عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴿٢٩﴾    [لقمان   آية:٢٩]
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29)} ذكر في السورة أولًا خلق السماوات، وذكر ما يتعلق بالأرض من إلقاء الرواسي وغيرها فقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ .....}. ثم ذكر تسخير ما فيهما على العموم فقال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .....}. ثم ذكر في هذه الآية وما بعدها تسخير بعض ما فيهما فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ .....}. جاء في (التفسير الكبير): "يحتمل أن يقال: إن وجه الترتيب هو أن الله تعالى لما قال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} على وجه العموم ذكر منها بعض ما هو فيهما على وجه الخصوص بقوله: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ}، وقوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} إشارة إلى ما في السماوات، وقوله بعد هذا: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ ....} إشارة إلى ما في الأرض" (1). لقد قال ههنا: (ألم تر) بخطاب المفرد، وقال في آية التسخير الأولى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ} بخطاب الجمع، ذلك أن سياق الكلام في الآية الأولى في خطاب الجمع، فقد قال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ....} فقال: (ترونها)، ثم قال: (بكم) على خطاب الجمع، ثم قال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} فقال: (أروني) بخطاب الجمع، فناسب فيها خطاب الجمع. أما هذه الآية، أعني {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ .....}، فقد جاءت في سياق خطاب المفرد، فقد قال: {وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}، فقال: (فلا يحزنك) بخطاب المفرد، ثم قال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} فقال: (سألتهم) بخطاب المفرد، ثم قال: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} فقال: (قل) بخطاب المفرد، فناسب خطاب الإفراد، واستمر في خطاب المفرد بعد ذلك فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ}. وقد تقول: ولكنه خاطب الجمع قبل هذه الآية فقال: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}. فنقول: لا يصح هنا خطاب المفرد، فلا يصح أن يقال: (ما خلقك ولا بعثك إلا كنفس واحدة) فإنه نفس واحدة. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه لما ذكر ما في السماوات وما في الأرض على العموم خاطب العموم فقال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ}، ولما ذكر بعض ما فيهما خاطب المفرد فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ} فناسب العموم العموم، وناسب التخصيص الإفراد، والله أعلم. (1) التفسير الكبير 9/129. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 492 إلى ص 493. * * * {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} بدأ بالليل لأن الليل أقدم وأسبق من النهار، ذلك أنه قبل خلق الشمس لم يكن نهار. وقدم الشمس على القمر لأنها أقدم وأسبق من القمر، والله أعلم. وجاء بالفعل (يولج) مضارعًا لأن ذلك يتجدد في كل لحظة، وجاء بالفعل (سخر) ماضيًا لأن ذلك لا يتجدد تجدد الإيلاج. جاء في (التفسير الكبير): "قال: (يولج) بصيغة المستقبل، وقال في الشمس والقمر: (سخر) بصيغة الماضي؛ لأن إيلاج الليل في النهار أمر يتجدد كل فصل بل كل يوم، وتسخير الشمس والقمر أمر مستمر" (1). وجاء في (روح المعاني): "وعطف قوله سبحانه: (سخر) على قوله: (يولج)، والاختلاف بينهما صيغة لما أن إيلاج أحد الملويين في الآخر متجدد في كل حين، وأما التسخير فأمر لا تعدد فيه ولا تجدد، وإنما التعدد والتجدد في آثاره" (2). وقال: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} ولم يقل: (وسخر لكم) كما في الآية الأولى لأنه ليس المقام ههنا مقام تعداد النعم كما في الآية الأولى، وإنما في بيان آيات الله، كما قال تعالى: {لِيُرِيَكُمْ مِنْ آَيَاتِهِ}. ثم إنه من ناحية أخرى قال: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} فذكر أن لهما أجلاً مسمى، ولا يناسب ذلك ذكر النعم، فإن من تمام النعمة الدوام وهنا ذكر الانقطاع، ولذا حيث قال: (سخر لكم) لم يقل: (إلى أجل مسمى) (3). (1) التفسير الكبير 9/130. (2) روح المعاني 21/102. (3) انظر على سبيل المثال سورة إبراهيم 33، النحل 12. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 493 إلى ص 494. * * * {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال ههنا: {يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ} فعدى الفعل (يجري) بإلی، وقال في آيات أخرى: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} فعداه باللام (1). ومما ذكر في الفرق بينهما أن (إلى) تفيد انتهاء الغاية، واللام تفيد الاختصاص وتفيد التعليل، فمعنى (يجري لأجل) أنه يجري لهذه الغاية، أي لإدراك الأجل المسمى، كما تقول: يجري لغرض وصول الهدف وبلوغه. ومعنى (يجري إلى أجل) أنه يجري إلى أن يبلغ الأجل المسمى. ومجيء (إلى) في هذه الآية أنسب لأنها جاءت في سياق الآيات المنبهة على الحشر والإعادة. جاء في (درة التنزيل): "للسائل أن يسأل عن اختصاص ما في سورة لقمان بقوله: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} وما سواه إنما هو يجري لأجل مسمى. والجواب أن يقال: إن معنى قوله: {كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} يجري لبلوغ أجل مسمى، وقوله: {يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ}؛ معناه: لا يزال جاريًا حتى ينتهي إلى آخر وقت جريه المسمى له. وإنما خص ما في سورة لقمان بـ (إلى) التي للانتهاء واللام تؤدي نحو معناها لأنها تدل على أن جريها لبلوغ الأجل المسمى؛ لأن الآيات التي تكتنفها آيات منبهة على النهاية والحشر والإعادة، فقبلها: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}، وبعدها {اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ}؛ فكان المعنى: كل يجري إلى ذلك الوقت وهو الوقت الذي تكور فيه الشمس وتنكدر فيه النجوم كما أخبر الله تعالى. وسائر المواضع التي ذكرت فيها اللام إنما هي في الإخبار عن ابتداء الخلق وهو قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} فالآيات التي تكتنفها في ذكر ابتداء خلق السماوات والأرض وابتداء جري الكواكب وهي إذ ذاك تجري لبلوغ الغاية، وكذلك قوله في سورة الملائكة إنما هو في ذكر النعم التي بدأ بها في البر والبحر، إذ يقول: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} إلى قوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ}. فاختص ما عند ذكر النهاية بحرفها، واختص ما عند الابتداء بالحرف الدال على العلة التي يقع الفعل من أجلها" (2). وقال: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى }ولم يقل: (إلى أجل) ليدل على أن مدة جريها محددة مسبقًا. وقال بعد ذلك: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إلماحًا إلى أن هذا الأجل المسمى هو وقت النظر في الأعمال والمحاسبة عليها، فارتبط قوله: {وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} بقوله: {كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}. وارتبط أيضًا بقوله: {فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}، وقوله: {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا}، وارتبط أيضًا بما بعده من التحذير من اليوم الآخر. وقدم الجار والمجرور (بما تعملون) على (خبير) للاهتمام بالعمل. وناسب هذا الاهتمام ما تردد في السورة من ذكر الأعمال والتنبئ بها ومآل أصحابها، والله أعلم. (1) انظر سورة الرعد 2، فاطر 13، الزمر 5. (2) درة التنزيل 374 – 375، وانظر معاني النحو 3/75. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 494 إلى ص 496.