عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ ﴿١٤﴾    [لقمان   آية:١٤]
{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} هذا الكلام كلام رب العالمين وضعه بين كلام لقمان؛ وذلك لأنه أراد أن يأمر هو بوصية الوالدين ومصاحبتهما بالمعروف، لا أن يقول الأب ذلك، وذلك لعظم منزلة الأبوين عند الله، فالذي وصى بالوالدين هو الله. ولئلا يذهب ذهن الابن إلى أن الأب إنما يأمره بطاعته وحسن صحبته لأنه يريد أن يستفيد منه وأن يجعله تابعًا له، فالله هو الذي أوصى ولا مصلحة له في هذا. وقد تقول: ولم لم يدع لقمان يتم كلامه ثم يذكر الله وصيته بالوالدين بعد ذلك؟ والجواب: أنه وضع الوصية بالوالدين بعد الشرك بالله وذلك لعظيم منزلتهما عند الله، فهو لا يريد أن يضعهما في آخر الوصايا بعد قوله: {وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ} فإن منزلتهما تأتي بعد توحيد الله والأمر بعبادته. وهذا شأن القرآن في الوصية بالوالدين، فإنه يجعل ذلك بعد الشرك بالله والأمر بعبادته، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {النساء: 36}، وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {الإسراء: 23}. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 423 إلى ص 424. * * * {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14)} من الملاحظ في هذه الآية: 1- أنه استعمل الفعل (وصى) بتشديد الصاد لا (أوصي)، وذلك للتشديد على الوصية والمبالغة فيها. ومن الملاحظ أن القرآن يستعمل الفعل (وصى) في أمور الدين والأمور المعنوية، وأما (أوصى) فيستعمله للأمور المادية، قال تعالى: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} {البقرة: 132}، وقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا} {النساء: 131}. في حين قال: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} {النساء: 11}، وهي في المواريث. وقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} {النساء: 11}، وهي في الأمور المادية. ولم يرد (أوصى) في القرآن الكريم للأمور المعنوية إلا في موطن واحد اقترن فيه بأمر مادي وهو قوله تعالى على لسان السيد المسيح: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} {مريم: 31}، فإنه قال: (أوصاني) لما اقترنت الصلاة بالزكاة، والزكاة أمر مادي يتعلق بالأموال (1). ولعل ذلك يعود أيضًا إلى أن المسيح عليه السلام كان لا يزال في المهد غير مكلف عمليًا بعبادة فاستعمل أخف الفعلين، والله أعلم. 2- ثم إنه أسند التوصية إلى الله سبحانه فقال: (ووصينا)، والله إنما يسند الأفعال إلى نفسه في أمور الخير وفي الأفعال المهمة، فإسناد ذلك إلى الله يدل على عظم شأن هذه التوصية، وقد أسند هذا الفعل إلى ضمير الجمع للتعظيم ثم أفرد بعد ذلك فقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ}، ولم يقل: (أن اشكر لنا... وإلينا) وقد ذكرنا أن هذه طريقة التعبير في القرآن، فإنه يفرد قبل أو بعد ضمير الجمع المعظم للدلالة على أنه واحد لا شريك له. وقد يكون ههنا مع ذلك أمر آخر وهو أن هذه الوصية أمر الله بها سبحانه، ونزل بها الملك، وبلغها الرسل، فجاء الفعل بضمير الجمع لذلك أيضًا، والله أعلم. 3- وقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ} ولم يقل بـ (أبويه) لأكثر من سبب، فإن كلمة (الوالدين) تثنية الوالد والوالدة وغلبت فيها لفظ الوالد ولذا ثنيت بالتذكير. وإن كلمة (الأبوين) تثنية الأب والأم وغلب فيها لفظ الأب ولذا قبل الأبوين، ومع أن الكلمتين فيهما تغليب للمذكر إلا أن لفظ (الوالدين) مأخوذ من الولادة، والولادة في الحقيقة تقوم بها المرأة إلا أنه غلب فيها لفظ الوالد في التثنية. وههنا أكثر من مناسبة تدعو إلى اختيار لفظ الوالدين على الأبوين، منها: أنه ذكر الحمل والفصال وهو الفطام من الرضاع فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ}، وقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وبين الحمل والإرضاع الولادة. وفيه تذكير الإنسان بولادته ومجيئه إلى الدنيا عاجزًا ضعيفًا، وقد رباه والداه وحمياه وأحسنا إليه، مما يدعو إلى رد الجميل والإحسان إليهما. وفيه إلماح إلى إحسان الصحبة إلى الأم أكثر من الأب لما ذكر من لفظ الوالدين وذكر حمل الأم والإرضاع. ولذا كان في القرآن خط عام لا يتخلف وهو أنه حين يذكر الإحسان إلى الأب والأم والبر بهما يذكر ذلك بلفظ (الوالدين) ولا يذكره بلفظ الأبوين تذكيرًا للإنسان بأمر الولادة، فلم يقل مرة واحدة: (وبالأبوين إحسانًا) بل إن كل مواطن الأمر بالمصاحبة بالمعروف والإحسان إليهما والبر بهما والدعاء لهما يأتي بلفظ الوالدين. وفيه إلماح إلى أن الأم لها النصيب الأوفى في ذلك. قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {البقرة: 83}. وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {النساء: 36}. وقال: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {الأنعام: 151}. وقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} {الإسراء: 23}. وقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} {لقمان:14}. وقال: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ} {لقمان: 14}. وقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} {العنكبوت: 8}. وقال: {وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا} {الأحقاف: 15}. وقال: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} {مريم: 14}. وقال: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} {إبراهيم: 41}. وقال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} {نوح: 28}. وغير ذلك وغيره. قد يأتي لفظ (الأبوين) في المواريث ونحوها مما لم يكن فيه ما ذكرنا من الأمر بالإحسان ونحوه، ولعل ذلك لأن نصيب الأب أكثر من نصيب الأم في الميراث. وقد يأتي لفظ الأبوين لمثنى الجد كما قال تعالى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} {يوسف: 6}. وقد يأتي لفظ الأبوين لآدم وحواء، إذ هما أبوا البشر، قال تعالى: {كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ} {الأعراف: 27}. قد تظن أن ذلك تخلف في قصة يوسف وذلك في قوله: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آَوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} {يوسف: 99}، وقوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} {يوسف: 100}، فإنه استعمل لفظ الأبوين في موطن الإكرام والإحسان ولم يستعمل لفظ الوالدين. والحق أنه لم يتخلف، بل إن استعمال لفظ (الأبوين) في قصة يوسف هو المناسب وهو أيضًا يتفق مع الخط القرآني. ذلك أنه جاء بلفظ (الأبوين) لأنه في هذه القصة لم يرد ذكر لأم يوسف ولا وصف لحالتها، بل كلها تدور حول الأب وأبنائه ويوسف عليهم السلام، فالأب هو المحزون الكظيم، وهو الذي فقد بصره حزنا وأسفًا كما قال تعالى: {وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} {يوسف: 84}، وهو الدائم الذكر له حتى خشي عليه الهلاك كما قال تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} {يوسف: 85}، فكان من المناسب تغليب الأب ههنا لا تغليب الوالد. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن قوله: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا} فيه إلماح إلى إكرام الأم، ذلك أن السجود للشخص إعظام له فاختار لفظ الأب على الوالد، فإن الابن هو الذي يعظم أبويه في العادة، وهنا عظم الأبوان ولدهما بالسجود له وهو خلاف المألوف والمعتاد، فغلب لفظ الأب الذي هو دون الأم في حق حسن الصحبة. ولعله إلماح إلى شيء آخر وهو أن العرش إنما ينبغي للرجال لا للنساء فغلب ذكر الأب، والله أعلم. وربما يحسن الاستطراد هنا قليلًا، فقد تقول: ألم يدرك الحزن أم يوسف فلم لم يرد لها ذكر؟ والجواب: - والله أعلم- أن يعقوب هو أبوهم كلهم، أما أم يوسف فليست أمهم، وإنما هي أم يوسف وأخيه، فلا تستطيع أن تؤنبهم وتذكر ذلك لهم على الدوام لما في ذلك من الحساسية، فربما أسمعوها ما لا ترضى من القول ولا يكون كلامها بتلك المنزلة عندهم. وهذا من حسن تقديرها لما هي فيه، ولذا لم يرد لها ذكر في القصة، والله أعلم. 4- ذكر الأم في هذه التوصية ولم يذكر الأب فقال: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} وهو إشارة إلى أنها أولى بحسن الصحبة. 5- قال: {وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ} فذكر الضعف المستمر المتزايد، ولم يقل: (وهنًا) فقط ليدل على أن الوهن ليس على وتيرة واحدة، بل هو يثقل عليها دائمًا ويوهنها باستمرار. 6- ذكر مدة الفصال فقال: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ولم يذكر مدة الحمل، ذلك أن الفصال بيد المرأة وهو توجيه إلى تمام مدة الإرضاع. أما الحمل فليس بيد المرأة. ثم إن مدة الحمل قد تتفاوت كما هو معلوم، فقد تكون ستة أشهر أو سبعة أشهر أو تزيد على ذلك. 7- وصاه بالشكر للنعم الأول وهو الخالق الذي أوجده من العدم، وهيأ له أسباب الوجود، وهيأ له من يحمله ويرضعه ويتعاهده وهو ضعيف عاجز. ثم وصاه بالشكر لوالديه لما علم من أمرهما. ثم أشار إلى أن الحياة لا تنتهي في الدنيا وإنما المصير إلى الله سيحانه، وهو إشارة إلى الحياة الآخرة. وقد قدم الخبر الجار والمجرور على المبتدأ فقال: {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} للدلالة على الحصر، فإن المصير إليه حصرًا لا إلى غيره. وفي هذا إبطال لعقيدة الشرك فإن المصير إليه وحده لا إلى غيره. (1) انظر التعبير القرآني 19. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 424 إلى ص 429.