عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴿٢٨﴾    [لقمان   آية:٢٨]
{مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)} ارتبطت هذه الآية بما قبلها وبما بعدها أحسن ارتباط وأوثقه. فإن خلق الناس من كلمات الله. وإن بعثهم من كلمات الله. وإن خلقهم كنفس واحدة من كلمات الله. وإن بعثهم كنفس واحدة من كلمات الله التي لا تنفد. كما ارتبطت بخاتمة الآية السابقة. فإن الخالق عزيز حكيم، ذلك أن الخالق له العزة، فالمخلوقات كلها من صنعه، وأنها طائعة لأمره، فارتبط ذلك باسم العزيز. والخالق حكيم، حكيم في خلقه وصنعه. وهو خلقهم لحكمة أرادها، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} {الذاريات: 56}، وقال: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} {الملك: 2}، فارتبط باسمه الحكيم، فهو خلقهم بحكمة وخلقهم لحكمة، فهو حكيم في الصنع وحكيم في الغرض الذي خلقهم من أجله. والذي يبعث الخلائق للحساب والجزاء عزيز حكيم. فإنه عزيز لأنه يجازي ويعاقب ويعذب ولا راد لأمره. وهو حكيم بمعنى الحكمة وبمعنى الحكم، فإن البعث ومحاسبة الخلائق كل ذلك لحكمة واضحة بينة، فإنه ليس من الحكمة أن يترك عباده هم من دون حساب، تعالى الله عن ذلك، كما قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} {المؤمنون: 115 – 116}. وهو حكيم بمعنى الحكم؛ لأنه سيحاكمهم ويحكم بينهم كما قال تعالى: {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} الزمر: 46}. وقد ارتبطت الآية بما بعدها وهو قوله: {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى} {لقمان: 29}، وهذا الأجل المسمى هو الذي يبعث الله الخلائق فيه، وهم يجرون كجري الشمس والقمر إلى ذلك اليوم. كما ارتبطت بجو السورة التي شاع فيها ذكر الخلق والبعث. فقد قال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} {لقمان: 10}، وقال: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} {لقمان: 11}، وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} {لقمان: 25}. هذا في الخلق. وأما البعث فهو شائع في السورة من أولها إلى آخرها كما سبق أن ذكرنا. فقد قال في أول السورة: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}، وقال في آخرها: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ …… إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}. وارتبطت بمقاصد السورة وهي عبادة الله وتثبيت عقيدة اليوم الآخر وآداب السلوك وإحسان العمل. فالذي يخلق يستحق العبادة دون من سواه، وإذا كان يخلق الخلق كنفس واحدة كانت العبادة له ألزم. والذي يبعث الخلق يستحق العبادة دون من سواه، وإذا كان يبعثهم كنفس واحدة كانت العبادة له ألزم. والغرض من الخلق إنما هو العبادة وإحسان العمل، وإحسان العمل من العبادة كما قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} {الملك: 2}. والبعث إنما هو للجزاء على العمل. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 486 إلى ص 488. * * * {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} قد تقول: أليس من الأولى أن يقال ههنا: {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}؟ فنقول: إن الآية التي تساق قد تحتمل أكثر من خاتمة، فيمكن أن تجعل (إن الله على كل شيء قدير) خاتمة لكثير من الآيات في السورة، فكان من الممكن أن تجعل خاتمة لقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ......}، وقوله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ ....}، وقوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ ....} وغيرها. وقد تحتمل خواتيم أخرى، وكذلك الأمر في السور الأخرى. ولكن اختيار الخاتمة ينبغي أن يكون مناسبًا للسياق الذي وردت فيه الآية والغرض الذي ذكرت من أجله. والآية ينبغي ألا تؤخذ بمفردها بل ينبغي أن توضع في سياقها الذي وردت فيه لتفهم مقاصدها واختيار ألفاظها وتعابيرها. فينبغي أن ننظر مثلاً هل الآية واردة في سياق بيان القدرة الإلهية وسعتها، أو هي واردة في بيان الحكمة، أو في بيان التفضل والنعمة، أو في بيان الغنى، أو لبيان الصفات الإلهية الأخرى، أو في بيان موقف الإنسان من ذلك، إلى غير ذلك من الأغراض. ولأضرب مثلًا على ذلك بإنزال الماء من السماء وإخراج الزرع والفواكه والحبوب به. فهذا يمكن أن يساق في بيان قدرة الله، ويمكن أن يساق في بيان نعمة الله على الإنسان والحيوان، ويمكن أن يساق في بيان الاستدلال على البعث والنشور، ويمكن أن يساق في بيان جحود الإنسان لنعمة ربه، واختيار الخاتمة ينبغي أن يكون موافقًا للغرض الذي وردت من أجله الآية. وهذا يجري في حياتنا اليومية كثيرًا فقد تذكر أمرًا واحدًا لكن الغرض من ذكره يختلف، فقد تذكر مثلاً حادثة غريبة تدل على كل شخص، ولكن قد تذكر الحادثة لبيان صفة هذا الشخص أو للتندر منه أو لبيان أن هذا الشخص لا ينبغي أن يكون في المكان الذي عهد به إليه أو أنه سيفرط في المسألة التي أنيطت به أو غير ذلك، ثم يكون التعقيب بعد ذلك مناسبًا للغرض الذي أوردت من أجله الحادثة. وهكذا ينبغي أن نتأمل في خواتيم الآية وسبب ورودها على هذا النحو دون ذاك، فإن ذلك يهدينا إلى مقاصد التعبير وأغراضه في القرآن الكريم، وستنكشف لنا أمور في غاية الدقة وحسن الاختيار (1). وقد ارتبطت خاتمة الآية ههنا بسياق الآية أحسن ارتباط وأوثقه، فإن الآية هي {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}. فابتدأت بالخلق والبعث وختمت بالسمع والبصر. والخالق لا بد أن يكون سميعًا بصيرًا. والذي يبعث الخلائق من مدافنها لا بد أن يكون سميعًا بصيرًا. والخالق الذي يخلق عباده ليعبدوه وليبلوهم أيهم أحسن عملاً لا بد أن يكون سميعًا لأقوالهم بصيرًا بأعمالهم. والذي يبعثهم ليحاسبهم على أقوالهم وأفعالهم لا بد أن يكون سميعًا لما قالوه في الدنيا ولما يحتجون به في الآخرة، بصيرًا بهم وبأعمالهم وبما أعد لهم، وأنه لا يند عنه من الخلائق أحد فلا يبقى أحد من دون بعث ولا حساب. ثم إن أعمال الإنسان منها ما يسمع ومنها ما يبصر ومنها ما يضمر. فقال ههنا: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} فشمل ما يسمع وما يبصر وما يضمر. ذلك أن (البصير) ههنا يحتمل أن يكون من معنى الرؤية، ويحتمل أن يكون من معنى البصيرة كما قال تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} {القيامة: 14}، وقوله: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} {يوسف: 108}. ومنه قوله تعالى: {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} {غافر: 44}، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} {البقرة: 237}. فقوله: (سميع) يشمل ما يسمع. وقوله: (بصير) يشمل ما يبصر وما يضمر. هذا إضافة إلى أنه قال في آية سابقة: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فذكر ما يضمر تنصيصًا، فشمل كل ما يسمع ويبصر ويضمر. لقد قال: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} ولم يقل: (إن الله هو السميع البصير) ذلك أن معنى (هو السميع البصير) المتفرد بالسمع والبصر، غير أنه قد أثبت السمع والبصر لخلقه. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ .....}، وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ ......}. وقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ ......}. فأثبت الرؤية لهم. وقال: {وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} فأثبت له السمع لكنه يعمل نفسه كأنه لم يسمعها، وقد وضع الله الأذنين للسمع. وقال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ......} وهذا إثبات للسمع، فالمجادل يسمع ولا شك. وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} وهذا إثبات للسمع أيضًا، فإنهم ردوا على القول. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ}. فأجابوا عن السؤال. وكل هذا إثبات للسمع. فأثبت الرؤية والسمع لخلقه، فكان ما قاله أولى. ثم إنه قدم السمع على البصر وهو شأن أكثر ما ورد في القرآن الكريم، وقد ذكرنا تعليلًا لذلك في كتابنا (التعبير القرآني) فلا نعيد القول فيه (2). (1) انظر مبحث (فواصل الآية) في كتابنا (التعبير القرآني). (2) انظر التعبير القرآني باب (التقديم والتأخير) ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 488 إلى ص 491.