عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴿٢٥﴾    [لقمان   آية:٢٥]
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25)} قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ} باللام الموطئة للقسم، ولم يقل: (وإن سألتهم)، ويؤتى بهذه اللام للدلالة على التوكيد وأن الكلام معها بمنزلة القسم، بل هو قسم عند النحاة. وهذا يدل على أنهم يعلمون يقينًا أن الذي خلق السماوات والأرض إنما هو الله لا يشكون في ذلك ولا يترددون في الإجابة، ولذا أجاب بما يجاب به القسم {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} باللام ونون التوكيد. وقال: {لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} والتقدير (ليقولن خلقهن الله) غير أنه لم يذكر الفعل (خلقهن) إيجارًا. إن كل الآيات التي سألهم فيها: من خلق السماوات والأرض أو من خلقهم قال الله فيها: (ليقولن الله) من دون أن يقول: (خلقهن الله) أو (خلقنا الله) إلا آية واحدة ذكر فيها الفعل وهي قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} {الزخرف: 9}. فقال: {خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ}. إن المعنى معلوم سواء ذكر الفعل أم لم يذكر لتقدم ما يدل عليه، غير أنه يحذف إذا أراد الإيجاز ويذكر إذا أراد أن يتوسع في الكلام ويؤكد وقد ذكر الفعل في آية الزخرف؛ لأنه أراد أن يتوسع في الكلام على الخلق فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} {الزخرف: 9 – 13}. فذكر الفعل (خلقهن) لأنه ذكر بعده ما يتعلق بالخلق. أما الآيات التي لم يذكر فيها الفعل (خلق) في الجواب فإنه لم يتحدث عن الخلق بعدها، وقد لا يقول غير (الحمد لله)، وإليك بيان ذلك: قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} {العنكبوت: 61}، ولم يذكر شيئًا عن الخلق، وقال بعدها: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} {العنكبوت: 62}، فذكر بعدها ما يتعلق بالرزق لا بالخلق. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {لقمان: 25}، وانتقل بعدها إلى أمر آخر غير الخلق فقال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} {لقمان: 26}، فذكر الملك ولم يذكر الخلق، وليس من اللازم أن يكون المالك خالقًا، فقد يملك الشخص أشياء ليس هو خالقها أو صانعها. وقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} {الزمر: 38}، ولم يذكر بعدها شيئًا يتعلق بالخلق، وإنما انتقل إلى ما يعبدونه من دون الله فقال: {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} {الزمر: 38}. وقال في موطن آخر من سورة الزخرف: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} {الزخرف: 87}، ولم يذكر شيئًا يتعلق بالخلق، وإنما قال بعدها: {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ} {الزخرف: 88}. فناسب ذكر (خلقهن) في آية الزخرف التاسعة دون بقية الآيات، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 476 إلى ص 478. * * * {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} لأن الحجة قامت عليهم ولزمتهم وأبرأت نفسك أمام الله، وقل الحمد لله الذي هدانا للحق ولم نكن مثلهم فنكون ممن يدعوهم الشيطان إلى عذاب السعير. وقل الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض، فهو مستحق الحمد كله ومستحق العبادة وحده. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 478 إلى ص 478. * * * {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} لا يعلمون أن الذي خلق السماوات والأرض هو وحده المستحق للعبادة وأنه لا شريك له. إنهم يعلمون شيئًا مهمًا وهو أن الله هو الذي خلق السماوات والأرض ولكن لا يعلمون ماذا ينبني على هذا العلم. إنهم كمن يعلم البديهيات ولا يعلم ما ينبني عليها. مثلهم في ذلك - ولله المثل الأعلى - مثل من يعرف أباه، وأنه هو الذي رباه وأنفق عليه وأغدق عليه النعم وأنه لا يزال يتعهده وينفق عليه ولكنه مع ذلك لا يعلم أن عليه أن يطيعه ويشكره، فيطيع ويشكر من لا فضل له ولا منة ولا نعمة، بل هو يطيع عدوه وعدو والده، وقد ذكره أبوه بما يعلم وماذا عليه من الحقوق تجاهه فأبى عليه مع كل ذلك. فأي جحود هذا وما قيمة العلم بفضل أبيه عليه؟!. جاء في (روح المعاني): "{قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ} على إلزامهم وإلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان ما هم عليه من إشراك غيره تعالى به جل شأنه في العبادة التي لا يستحقها غير الخالق والمنعم الحقيقي... {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} أن ذلك يلزمهم، وفيه إيغال حسن، كأنه قال سبحانه: وإن جهلهم انتهى إلى أن لا يعلموا أن الحمد لله" (1). قد تقول: لقد قال في لقمان: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} فنفى عنهم العلم. وقال في سورة العنكبوت: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} {العنكبوت: 63}، فنفى عنهم العقل، والذم بعدم العقل أشد من الذم بعدم العلم، ذلك أن نفي العقل يعني المساواة بالبهائم. فإن ذا العقل يتعلم، أما فاقد العقل فلن يتعلم، فما سبب هذا الاختلاف؟. والجواب: أن السياق في كل من الموطنين يوضح ذلك: قال في لقمان: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}. وقال في العنكبوت: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} {العنكبوت: 61 – 63}. ومن النظر في النصين نرى أنه سألهم في لقمان سؤالًا واحدًا وهو: من خلق السماوات والأرض؟ وسألهم في العنكبوت عدة سؤلات: من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر؟ ومن نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها؟. وأجابوا عن كل ذلك أنه الله. فمعرفتهم بكل ذلك مع إيمانهم بوحدانيته تعالى دليل على عدم عقلهم. فإنهم يؤمنون بكل المسلمات الأساسية للتوحيد ومع ذلك لم يستطيعوا الإيمان به، أي بالتوحيد. ومعنى هذا أنه ليس عندهم من العقل ما يترقون به من المسلمات إلى النتائج الظاهرة، ولو كان عندهم شيء من العقل لأدركوا أن من يفعل ذلك كله هو المستحق بأن يفرد بالعبادة منزها عن الشريك. أما في لقمان فإن السؤال الذي سألهم إياه هو أحد السؤلات التي سألها في العنكبوت فكان الأمر أيسر، فرماهم بما هو أيسر وهو نفي العلم دون العقل، والله أعلم. (1) روح المعاني 21/96. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 478 إلى ص 480.