عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴿١٨﴾ ﴾ [لقمان آية:١٨]
{وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18)}
"انتقل لقمان بابنه إلى الآداب في معاملة الناس فنهاه عن احتقار الناس وعن التفاخر عليهم، وهذا يقتضي أمره بإظهار مساواته مع الناس وعد نفسه كواحد منهم" (1).
فنهاه عن التكبر عليهم والإعراض عنهم.
ومعنى تصعير الخد إمالته عنهم تكبرًا وإعراضًا.
والمرح هو النشاط مع الزهو والخيلاء "فالمرح مختال في مشيته" (2).
والاختبال: "من الخيلاء، وهو التبختر في المشي كبرًا" (3).
و(مختال) مفتعل من (خال) يقال: خال الرجل واختال إذا تكبر.
والمختال: الصلف المتباهي الجهول المعجب بنفسه (4).
و(اختال) أبلغ من (خال) في التكبر والإعجاب بالنفس؛ لأنه على وزن (افتعل).
وإن من معاني (افتعل) المبالغة في معنى الفعل. فالمختال هو المبالغ في التكبر والتباهي والإعجاب بالنفس وفي سائر معاني الوصف. و(الفخور) من الفخر، وهو تعداد ما أعطي من مال أو نسب أو غير ذلك والمباهاة في ذلك.
جاء في (روح المعاني): "الفخور من الفخر، وهو المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال والجاه، ويدخل في ذلك تعداد الشخص ما أعطاه لظهور أنه مباهاة بالمال" (5).
وجاء في (المحرر الوجيز): "قال مجاهد: الفخور هو الذي يعدد ما أعطى ولا يشكر الله تبارك وتعالى، قال: وفي اللفظ الفخر بالنسب وغير ذلك" (6).
والفخور على زنة فعول، وهو من صيغ المبالغة للدلالة على الإكثار من إظهار ذلك والمبالغة فيه.
وقال: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ}، ولم يقل: (على الأرض) كما قال في وصف عباد الرحمن: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} {الفرقان: 63}، ذلك أن (في) تفيد الظرفية، أي كأنه يريد أن يخرق الأرض برجليه من شدة مرحه، كما قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} {الإسراء: 37}
وأما (على) فتفيد الاستعلاء فقال: {يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ}، وذلك لأنه قال: (هونًا) أي على مهل بسكينة ووقار، فناسب كل حرف موضعه.
إن الأبنية التي وردت في الآية كلها تفيد المبالغة:
فقوله: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} ما يدل على المبالغة في المرح، ذلك أنه جاء بالحال مصدرًا وهو يدل على المبالغة.
وقوله: (مختال) يدل على المبالغة في الوصف، لأن صيغة مفتعل تفيد المبالغة.
وقوله: (فخور) يدل على المبالغة في الفخر.
وقد تقول: ولم جاء بالوصفين على المبالغة، أفترى أن الذي لا يبالغ في الوصف لا يشمله انتفاء الحب؟
والجواب: أنه ليس الأمر على ما توهمت، فإخباره أن الله لا يحب المبالغة في الوصف السيئ لا يعني أنه يحب غير المبالغ، وإنما هو إخبار عن الوصف في المقام الذي ورد فيه.
فقولك: (أنا لا أحب الكذوب) لا يعني أنك تحب الكاذب. وقولك: (إني أحب الصدوق) لا يعني أنك لا تحب الصادق.
فقد تقول في مقام: (أنا لا أحب الكذوب)، وقد تقول في مقام آخر: (أنا لا أحب الكاذب). وقد تقول في مقام: (أنا أحب الصدوق)، وقد تقول في مقام آخر: (أنا أحب الصادق) بحسب ما يقتضيه المقام.
والبلاغة - كما هو معلوم - إنما هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال. ولذا قال الله مرة: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} {النساء: 107}، بصيغة المبالغة {خَوَّانًا}، وقال مرة أخرى: { إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} {الأنفال: 58}، بصيغة اسم الفاعل لا بصيغة المبالغة.
وأخبر الله عن نفسه مرة فقال: {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} {الشورى: 23}. فقال: (شكور) بصيغة المبالغة، وقال مرة أخرى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} {البقرة: 158}، بصيغة اسم الفاعل بحسب المقام الذي اقتضى كلا منهما.
فإنه قال في سورة النساء: {وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} {النساء: 107} فقال: (يختانون) بوزن (يفتعلون) الذي يفيد المبالغة في الخيانة فقال: (خوانًا) بصيغة المبالغة.
ثم ذكر صفات هؤلاء الخوانين بقوله: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} {النساء: 108 – 112}.
فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا} ولم يقل: (خائنًا) لأن هؤلاء خوانون، أي مبالغون في الخيانة.
في حين قال تعالى في الأنفال: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} {الأنفال: 58}، فلم يذكر أنهم خانوا وإنما خيفت منهم الخيانة فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} ولم يقل: (إنه لا يحب الخوانين) فإنهم لم يخونوا أصلاً، فإذا خان هؤلاء فسيكونون خائنين، والله لا يحب الخائنين.
فصفات السوء بعضها أشد من بعض والله يبغضها جميعًا، ولكن يبغض المبالغ فيها أشد.
وصفات الخير بعضها أشد من بعض والله يحبها جميعًا، ولكنه يحب المكثر منها أشد.
فالذي يصعر خده للناس ويمشي في الأرض مرحًا هو مبالغ في الصفات المذمومة، فأخبر أن الله لا يحب المبالغين في الصفات المذمومة، ولو قال: (إن الله لا يحب كل خائن فاخر) لم يفهم أن من تقدم مبالغ في الصفات المذمومة. ونحو ذلك أنه قد يبالغ إنسان في الكذب، ويكذب مرة بعد مرة فنقول له: (أنا لا أحب الكذاب) إشارة إلى أنه كثير الكذب.
وتقول: (أنا لا أحب الكاذب) لمن كذب مرة ولم يعتد الكذب.
لقد جمع الله في قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} بين وصفين أحدهما في السلوك وهو المختال، والآخر في القول وهو الفخور.
فأخبر بذلك أنه يبغض الذميم من الفعل والقول.
وهذا جاء بعد قوله: {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ}، ذلك لأن الذي يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر عليه قبل غيره أن يكون متواضعًا حسن القول والفعل لا يختال ولا يفخر، وهذا من ألزم الأشياء للدعاة والمرشدين.
إن هذا لازم على كل فرد، وهو على الدعاة ألزم وأوجب.
قد تقول لقد قال هنا: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}، فأكد الجملة بإن، وقال في سورة الحديد: {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {الحديد: 23} من دون توكيد، فما الفرق؟
والجواب: أن المقام مختلف، فإن المقام في لقمان في بيان آداب المعاملات وحسن التصرف مع الناس فقال: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} {لقمان: 18 – 19}.
فنهاه عن الكبر وعن المشي في الأرض مرحًا وطلب منه القصد في المشي وعدم رفع الصوت فناسب ذلك قوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} بالتوكيد.
وأما في سورة الحديد فليس الكلام على ذلك، فهو ليس في بيان آداب المعاملة ولا في العلاقات بين الناس فلم يؤكد ذلك، قال تعالى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آَتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} {الحديد: 23}.
ألا ترى أنه لما كان الكلام في سورة النساء على العلاقات بين الناس وإحسان المعاملة لهم أكد التعبير بان كما أكده في لقمان فقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} {النساء: 36}.
فأمرنا بإحسان المعاملة مع من ذكر من الوالدين وذي القربى واليتامى والمساكين وإحسان المعاملة إلى الجار حتى انتهى إلى ملك اليمين
فناسب أن يقول: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} بالتوكيد.
فناسب كل تعبير مكانه. والله أعلم.
(1) التحرير والتنوير 21/166.
(2) المحرر الوجيز 11/503.
(3) روح المعاني 21/90.
(4) ينظر لسان العرب (خول) 11/226 – 228.
(5) روح المعاني 21/90.
(6) المحرر الوجيز 11/503.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 445 إلى ص 451.