عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَمَن كَفَرَ فَلَا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴿٢٣﴾    [لقمان   آية:٢٣]
{وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23)} نود أن نذكر طرقًا من الملاحظات التعبيرية في هذه الآية. 1- قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} فجاء بفعل الشرط ماضيًا بعد قوله تعالى في الآية السابقة: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ}، وقد كان فعل الشرط مضارعًا. وهذا التعبير نظير قوله تعالى في آية سابقة {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} فجاء بفعل الشرط الأول مضارعًا (يشكر)، وجاء بفعل الشرط الثاني وهو قوله: (كفر) ماضيًا، وقد ذكرنا سبب مجيء الفعل في قوله: {وَمَنْ يُسْلِمْ} مضارعًا. أما قوله: (من كفر) فهو نظير ما ذكرناه في قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ } فلا نعيد القول فيه. 2- قال: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ} فجعل الكفر فاعلًا والمخاطب مفعولًا به، والمعنى: لا تحزن لكفره. وقد جاء بالتعبير على هذه الصورة لأكثر من سبب: من ذلك أنه نهى الكفر أن يحزن رسول الله، فكأن الكفر يريد أن يحزن رسول الله فنهاه الله أن يفعل ذلك رأفة برسوله وإشفاقًا عليه، فكأنه قال: أيها الكفر لا تحزن رسولي، وذلك أن المنهي إنما هو الفاعل، تقول: (لا يضرب أخوك خالدًا) فالمنهي عن الضرب أخوك. هذا إضافة إلى ما فيه من التعبير المجازي، فكأن الكفر ذات عاقلة تريد أن تحزن رسول الله فنهاه الله عن ذلك. ولو قال: (لا تحزن لكفره) لم يؤد هذا المعنى. 3- جاء بالفاء في قوله: {فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ}، وهذه الفاء هي الرابطة لجواب الشرط، وقد جاء فيها تنصيصًا على أن (من) في قوله: (من كفر) اسم شرط، ولو لم يأت بالفاء لاحتمل أن تكون (من) اسمًا موصولًا. فأفاد مجيء الفاء العموم، أي كل من كفر؛ لأن أسماء الشرط تفيد العموم. أما الاسم الموصول فهو من المعارف، وقد يراد به شخص معين أو أشخاص بأعيانهم فلا يشمل العموم، تقول: (من زارني أكرمته)، و(زارني من أحبه)، وقد يراد به الجنس أحيانًا. أما اسم الشرط فيراد به العموم، فجاء بالفاء للدلالة على ذلك. 4- قال: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} بضمير الجمع الذي يفيد التعظيم في (إلينا)، وقد قال في آية سابقة من السورة: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُم} بضمير الإفراد، ذلك أن الآية السابقة في موطن النهي عن الشرك: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ..... وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ....} فأفرد للدلالة على الوحدانية، في حين لم يكن المقام ههنا كذلك فجاء بضمير التعظيم. وقد قدم الجار والمجرور (إلينا) الذي هو الخبر على المبتدأ لإفادة الحصر، أي إلينا مرجعهم لا إلى غيرنا. 5- قال: {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} ولم يقل: (ثم إلينا مرجعهم) كما قال في آية سابقة من السورة وهو قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }وذلك لإرادة تقريب المرجع إليه سبحانه، وذلك أن (ثم) تفيد المهلة والتراخي فلم يذكرها هنا. وقد قال في الآية السابقة: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} فجاء بـ (ثم) لأكثر من سبب: من ذلك أنه قال: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا} والمجاهدة قد تستغرق وقتًا طويلًا. وقال: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} فأمر بمصاحبتهما بالمعروف وإن امتدت الحياة بهما. وقال: {وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ} فأمر بذلك مهما امتدت الحياة وطالت. فناسب ذلك ذكر (ثم). وليس السياق في مثل ذلك ههنا. 6- قال: (فننبئهم) بضمير الجمع للتعظيم، وقال في آية سابقة: (فأنبئكم) بضمير الإفراد لما ذكرناه من أن الموطن السابق موطن النهي عن الشرك. وقال: (فننبئهم) بالفاء، ولم يقل: (ثم ننبئهم) لإرادة التعقيب بالتنبئ من دون مهلة وأنه يكون بعد الرجوع إلى الله، ولعله إشارة إلى حساب القبر. وقد تقول: ولكنه قال في مواطن أخرى: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {الأنعام: 60}. وقال: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون} {الأنعام: 159}. وقال: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} {المائدة: 14}. وغيره. فلم ذاك ؟ والجواب: أن ذلك بحسب السياق، فقد يقتضي المقام ذكر (ثم) وقد يقتضي ذكر الفاء. أما قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُون} فذلك أن سياق الكلام في الدنيا، ولم يذكر رجوعهم إلى الله، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ} {الأنعام: 159}، فأمهل التنبئ. وأما قوله: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} {المائدة: 14}، فالكلام أيضًا على من هو في الدنيا ولا تزال مدة طويلة بينهم وبين التنبئ. قال تعالى: {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} {المائدة: 14}. فقد قال: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} وهذه مدة طويلة تستغرق عمر الدنيا كلها فجاء بـ (سوف). وأما قوله: {ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {الأنعام: 60} فالسياق مبني على الإسهال والتأخير وعدم الاستعجال، قال تعالى: {قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ} {الأنعام: 57}. وقال: {قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} {الأنعام: 58}. وقال: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ} {الأنعام: 61 – 62}. فإنه ذكر مدة وإمها بين مجيء الموت وردهم إلى الله. فبعد أن قال: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} قال: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ} ولم يقل: (فردوا إلى الله). فالسياق مبني على الإمهال، فناسب ذكر (ثم) دون الفاء. 7- قال: {بِمَا عَمِلُوا} بالماضي المنقطع، وقال في آية سابقة من السورة: {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} بالماضي المستمر؛ وذلك لأن السياق في الآية السابقة في الاستمرار: استمرار المجاهدة وتطاولها، واستمرار المصاحبة بالمعروف، واستمرار الاتباع لسبيل المنيبين إلى الله. هذا علاوة على أنه قال في الآية السابقة: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ}. و(ثم) تفيد المهلة والتراخي، وفي ذلك استمرار العمل. فناسب كل ذلك استمرار العمل في الماضي. في حين قال في هذه الآية: {وَمَنْ كَفَرَ} ... {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ}، فليس فيها استمرار، فناسب الماضي المنقطع. 8- قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ ....} ولم يقل: (إننا نعلم) ونحوه كما قال في (إلينا) و(فننبئهم) فرجع إلى المفرد بعد الجمع. وهذا شأن التعبير في القرآن، فإنه حيث ذكر ضميره تعالى بلفظ الجمع للتعظيم لابد أن يذكر قبل ذلك أو بعده ما يدل على الإفراد حتى يعلم أنه واحد. 9- قال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ولم يقل: (ومن كفر فإن الله عليم به) وذلك لإفادة الشمول. ولو قال: (فإن الله عليم به) لقصر علمه على من كفر، فلما قال: (عليم بذات الصدور) أطلق شمول علمه بالنفوس عامة، فدخل في علمه هؤلاء وغيرهم. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أن (ذات الصدور) تعني خفايا النفوس فقال: {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} ليشمل الخفايا. ولو قال: (عليم به) لم يدل على أنه يعلم الخفايا. وقال: (بذات الصدور) ولم يقل: (بذات صدورهم) ليشمل علمه ما في النفوس عمومًا وليس ما في نفوسهم خاصة. 10- إن قوله: {فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} يشمل العلم بالأعمال الظاهرة، وقوله: {عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} يشمل خفايا النفوس. فشمل علمه ما ظهر وما خفي. 11- قال: (عليم) ولم يقل: (عالم) للدلالة على المبالغة في علمه بما في النفوس. 12- وأكد ذلك بـ (إن) للدلالة على تأكيد هذا العلم الواسع، والله أعلم. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 467 إلى ص 472.