عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴿٢٢﴾    [لقمان   آية:٢٢]
{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)} أكثر ما وردت متصرفات الفعل (أسلم) في القرآن الكريم متعدية باللام نحو قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {البقرة: 131}، وقوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {غافر: 66}، وقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} {الزمر: 54}، ولم يرد متعديا بإلى إلا في آية لقمان هذه. وقيل في الفرق بين قولنا: (أسلمت إليه) و(أسملت له)، أن (أسلم إليه) يأتي بمعنى الإعطاء وبمعنى التفويض، تقول: (أسلمت إليه الشيء) أي دفعته إليه، وتقول: (أسلمت وجهي إليه) أي فوضت أمري إليه. وأما: (أسلم له) فمعناه انقاد له واستسلم له، ومعناه أيضًا جعل نفسه سالمًا له، أي خالصًا له. جاء في (لسان العرب): "أسلم إليه الشيء: دفعه... الإسلام والاستسلام: الانقياد... يقال: فلان مسلم، وفيه قولان: أحدهما: هو المستسلم لأمر الله، والثاني: هو المخلص لله العبادة" (1). وجاء في (الكشاف): "فإن قلت: ما له عدي بإلي، وقد عدى باللام في قوله: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ}؟. قلت: معناه مع اللام أنه جعل وجهه وهو ذاته ونفسه سالمًا الله، أي خالصًا له. ومعناه مع (إلى) أنه سلم إليه نفسه كما يسلم المتاع إلى الرجل إذا دفع إليه. والمراد التوكل عليه والتفويض إليه" (2). وجاء في (روح المعاني): "{وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} بأن فوض إليه تعالى جميع أموره، وأقبل عليه سبحانه بقلبه وقالبه. فالإسلام كالتسليم التفويض. و(الوجه) الذات. والكلام كناية عما أشرنا إليه من تسليم الأمور جميعها إليه تعالى والإقبال التام عليه عز وجل، وقد يعدى الإسلام باللام قصدًا لمعنى الإخلاص" (3). وعلى هذا يكون معنى: أسلم إليه الشيء: دفعه إليه. وأسلم إليه الأمر، أي فوضه إليه. ومعنى (أسلم له) انقاد له واستسلم له وأخلص له. وورد الفعل (أسلم) مع (إلى) متعديًا إلى مفعول به. قال تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} والظاهر أن الأصل في نحو هذا الاستعمال أن يتعدى إلى مفعول به. وأما مع اللام فقد جاء متعديًا إلى مفعول به وغير متعد إلى مفعول به كقوله تعالى في المتعدي: {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ} {آل عمران: 20}. وقوله في غير المتعدي: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {غافر: 66}، وقوله: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} {الزمر: 54}. وقد يرد الفعل وحده من دون حرف جر ولا مفعول به كقوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} {الحجرات: 14}، وقوله: {فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا} {الجن: 14}. وقد ورد الفعل (يسلم) في آية لقمان عدي بإلى دون اللام لأكثر من سبب: من ذلك أن هذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} والاتباع معناه في الأصل السير خلف المتبع. فقولك: (اتبعت فلانًا) أي سرت خلفه مقتديًا به. فمن اتبع شخصًا فكأنه يسلم إليه قياده ويدفعه إليه. فالكفرة أسلموا إلى الشيطان قيادهم واتبعوا آباءهم. والمؤمنون أسلموا إلى الله وجوههم، أي أنفسهم كما يدفع القياد إلى من يقود. والوجه معناه الذات والنفس. وذكر الوجه لأن الوجه أكرم شيء ظاهر في الجسم. هذا وجه. والوجه الآخر أن (أسلم إليه) بمعنى فوض الأمر إليه وتوكل عليه، ذلك أن الإنسان أكثر ما يشعر بالحاجة إلى تفويض أمره إلى الله عند الشدائد والنوازل، فإنه يخشى أن تعصف به العواصف وتغرقه سيول النوازل فيشعر بالحاجة الملحة إلى عاصم يحفظه وإلى الاستمساك بما يثبته فقال: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}. وأما مآل هذه الأمور التي يخشاها وما تنكشف عنه فإلى الله أمرها وحسبه أن يستمسك بالعروة الوثقى إلى أن يستبين قضاء الله فيها {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}. فقوله تعالى في الآية السابقة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا} اقتضى أن يقول: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} بمعنى تسليم النفس إليه. وقوله: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} اقتضى أن يقول: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ} بمعنى تفويض الأمر إليه. فقد اقتضى هذا الفعل من وجهين والله أعلم. وقد تقول: لقد قال في سورة البقرة: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {البقرة: 112}، فعدى الفعل (أسلم) باللام، وعاه في لقمان بإلى كما علمنا فما الفرق؟ فنقول: هناك أكثر من سؤال في هاتين الآيتين وليس هذا السؤال وحده، من ذلك: 1- أنه قال في لقمان: {وَمَنْ يُسْلِمْ} بالمضارع. وقال في البقرة: {مَنْ أَسْلَمَ}. 2- وقال في لقمان: {إِلَى اللَّهِ} بالتعدية بإلى. وقال في البقرة: {لِلَّهِ} بالتعدية باللام. 3- وقال في لقمان: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}. ولم يقل مثل ذلك في آية البقرة. 4- وقال في لقمان: {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}. وقال في البقرة: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}. فلم ذلك؟ فنقول إن كلا من هذه السؤلات يحتاج إلى جواب: أما ذكر الفعل مضارعًا في لقمان وماضيًا في البقرة فذلك أن معنى الفعل في لقمان - كما ذكرنا - تسليم الوجه إلى الله وتسليم القياد إلى من أمر الله باتباعه ودفعه إليه. ومعناه أيضًا تفويض أموره إليه. والأمور التي تحتاج إلى الاتباع متعددة متجددة، والأمور التي تشعر بالحاجة إلى تفويضها إلى الله متعددة متجددة، فجاء بالفعل مضارعًا كما ذكرنا في قوله تعالى: {وَمَنْ يَشْكُرْ} وذلك أن فعل الشرط يأتي غالبًا في القرآن ماضيًا فيما يقل تكراره أو مظنة أنه مرة واحدة، ويؤتى به مضارعًا فيما يتكرر وقوعه. أما في البقرة فقد جاءت الآية ردًا على قول اليهود والنصارى: {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} {البقرة: 111}، فقال تعالى ردًا عليهم: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {البقرة: 111 - 112}، أي بلى يدخلها المسلم، فالدخول في الإسلام يحصل مرة ولا يتكرر كل يوم، وإنما تتكرر الأعمال التي يقوم بها المسلم، فإذا شهد المرء بالشهادتين دخل الإسلام وقد أسلم. أما الأحداث التي يفرضها المرء إلى الله فهي متكررة متجددة مستمرة، فجاء بالفعل مضارعًا في لقمان وماضيًا في البقرة. وأما التعدية بإلى واللام فقد ذكرنا معناهما وذكرنا الفرق بينهما، فمعنى {يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ}: يفوض أمره إلى الله ويتوكل عليه، ولذا كان جواب الشرط {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} ومعنى (أسلم وجهه لله): دخل في الإسلام، ومعناه أيضًا: استسلم لأمر الله وانقاد له وجعل نفسه سالمًا لله، أي خالصًا له، ولذا كان جواب الشرط: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} فـ (أسلمت لله ) أعلى من (أسلمت إلى الله) لأنه جعل نفسه سالمًا، أي خالصًا له لم يترك من نفسه شيئًا لغير الله، كما قال تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا} {الزمر: 29}، أي خالصًا له من الشراكة. ولذا - والله أعلم - أخبر الله عن نبيه وخليله إبراهيم حين قال له ربه أسلم أنه قال: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {البقرة: 131} باللام. وقال الله لخاتم الرسل والنبيين: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {غافر: 66}، وأمره أيضًا أن يقول: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {الأنعام: 71}، وأمره مرة أخرى أن يقول: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} {آل عمران: 20}. وقالت ملكة سبأ: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} {النمل: 44}، كل ذلك باللام. فما كان الفعل (أسلم له) أتم وأكمل كان الجواب أعلى وأتم، فقال: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} جاء في التفسير الكبير) أن "(من أسلم لله) أعلى درجة ممن يسلم إلى الله. لأن (إلى) للغاية واللام للاختصاص، يقول القائل: أسلمت وجهي إليك، أي توجهت نحوك، وينبئ هذا عن عدم الوصول؛ لأن التوجه إلى الشيء قبل الوصول. وقوله: (أسلمت وجهي لك) يفيد الاختصاص ولا ينبئ عن الغاية التي تدل على المسافة وقطعها للوصول. إذا علم هذا فنقول: في البقرة قالت اليهود والنصارى: {لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى} فقال الله ردا عليهم: {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}، ثم بين فساد قولهم بقوله تعالى: {بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ} {البقرة: 112}" (4). وقد تقول: لقد أر الجار والمجرور عن الفعل (أسلم) في مواطن وقدمهما على الفعل في بعض المواطن، فقد قال تعالى في سورة الزمر مثلًا: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} {الزمر: 54}، فأخر الجار والمجرور عن الفعل (أسلموا). في حين قال في سورة الحج: {} {الحج: 34}، بتقديم الجار والمجرور على الفعل، فما السبب؟ والجواب: أن للتقديم والتأخير ولا شك سببًا يدعو إليه. ونحن هنا لا نريد أن نستقصي كل الآيات التي ورد فيها الفعل (أسلم) لبيان ذلك، ولكن أقول بإيجاز: إن قسمًا من الآيات لا يصح فيها التقديم وذلك كما في قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}، وقوله: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} {الأنعام: 71}، لما فيه من تقديم الصلة على الموصول، فلا يصح أن نقول: (وأمرت لرب العالمين أن أسلم) لما فيه من تقديم الجار والمجرور على (أن)، وما تعلق به متأخر عنها، فلا يصح أن يعمل ما بعد (أن) فيما قبلها. وكذلك القول في {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} فإنه على تقدير (أن). وأما فيما يجوز فيه التقديم والتأخير فنقول: إنه في مقام التوحيد يقدم الجار والمجرور على الفعل لقصد الحصر، أما في غير مقام التوحيد فيؤخره إلا إذا اقتضى غير ذلك سبب آخر. وأضرب لك مثلًا يوضح ذلك في آيتي الحج والزمر اللتين ذكرناهما: قال تعالى في سورة الحج: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} {الحج: 34}. وقال في الزمر: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ} {الزمر: 53 - 54}. فقدم الجار والمجرور (فله) على الفعل (أسلموا) في آية الحج لأنه في مقام التوحيد، فقد قال: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} فقدم الجار والمجرور الحصر الإسلام له. وليس كذلك الأمر في الزمر، فإنه ليس في مقام ذكر التوحيد، ولكن السياق في ذكر المسرفين في الذنوب ومغفرة الله لها، فلم يقدم الجار والمجرور لأن المقام لا يقتضي ذاك، والله أعلم. {وَهُوَ مُحْسِنٌ} أي من يسلم وجهه إلى الله في حالة اتصافه بالإحسان فقد استمسك بالعروة الوثقى. فهذا الأمر ينطبق على من هو متصف بالإحسان دون من لم يتصف به كما قال رسول الله : (تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة). قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} {الأعراف: 56}، وقال: {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} {العنكبوت: 69}. وقد تقول: لقد قال الله في آية لقمان: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى}، وقال في البقرة: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا} {البقرة: 256}، فزاد في البقرة {لَا انْفِصَامَ لَهَا} على ما في لقمان فما السبب؟ والجواب: أن سياق كل آية من الآيتين يوضح السبب، فقد قال تعالى في سورة البقرة: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} {البقرة: 256}. فذكر في آية البقرة الكفر بالطاغوت. والكفر بالطاغوت قد يلحق صاحبه الأذى والعنت، فإن (الطاغوت) هو المبالغ في الطغيان والتعدي، والطاغوت كل رأس في الضلال والإضلال من الشياطين والإنس والأصنام فقال: {لَا انْفِصَامَ لَهَا} مبالغة في حفظ من يستمسك بها، وليس السياق في مثل ذلك في لقمان، فلم يحتج إلى مثل ما ذكر في آية البقرة. فكل تعبير مناسب لما ورد فيه. وقال: {فَقَدِ اسْتَمْسَكَ} ولم يقل: (استمسك) من دون (فقد)، أي لم يقل: (ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن استمسك) ذلك أن (قد) للتحقيق، والمعنى أنه تحقق استمساكه بالعروة الوثقى وحصل. ولو لم يأت بـ (قد) لاحتمل أن يكون ذلك في المستقبل، ذلك أن الفعل الماضي إذا وقع فعلًا للشرط أو جوابًا له فالغالب أن يكون للاستقبال وذلك نحو قولك: (إن درست نجحت) فإن ذلك للاستقبال، وكقولك: (من يكفر بالله أدخله النار) فالفعل (أدخله النار) يفيد الاستقبال مع أنه ماض، فجاء بـ (قد) للدلالة على أن الاستمساك بالعروة الوثقى قد حصل لمن يسلم وجهه إلى الله. وقال: (استمسك) ولم يقل: (أمسك) للدلالة على المبالغة في الإمساك. ووصف العروة بأنها (الوثقى) ولم يقل: (الوثيقة) للدلالة على أنها أوثق العرى وليس ثمة عروة أوثق منها. {وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} قدم الجار والمجرور للحصر لأن عاقبة الأمور إليه وحده. جاء في (روح المعاني): "وتقديم (إلى الله) للحصر ردًا على الكفرة في زعمهم مرجعية آلهتهم لبعض الأمور" (5). (1) لسان العرب (سلم). (2) الكشاف 2/519. (3) روح المعاني 21/95. (4) التفسير الكبير 9/125. (5) روح المعاني 21/95. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 458 إلى ص 466.