عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ﴿١٧﴾    [لقمان   آية:١٧]
{يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17)} بعد أن نهى لقمان ابنه عن الشرك وبين له أسس العقيدة السليمة، أمره بالعبادات، وبدأ بأهم العبادات وأوجبها وهي الصلاة، وهي العبادة التي لا تسقط عن المكلف بحال من الأحوال، وهي أول ما يسأل عنه المرء يوم القيامة، وكرر نداءه المحبب (يا بني) لأن ذلك مظنة الاستجابة. وقال له: {أَقِمِ الصَّلَاةَ} ولم يقل له: (صل) ذلك لأن إقامة الصلاة تعني الإتيان بها على أتم حال وأكمله من قيام وركوع وسجود وخشوع وقراءة قرآن وذكر. ثم أمره بعد إقامة الصلاة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فأمره بنوعين من العبادات: ما يتعلق بالنفس وما يتعلق بالمجتمع. فالصلاة تكميل للنفس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تكميل للمجتمع. ذلك أن من حق المجتمع على الفرد أن يحفظه ويرسى فيه قواعد الخير والقوة، ويجتث منه عناصر الهدم والفساد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أبرز ما يؤدي إلى ذلك. ثم قال له: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ} لأنه يعلم أن من أمر بالمعروف ونهي عن المنكر تعرض للأذى والمكاره، فأمره بالصبر على ما يلقى. ومن حكمة لقمان أن أمر ابنه بذلك مع علمه أنه قد يصيبه من جراء ذلك أذى ليس بالقليل، وهذا خلاف المعهود من عموم الآباء، فإن الآباء عادة يخشون على أبنائهم ويطلبون منهم عدم التعرض للناس من أمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر، لأنه قد يلحقهم من جراء ذلك أذى يرهقهم. أما لقمان فأدرك بثاقب حكمته أن بقاء المجتمع وحفظه وصيانته من عوامل التخريب أولى من راحة ابنه وسلامته، فحث ابنه ليقوم بهذه المهمة على حبه له، وأوصاه بالصبر على ما يصيبه من المكاره. وفي هذا توجيه للآباء عظيم أن يوجهوا أبناءهم للقيام بهذه المهمة الشاقة ويحثوهم عليها مهما لقوا في سبيل ذلك من عنت وأذى، فإن الخير الذي يعود عليهم وعلى المجتمع من القيام بذلك أعظم بكثير من الأذى الذي قد يلحقهم منه. {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، أي من الأمور الواجبة المقطوعة التي لا ينبغي أن يتراخى المرء فيها أو يتهاون. جاء في (التفسير الكبير): "يعني أن من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر يؤذي فأمره بالصبر عليه. وقوله: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، أي من الأمور الواجبة المعزومة، أي المقطوعة" (1). وقد تقول: لقد قال هنا: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فأكده بإن، وقال في موطن آخر: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} {الشورى: 43} فأكده بإن واللام فما الفرق؟ والجواب: أن المقامين مختلفان، ذلك أنه قال في لقمان: {وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}، فأمره بالصبر. وقال في الشورى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} فأضاف المغفرة إلى الصبر، أي أن تصبر على ما أصابك وتغفر لمن أساء إليك. وهذا أشق على النفس من مجرد الصبر، فاحتاج إلى زيادة التوكيد فقال: {إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} (2). (1) التفسير الكبير 9/121 – 122. (2) انظر التعبير القرآني 201. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 443 إلى ص 445.