عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ ﴿٣٢﴾    [لقمان   آية:٣٢]
{وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} هذه آية عظيمة من آيات الله في الإنسان، فقد فطره الله على الإيمان به وتوحيده، ولكن الإنسان قد تغطي فطرته أتربة الحياة وركامها فينكر وجود الله أو يشرك به، فإذا وقع في مهلكة أو أصابه مرض وبيل وانقطعت به أسباب الرجاء وأيقن بالهلاك وخاب أمله في كل من كان يرجو منه العون وعجز الجميع عن تنجيته والأخذ بيده، انزاح عن فطرته ما كان قد غطاءها من الأتربة والركام وظهرت الفطرة التي فطره الله عليها على حقيقتها مستغيثة بالواحد الأحد، وهي آية من آيات الله عظيمة لو كان الناس يفقهون. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 506 إلى ص 507. * * * {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} الظلل: جمع ظلة، وهي الجبل أو السحاب أو كل ما أظلك، والمعنى: إذا جاءهم الموج كالجبال وغطاءهم وقد أيقنوا بالهلاك دعوا الله عند ذلك مخلصين له الدين، فلما نجاهم إلى البر كان منهم المقتصد. والمقتصدون أقسام: فمنهم المقتصد في الإخلاص، أي لم يكن على إخلاصه الذي كان عليه حين دعا ربه فقد قل إخلاصه، ومنهم المقتصد في الكفر، أي لم يبق على غلوائه في الكفر والبغي فقد انزجر بعض الانزجار. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 507 إلى ص 507. * * * {وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} الجحود: إنكار ما تعلم من الحق، فإن الإنسان إذا علم شيئًا وأنكره كان جاحدًا. ومنه قوله تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا} {النمل: 14}. وهؤلاء الذين أنجاهم الله من مخالب الموت واستخلصهم من بين أسنانه ثم جحدوا بآياته ليسوا إلا غادرين للعهد الذي أخذوه على أنفسهم بالإخلاص لله، كافرين بنعمه. فإنه كان عليهم أن يفوا بما عاهدوا الله عليه ولكنهم ختروا، أي غدروا ونكثوا. وكان عليهم أن يشكروا نعمة الله ولكنهم كفروا وجحدوا. والختر أشد الغدر والخيانة. جاء في (الكشاف): "يرتفع الموج ويتراكب فيعود مثل الظلل، والظلة كل ما أظلك من جبل أو سحاب أو غيرهما... {فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} متوسط في الكفر والظلم، خفض من غلوائه، وانزجر بعض الانزجار، أو مقتصد في الإخلاص الذي كان عليه في البحر، يعني أن ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط، والمقتصد قليل نادر، وقيل: مؤمن قد ثبت على ما عاهد عليه الله في البحر. والختر: أشد الغدر" (1). وجاء في (المحرر الوجيز): "الختار: القبيح الغدر، وذلك أن نعم الله تعالى على العباد كأنها عهود ومنن يلزم عنها أداء شكرها والعبادة لمسديها، فمن كفر بذلك وجحد به فكأنه ختر وخان" (2). وقد تقول: لقد قال هنا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ}، وقال في العنكبوت: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} فما السبب؟. والجواب: أن سياق كل آية يوضح السبب. فقد قال في لقمان: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)} {لقمان: 32}. وقال في العنكبوت: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} {العنكبوت: 65}. فأنت ترى أن الخطر في آية لقمان أعظم والهول أكبر، ذلك أن الموج غشيهم كالظلل. أما في آية العنكبوت فلم يذكر هولًا ولا خطرًا، فإنه قال: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ} وهو خوف يعتري راكب البحر. فلما كان الهول في آية لقمان أكبر وأعظم وكانوا من الموت بمنزلة من ضيغمه الأسد ونجا، أو بمنزلة من استخلص من فم التمساح، انزجروا بعض الشيء فاقتصدوا في الذنوب بعد أن كانوا مسرفين فيها، أو اقتصدوا في الطاعة بعد أن كانوا منها بعد المشرقين. وليس الأمر كذلك في العنكبوت. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن سياق الكلام في العنكبوت على المشركين. قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) .... وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63) وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ} {العنكبوت: 61 – 67}. فقد قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} يعني المشركين، ثم يستمر الكلام عليهم إلى أن ذكر الآية {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ}، ثم قال بعدها: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آَمِنًا}. فسياق الكلام - كما ترى - إنما هو على المشركين فقال: إنهم إذا ركبوا البحر أخلصوا دينهم لله، فلما نجاهم إلى البر عادوا إلى شركهم فجأة، ولذا جاء بإذا الفجائية للدلالة على ذلك. أما السياق في لقمان فيختلف، إذ هو ليس في الكلام على المشركين. قال تعالى: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} {لقمان: 28 – 33} إلى آخر السورة. فاختلف السياقان فناسب كل تعبير مكانه الذي ورد فيه. جاء في (التفسير الكبير): "قال في العنكبوت: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ}، ثم قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} {العنكبوت: 65}، وقال ههنا: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ }فنقول: لما ذكر ههنا أمرًا عظيمًا وهو الموج الذي كالجبال بقي أثر ذلك في قلوبهم فخرج منهم مقتصد أي في الكفر وهو الذي انزجر بعض الانزجار، أو مقتصد في الإخلاص فبقي معه شيء منه ولم يبق على ما كان عليه من الإخلاص، وهناك لم يذكر مع ركوب البحر معاينة مثل ذلك الأمر فذكر إشراكهم حيث لم يبق عنده أثر" (3). لقد ذكر في هذه الآية والتي قبلها أصناف الناس ممن يركبون البحر، فذكر التيار الشكور، وذكر المقتصد، وذكر المختار الكفور. ثم نادى الناس جميعًا بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ....}. وهناك ملاحظة نود أن نشير إليها في هذه الآية، وهي أنه قدم الجار والمجرور (له) على (الذين) فقال: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} وهذا هو الشأن في كثير من الآيات نظائرها، فإنه يقدم الجار والمجرور على الدين، إلا في آية واحدة قدم الدين وأخر الجار والمجرور وهي قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} {النساء: 146}، فإنه قال: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ} ولم يقل: (وأخلصوا الله دينهم) فما السر في هذا الاختلاف؟ من المعلوم أن التقديم والتأخير إنما يكون بحسب ما يقتضيه السياق، والسياق في سورة النساء في الكلام على المنافقين، فقدم ما يتعلق بهم وهو (دينهم) أي الدين مضافًا إلى ضميرهم، وأما الآيات الأخرى فالكلام على الله سبحانه فقدم ما يتعلق به وهو ضميره المجرور. وإيضاح ذلك أن الكلام على المنافقين في سورة النساء بدأ من قوله تعالى: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} {النساء: 138}، إلى الآية (146)، فقال لذلك: {وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ}، والضمير في (دينهم) يعود على المنافقين، فقدم ما تعلق بهم. أما الآيات الأخرى فالكلام فيها على الله سبحانه، ومن ذلك قوله تعالى: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} {الزمر: 1 – 3}. ويستمر الكلام على الله إلى أن يقول: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} {الزمر: 11 – 15}. فقدم الجار والمجرور (له) وفيه الضمير الذي يعود على الله في ثلاثة مواضع لما ذكرنا. ونحوه قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {غافر: 65}، فقدم الجار والمجرور وذلك لأن الكلام على الله، وذلك ابتداء من قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} {غافر: 60} إلى الآية (۷۷) بل يستمر الكلام على الله إلى نهاية السورة وهي الآية الخامسة والثمانون، فناسب تقديم الضمير الذي يعود عليه، والله أعلم. (1) الكشاف 2/520. (2) المحرر الوجيز 11/518. (3) التفسير الكبير 9/132. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 507 إلى ص 512.