عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴿١٦﴾ ﴾ [لقمان آية:١٦]
{يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16)}
عاد الآن إلى وصية لقمان لابنه بعد أن اعترض كلامه بوصيته سبحانه بالوالدين فقال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ ...} فكرر نداءه بقوله: (يا بني) ليعطف قلبه ويصغي إلى ما يقول. ثم ضرب له مثلًا يبين فيه قدرة الله وإحاطته بالأشياء فلا يند شيء عنه وعن قدرته بمثقال حبة من خردل يأتي بها الله أينما كانت، في السماوات أو في الأرض. والخردل نبات معروف حبه أصغر من السمسم يضرب مثلًا في الصغر.
لقد قال: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} بحذف النون من (تكن)، ثم قال بعد ذلك (فتكن) بإثبات النون، ولعل من أسباب ذلك أنه قال: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} فلم يعين مكانها ثم عين مكانها فيما بعد فقال: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ}، فإن الأولى أبعد في الوجود، أي هباءة تائهة لا مكان لها فحذف النون، بخلاف الثانية فإنه عين مكانها فأثبت النون، والله أعلم (1).
جاء في (البرهان) للزركشي أن قوله: {وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا} {النساء: 40}، حذفت النون من (تكن): "تنبيهًا على أنها وإن كانت صغيرة المقدار حقيرة في الاعتبار فإن إليه ترتيبها وتضاعيفها، ومثلها: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ}" (2).
ثم إن ثمة قراءة هي (فتكن) بكسر الكاف وشدة النون وفتحها، وثمة قراءة أخرى وهي (فتبين) بفتح التاء وكسر الكاف وسكون النون من (وكن يكن) (3) وكلتا القراءتين فيها معنى الاستتار، ذلك أن معنى (كن يكن) استتر. ومعنى (وكن الطائر) دخل عشه، والوكن: هو عش الطائر، فيكون المعنى: أنها إن تك مثقال حبة من خردل فتستتر في صخرة.
وهذا مما يفسر ثبوت النون في (تكن) وذلك لتعطي معنى الاستتار أيضا، والله أعلم.
وقال: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} مع أن الصخرة لا بد أن تكون في السماوات أو في الأرض، وذلك لأن استخلاص الشيء من باطن الصخرة عسير في العادة.
من المعلوم أنه إذا أراد شخص أن يحفظ شيئًا ويصونه من الضياع لا يكتفي أن يضعه في ساحة الدار، بل يضعه في غرفة من غرف الدار ويضعه في صندوق أو محفظة، وقد يضع المحفظة داخل صندوق أو خزانة، وقد يضع المحفظة داخل محفظة.
فالصخرة مثلها مثل المحفظة الصغيرة التي يحفظ بها الشيء.
وإذا أردت المبالغة في حفظ الشيء تعمل للمحفظة قف يصعب فتحه، وكلما كان الشيء ثمينًا أو مهما بالغت في حفظه وعدم الوصول إليه. والناس يتفننون في حفظ الأشياء وعدم الوصول إليها. وأمكن شيء في الحفظ أن يودع في مكان أمين ليس له مفتاح ولا يمكن الوصول إليه. وعند ذلك يكون استخراجه عسيرًا أو مستحيلًا إلا بإتلاف المحفظة.
وقد ضرب الله مثلًا لذلك بمثقال حبة من خردل في صخرة، والصخرة ليس لها مفتاح، وربنا يستخرج هذه الحبة من الصخرة مع أنها ليس لها مفتاح من دون أن يحطم الصخرة.
وقال: {فِي صَخْرَةٍ} ولم يقل: (على صخرة) للدلالة على خفائها وأنها في داخلها.
وقال: (في الأرض) ولم يقل: (على الأرض) ليدل على أنها في باطن الأرض.
ثم قال: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} ولم يقل: (يعلمها الله) لأن مجرد العلم لا يدل على القدرة، فقد تعلم أن شيئًا داخل صندوق أو خزانة ولكنك لا تقدر على فتحه، فقوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} يدل على العلم وبالغ القدرة.
وقال: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أي يتوصل إلى الأشياء الخفية بأمر خفي فلا يحتاج إلى تحطيم الصخرة أو تكسيرها، بل يخرجها من داخلها بلطفه وخبرته. والإتيان بالشيء من مثل هذا الحفظ يحتاج إلى خبرة وإلى لطف بحيث يستخرجها من داخلها والصخرة كما هي.
جاء في (التفسير الكبير): "لو قيل: إن الصخرة لا بد من أن تكون في السماوات أو في الأرض فما الفائدة من ذكرها؟...
خفاء الشيء يكون بطرق، منها أن يكون في غاية الصغر، ومنها أن يكون بعيدًا، ومنها أن يكون في ظلمة، ومنها أن يكون من وراء حجاب.
فإن انتفت الأمور بأسرها بأن يكون كبيرًا قريبًا في ضوء من غير حجاب فلا يخفي في العادة. فأثبت الله الرؤية والعلم مع انتفاء الشرائط.
فقوله: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ} إشارة إلى الصغر.
وقوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} إشارة إلى الحجاب.
وقوله: {أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ} إشارة إلى البعد، فإنها أبعد الأبعاد.
وقوله: {أَوْ فِي الْأَرْضِ} إشارة إلى الظلمات، فإن جوف الأرض أظلم الأماكن.
وقوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أبلغ من قول القائل: (يعلمها الله)، لأن من يظهر له الشيء ولا يقدر على إظهاره لغيره يكون حاله في العلم دون حال من يظهر له الشيء ويظهره لغيره، فقوله: {يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} أي يظهرها للإشهاد.
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ} أي نافذ القدرة.
{خَبِيرٌ}: أي عالم ببواطن الأمور" (4).
إن ضرب هذا المثل بعد قوله: {لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ} أنسب شيء؛ لأنه إذا كان الله يأتي بمثقال حبة الخردل من السماوات أو الأرض ومن كل مكان فماذا يفعل الشريك؟ وأين ملكه؟ وما قوته؟ وما قدرته إذا كان لا يستطيع أن يمنع استخلاص هذا الجزء الحقير اليسير؟ ولم الشرك؟!.
وهذا من أظهر الحجج على إبطال الشرك وانتفاء الشريك.
لقد جاء لقمان بهذا المثل لابنه ليبين له أنه لا يصح أن يكون الله شريك، ولم يكتف بمجرد النهي وذلك ليقتنع ابنه بما يقول، وفي هذا توجيه للآباء والمرشدين أن لا يوغلوا في الأوامر والنواهي من دون ذكر حجة أو دليل أو تعليل، والله أعلم.
قد تقول: لقد قال هنا: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
وقال في مكان آخر: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} {الأنبياء: 47}.
فكان بينهما بعض اختلاف في التعبير، من ذلك:
1- إن فعل الشرط وجوابه في لقمان مضارعان، وفي الأنبياء ماضيان.
2- وإن فعل الكينونة في لقمان مسند إلى مؤنث {إِنْ تَكُ}. وفي الأنبياء مسند إلى مذكر: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ}.
3- ذكر أماكن وجود مثقال الحبة في لقمان ولم يذكرها في الأنبياء.
4- كما اختلفت خاتمة كل من الآيتين.
فما السبب؟
والجواب: أن سياق كل من الآيتين يوضح ذلك.
أما سياقها في لقمان فهو واضح.
وأما في سورة الأنبياء فالآية في الكلام على اليوم الآخر، قال تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} {الأنبياء: 47}.
فاتضح بذلك سبب الاختلاف:
1- أما من حيث الاختلاف في فعل الشرط وجوابه فإن آية لقمان فيما يفعله الإنسان في الدنيا. والدنيا لا تزال باقية والأفعال فيها مستمرة، فكان فعل الشرط وجوابه مضارعين.
وأما آية الأنبياء فالكلام فيها على موقف من مواقف القيامة وهو موقف الحساب ووزن الأعمال، وقد انقطعت الأعمال وأحضرت للوزن فعبر عن ذلك بالماضي فقال: {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}.
٢- وأما الاختلاف في إسناد فعلي الكينونة فإنه قال في آية لقمان: {إِنَّهَا إِنْ تَكُ} فكان اسم (إن) ضميرًا مؤنثًا، أي الفعلة أو "الخصلة من الإساءة والإحسان لفهمها من السياق" (5) أو ضمير القصة (6). فكان الفعل مسندًا إلى مؤنث. في حين كان الكلام في الأنبياء على المذكر قال: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ} أي الشيء، فأسند الفعل إلى المذكر.
3- وأما ذكر أماكن وجود مثقال الحبة في لقمان فذلك لبيان قدرة الله وشمولها ليعرف لقمان ابنه بذلك ويبطل عقيدة الشرك.
وأما في الأنبياء فالسياق مختلف، وهو سياق الحساب ووزن الأعمال وليس ذكر أماكنها.
4- وأما اختلاف خاتمة كل من الآيتين فسببه واضح أيضًا، ذلك أن آية الأنبياء في الحساب فقال: {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ}.
وفي لقمان في استخلاص مثقال الحبة من أماكن وجودها الخفية فقال: {إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ}.
فناسب كل تعبير موطنه.
وقد تقول: كيف جرى التقديم والتأخير في هذه الآية، فقد ذكر الصخرة أولًا ثم ذكر السماوات بعدها ثم ذكر الأرض، فما سبب ذلك؟.
والجواب: أنه ذكر الصخرة أولًا، والصخرة قد تكون في السماء، وقد تكون في الأرض، فقد تكون في الأجرام السماوية صخور كالقمر والمشتري وغيرهما، وقد تكون صخور سابحة في الفضاء. فذكر الصخرة التي يشترك وجودها في السماء والأرض.
ثم ذكر السماوات وقدمها على الأرض، وهو الخط الجاري في السورة، فحيث اقترنت السماوات بالأرض قدم السماوات وذلك في أكثر من موطن:
قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} {لقمان: 10}.
وقال: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ} {لقمان: 16}.
وقال: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} {لقمان: 20}.
وقال:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} {لقمان: 25}.
وقال: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} {لقمان: 26}.
وحيث قدم السماوات وأخر الأرض في السورة ذكر بجنب الأرض أمورًا تتعلق بالأرض أو بسكان الأرض وذلك نحو قوله تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ ....} {لقمان: 10}.
وقوله: {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ ...... يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ} {لقمان: 16 - 17}.
وقوله: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ ...} {لقمان: 20}.
وقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} {لقمان: 25}.
وقوله: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ }{لقمان: 26 – 27}.
فكان تقديم السماوات على الأرض في الآية جاريا على نسق ما ورد في السورة.
(1) انظر معاني النحو 1/290.
(2) البرهان 1/407 – 408.
(3) ينظر البحر المحيط 7/182.
(4) التفسير الكبير 9/121.
(5) روح المعاني 21/88.
(6) انظر البحر المحيط 7/182.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 436 إلى ص 443.