومصاحبتهما بالمعروف ولم يذكر مثل ذلك في معاملة الآباء للأبناء ذكر جزاء الوالدين بالصيغة الاسمية الدالة على الثبوت. جاء في (التفسير الكبير): "الابن من شأنه أن يكون جازيًا عن والده لما له عليه من الحقوق، والوالد يجزي لما فيه من الشفقة وليس بواجب عليه ذلك، فقال في الوالد: (لا يجزي) وقال في الولد: {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ}" (4). وقال أحمد بن المنير في الانتصاف من الكشاف): "إن الله تعالى لما أكد الوصية على الآباء وقرن شكرهم بوجوب شكره عز وجل، وأوجب على الولد أن يكفي والده ما يسووه بحسب نهاية إمكانه، قطع ههنا وهم الوالد في أن يكون الولد في القيامة مجزيه بحقه عليه. ويكفيه ما يلقاه من أهوال القيامة كما أوجب الله عليه في الدنيا ذلك في حقه. فلما كان إجزاء الولد عن الوالد مظنون الوقوع لأن الله حضه عليه في الدنيا كان جديرًا بتأكيد النفي لإزالة هذا الوهم، ولا كذلك العكس" (5). وعبر عن الولد بالمولود في قوله: {وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا}، قيل: لأن الولد يقع على الولد وولد الولد، بخلاف المولود فإنه من ولد منك، فإن "الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل شفاعته، فضلاً أن يشفع لمن فوقه من أجداده" (6). وقيل: إنه عبر بمولود دون (ولد) "لإشعار (مولود) بالمعنى الاشتقاقي دون (ولد) الذي هو اسم بمنزلة الجوامد لقصد التنبيه على أن تلك الصلة الرقيقة لا تخول صاحبها التعرض لنفع أبيه المشرك في الآخرة وفاء له بما تومئ إليه المولودية من تجشم المشقة من تربيته، فلعله يتجشم الإلحاح في الجزاء عنه في الآخرة حسمًا لطمعه في الجزاء عنه" (7). وقوله: (شيئًا) يحتمل معنيين: المصدرية، أي لا يجزي الولد عن والده شيئًا من الجزاء، ويحتمل المفعولية، أي لا يجزي عنه شيئًا من الأشياء. والمعنيان مرادان، فهو لا يجزي عنه شيئًا من الجزاء ولا شيئًا من الأشياء. (1) انظر المحرر الوجيز 11/519، روح المعاني 21/103. (2) البحر المحيط 7/189. (3) التحرير والتنوير 12/193. (4) التفسير الكبير 9/133. (5) الانتصاف من الكشاف بحاشية الكشاف 2/521. (6) الكشاف 2/521. (7) التحرير والتنوير 21/194. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 513 إلى ص 516. * * * {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} يدخل فيه كل وعد وعد به، ومنه ما وعد به عباده في الآخرة. {فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} فتنسوا الآخرة وتشتغلوا بالدنيا. وقد أسند الفعل إلى الحياة الدنيا، والمعنى: لا تغتروا بالحياة الدنيا إهابة بهم إلى أن يأخذوا حذرهم منها، هذا إضافة إلى ما في ذلك من المجاز، فكأن الحياة تنصب الشرك لغير الناس. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 516 إلى ص 517. * * * {وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} الغرور: صيغة مبالغة، وقد وصف بها الشيطان لكثرة غره الناس. وقد اختار (الغرور) على (الشيطان) ليشمل كل ما يغر وأول ذلك الشيطان. وقد أكد الفعلين بالنون الثقيلة التوكيد النهي، ولتوكيد أن الدنيا والشيطان مما يغران الناس غرورًا مؤكدًا، بل هما أكبر مدعاتين إلى الغرور، والله أعلم. وقدم الحياة الدنيا على الشيطان لأنها هي مبتغى الإنسان وهي همه ومطلبه، وهو يكدح من أجلها. ولأن الشيطان قد يغرهم بها ويجعلها شرك الغرور. وقال: (الحياة الدنيا) ولم يقل: (الدنيا) لأن الحياة هي المطلب الأول للإنسان ومراده، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 517 إلى ص 517.