عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ ﴿٢٠﴾    [لقمان   آية:٢٠]
{أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20)} انتهت وصية لقمان لابنه وبدأ الآن كلام آخر وهو كلام الله يخاطب عباده قائلًا: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ....} وهذا الكلام متصل بكلامه سبحانه قبل الوصية وهو قوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ ... هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي} فذكر هناك خلق السماوات وإلقاء الرواسي في الأرض وبث الدواب وغير ذلك، وذكر هنا النعم التي أنعمها الله علينا في السماوات والأرض بتسخير ما فيها لنا وإسباغ النعم علينا فهو الخالق وهو المسخر وهو المفيض بالنعم. وكان المظنون والمتوقع أن معرفة هذا الأمر تدعو الناس إلى عبادته وطاعته سبحانه، لكن قسمًا من الناس مع ذلك كله يجادلون في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. إن هذه الآية مرتبطة بأول السورة، ذلك أنه قال في أول السورة: {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} فوصف الكتاب بأنه حكيم، وذكر أنه هدى ورحمة للمحسنين، وذكر أن هؤلاء يجادلون بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. فقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} يقابل وصف الكتاب بأنه حكيم. وقوله: {وَلَا هُدًى} يقابل وصف الكتاب بأنه هدى. وقوله: {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} نفى وجود الكتاب المنير عندهم، وقد أثبته في الابتداء وأشار إلى آياته فقال: {تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ}. وقال: {هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ} وهؤلاء لم يحسنوا في الجدال لأنهم جادلوا بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير. وأما الرحمة المذكورة في أول السورة فتقابلها رحمته سبحانه بخلقه في تسخيره لهم ما في السماوات وما في الأرض وإسباغ النعم الظاهرة والباطنة عليهم. ثم لنلاحظ التعبير في هذه الآية فإنه جاء بأحسن ترتيب. فقد قال: {أَلَمْ تَرَوْا} والخطاب لعموم العقلاء من الخلق، ولم يقل (ألم تر) بخطاب المفرد. وقال: {سَخَّرَ لَكُمْ} فذكر نعمته بالتسخير لعموم الخلق. وقال: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} فشمل عموم ما فيهما، وهذا أعم تسخير وأشمله، فلم يقل كما قال في مواطن: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ}، {وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ}، {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ}. وقال: (أسبغ) والإسباغ هو الإفاضة في العطاء وغيره، والزيادة في ذلك، وليس مجرد العطاء. وقال: (نعمه) فجاء بجمع الكثرة، ولم يقل: (أنعمه) وذلك للدلالة على كثرة النعم. وقال: (ظاهرة وباطنة) للدلالة على شمول النعم بكافة أنواعها. وهو أوسع شمول وأعمه. وقال: {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} فأفاض في ذكر مركب الجهل وعناصره. فأوسع وأفاض في المسخر لهم وهم عموم الخلق بقوله: (لكم). وأوسع وأفاض فيما سخره لهم وهو ما في السماوات وما في الأرض. وأوسع وأفاض في الفعل بقوله: (أسبغ). وأوسع وأفاض في النعم بقوله: (نعمه). وأوسع في الشمول والعموم وهو قوله: (ظاهرة وباطنة). وأوسع وأفاض في ذكر عناصر الجهل وهو قوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ}. ثم إن عناصر الجهل هذه تشمل عناصر الجهل الباطن والظاهر. فقوله: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} نفى عنهم العلم، والعلم إنما هو في النفوس، وهو لا يظهر للرائي وإنما تظهر آثاره أو بعض آثاره، فأنت لا تعلم ماذا يحمله الشخص من علم ولا مقداره من مجرد رؤيته، فهو من الأمور الباطنة. وقوله: (ولا هدى) نفى عنهم الهدى، والهدى يكون ظاهرًا وباطنًا. فمن الهدى الظاهر الكتب، ولذلك سمى القرآن كتاب الله هدى، فقد قال: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} {البقرة: 2}، وقال: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ }{النحل: 89}. ومن الهدى الظاهر أدلاء الطريق وعلاماته، ومنه قوله تعالى على السان موسى عليه السلام: {لَعَلِّي آَتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} {طه: 10}. وذكر القرآن النجوم والجبال والسبل للهداية فقال: {وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} {النحل: 16}، وقال: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} {النحل: 15}. ومن الهدى الباطن توفيق الله للإنسان لاتباع الحق بما يقذفه في قلبه من نور وذلك نحو قوله تعالى: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} {الكهف: 13}، وقوله: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} {مريم: 76}، وقوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَآَتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} {السجدة: 13}، وقوله: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} {القصص: 56}، فهذا توفيق من الله ونور يقذفه في قلب من يشاء من عباده فيهتدي أو يزداد هدى. وقوله: {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} نفى وجود الكتاب المنير عندهم والكتاب ظاهر مقروء. فنفى عنهم كل عناصر العلم والهداية ما ظهر منها وما بطن. وقد تدرج في ذكر العناصر من الباطن إلى المشترك إلى الظاهر. ثم وصف الكتاب بأنه منير؛ لأن هؤلاء قد يرجعون إلى كتب غير منيرة مثل ذلك الذي يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، أو يرجعون إلى الكتب المحرفة، فهذه الكتب لا تهدي الضال. جاء في (التفسير الكبير ): "قال في الكتاب: {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} لأن المجادل منه من كان يجادل من كتاب ولكنه محرف مثل التوراة بعد التحريف، فلو قال: (ولا كتاب) لكان القائل أن يقول: لا يجادل من غير كتاب، فإن بعض ما يقولون فهو في كتابهم ولأن المجوس والنصارى يقولون بالتثنية والتثليث من كتابهم، فقال: {وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} فإن ذلك الكتاب مظلم" (1). إن المجادلة في الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير أنكر المجادلات، وهي منكرة في العقول كإنكار صوت الحمير في الأذان أو أشد نكرًا. ومن لطيف الموافقات أن تكون هذه الآية بعد قوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} (1) التفسير الكبير 9/124. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 452 إلى ص 456.