عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُم مِّنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ﴿٣١﴾    [لقمان   آية:٣١]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31)} لما ذكر تسخير بعض ما في السماوات في آية سابقة، ذكر في هذه الآية تسخير بعض ما في الأرض وهي الفلك. فذكر هناك جري الشمس والقمر، وذكر هنا جري الفلك. ولما قال: {بِنِعْمَةِ اللَّهِ}، وقال: {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ} علمنا أن الله هو مجريها ومسيرها فأغنى ذلك عن أن يقول: (ألم تر أن الله يجري الفلك) أو نحو ذلك. وقوله: {بِنِعْمَةِ اللَّهِ} يفيد معنيين: الأول: أنها تجري بسبب نعمة الله وهو تسخيرها وتسخير البحر، فمن نعمة الله أنه سخر الفلك لنا كما قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} {إبراهيم: 32}، وأنه سخر البحر لتجري فيه الفلك كما قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ} {الجاثية: 12}. والمعنى الآخر: أنها تجري بنعمة الله، أي بما تحمله من البضائع مما أنعم الله به على الإنسان. والمعنيان مرادان، فهي تجري بنعمة التسخير، وهي تجري بما تحمله من النعم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 503 إلى ص 503. * * * {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ} وهي آيات عظيمة، منها آيات في التسخير، ومنها آيات في أسرار البحار وما أودع فيها من العجائب، ومنها آيات في ضعف الإنسان وخوفه وعجزه وإنابته إلى ربه حين يركب البحر، وكيف يعود إلى ما كان عليه حين ينجيه إلى البر، ومنها آيات في أهوال البحر وعجيب قدرة الله إذا شاء أن ينجي المرء بعد أن انقطعت به الأسباب. وغير ذلك من الآيات. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 503 إلى ص 504. * * * {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} صبار على طاعة الله وعلى ما يصيبه من الشدائد، شكور على ما أفاض عليه من النعم أو على ما يمن عليه من النجاة. فالصبر إما أن يكون صبرًا على الطاعة أو صبرًا على الشدة، فالطاعات تحتاج إلى الصبر، فالصلاة مثلا تحتاج إلى الصبر كما قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} {طه: 132}، والصوم يحتاج إلى الصبر، بل إنه نصف الصبر كما قال ، والجهاد يحتاج إلى الصبر. والطاعات كلها تحتاج إلى الصبر. والشدائد تحتاج إلى الصبر كما هو معلوم. والشكر يكون على النعمة، ولذا كثيرًا ما تقترن النعمة بطلب الشكر في القرآن الكريم، قال تعالى: {وَاشْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} {النحل: 114}، وقال: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {المائدة: 6}. وقال في إبراهيم عليه السلام: {شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ} {النحل: 121}. وقد يكون الشكر على النجاة من الشدة كما قال تعالى على لسان راكبي البحر: {لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ} {يونس: 22}. وقال ههنا لكل صبار شكور فذكر الشكر لما ذكر نعمته فقال: {تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ} {لقمان: 31}، وذكر الصبر لما قال بعد ذلك: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ}. جاء في (البحر المحيط): "ولما تقدم ذكر جري الفلك في البحر وكان في ذلك ما لا يخفى على راكبه من الخوف، وتقدم ذكر النعمة، ناسب الختم بالصبر على ما يحذر، وبالشكر على ما أنعم به تعالى" (1). وقد اقترن وصف (الصبار) بالشكور دومًا في القرآن، فلم ترد كلمة (صبار) إلا وقال معها: (شكور). وقد جاء بهذين الوصفين على صيغة المبالغة للدلالة على أن الإنسان يحتاج إلى الصبر على وجه الدوام، ويحتاج إلى الشكر على وجه الدوام. فالإنسان تلزمه طاعة ربه على الدوام، فيحتاج إلى الصبر على الطاعة. وهو عرضة لما يكره فيحتاج إلى الصبر على ما يكره. ويحتاج إلى الشكر على الدوام؛ لأن نعم الله عليه دائمة مستفيضة. ومن الملاحظ في التعبير القرآني أنه إذا ذكر تهديدًا في البحر أو خوفًا فيه قرن ذكر الصبر بالشكر، فإن لم يذكر التخويف والتحذير ذكر الشكر وحده ولم يذكر الصبر، ولما قال في هذه الآية: {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} ذكر الصبر فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ومثله ما جاء في سورة الشورى وهو قوله: {وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} {الشورى: 32 – 34{. فإنه لما هددهم بالإغراق وإهلاكهم في البحر بقوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} ذكر الصبر فقال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}. فإن لم يذكر التهديد ذكر الشكر وحده ولم يذكر الصبر كما في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {النحل: 14}. وقوله: {وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {الروم: 46}. وقوله: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {فاطر: 12}. وقوله: {اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {الجاثية: 12}. فإنه لما ذكر النعم عليهم ولم يذكر تهديدًا أو تخويفًا ذكر الشكر ولم يذكر الصبر، والله أعلم. (1) البحر المحيط 7/188. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 504 إلى ص 506.