عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ﴿١٣﴾ ﴾ [لقمان آية:١٣]
{وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13)}
الواو عطفت هذه العبارة على قوله: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}، أي آتيناه الحكمة في شكره لله وفي وعظه لابنه، فإن وعظ الأبناء من الحكمة.
وفي هذا توجيه للآباء أن يتعاهدوا أبناءهم بالموعظة والإرشاد، وأن لا يتركوهم للشوارع والطرقات ومعلمي السوء والجهال يأخذون عنهم ما سقط من القول والفعل، ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم.
جاء في (التفسير الكبير) أن قوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ ....} "عطف على معنى ما سبق، وتقديره: آتينا لقمان الحكمة حين جعلناه شاكرًا في نفسه، وحين جعلناه واعظًا لغيره. وهذا لأن علو مرتبة الإنسان بأن يكون كاملاً في نفسه ومكملاً لغيره، فقوله: {أَنِ اشْكُرْ} إشارة إلى الكمال، وقوله: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ} إشارة إلى التكميل" (1).
وجاء في (التحرير والتنوير) أن قوله سبحانه هذا "عطف على جملة {آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} لأن الواو نائبة مناب الفعل، فمضمون هذه الجملة يفسر بعض الحكمة التي أوتيها لقمان. والتقدير: وآتيناه الحكمة إذ قال لابنه، فهو في وقت قوله ذلك لابنه قد أوتي حكمة فكان ذلك القول من الحكمة لا محالة، وكل حالة تصدر عنه فيها حكمة هو فيها قد أوتي حكمة.
و(إذ) ظرف متعلق بالفعل المقدر الذي دلت عليه واو العطف، أي والتقدير: وأتيناه الحكمة إذ قال لابنه...
ويجوز أن يكون (إذ) ظرفًا متعلقا بفعل (اذكر) محذوفًا" (2).
لقد جاءت موعظة لقمان بعد قوله تعالى: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ}، وكان من الممكن أن يبدأ بالموعظة من دون هذا التصدير، فيقول بعد قوله تعالى: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ .....}
ولكن هذا التصدير له أكثر من غرض:
من ذلك أنه يتبين منه أن الحكمة يتعلق جانب منها بإصلاح النفس وجانب بإصلاح الآخرين، وأن أولى موجبات الحكمة أن يعلم الأب أبناءه ويوجههم ويرشدهم، هذا إضافة إلى ما قاله لقمان من الحكمة.
ثم إن الحكمة - كما أسلفنا - إحسان القول والعمل، أو وضع الشيء في محله في القول والعمل، فلما قال: {وَلَقَدْ آَتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ} دل ذلك أن لقمان أوتي الحكمة في قوله وعمله، وأنه كان يطبق ما يقول على نفسه، إذ ليس من الحكمة أن تناقض أقوال الشخص أفعاله وإلا كان قوله ساقطة ولو نطق بأعلى الحكمة. وفيه توجيه للدعاة والواعظين أن يبدؤوا بأنفسهم قبل وعظ الآخرين.
(1) التفسير الكبير 9/119.
(2) التحرير والتنوير 21/153 – 154.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 418 إلى ص 419.
* * *
{وَهُوَ يَعِظُهُ}
الواو في قوله: {وَهُوَ يَعِظُهُ} تحتمل أن تكون للحال، أي: قال لقمان لابنه واعظًا له، وتحتمل أن تكون للاستئناف، أي وهذا شأنه، أي من شأن لقمان أن يعظ ابنه.
فقوله: {وَهُوَ يَعِظُهُ} يفيد أنه قال ذلك واعظًا لابنه، وأن من شأن لقمان أن يعظ ابنه فلا يترك توجيهه. ولو قال: (وإذ قال لقمان لابنه واعظًا لم يفد إلا معنى واحدًا.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 420 إلى ص 420.
* * *
{يَا بُنَيَّ }
بدأ وعظه بمناداة ابنه مناداة تحبيب ورفق وتلطف ولين (يا بني) بالتصغير والإضافة إلى النفس ليعطف قلبه، وليزيل كل حجاب مانع من قبول التوجيه بينه وبينه. واللين في القول يفتح القلوب المقفلة والأبواب الموصدة ويلين النفوس العصية وهو أدعى إلى الاستجابة والقبول.
وهو توجيه للآباء والواعظين أن يرفقوا في القول وأن يمزجوا كلماتهم بالرحمة والحنان، فتؤثر الرحمة ولين القول ما لا يؤثر القول نفسه. وقد أمر ربنا موسى وأخاه عليهما السلام أن يقولا لفرعون قولًا لينًا فقال: {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} {طه: 43 – 44}.
جاء في (التحرير والتنوير) في قوله: {يَا بُنَيَّ}: "والتصغير فيه لتنزيل المخاطب الكبير منزلة الصغير كناية عن الشفقة به والتحبب له، وهو في مقام الموعظة والنصيحة إيماء وكناية عن إمحاض النصح وحب الخير، ففيه حث على الامتثال للموعظة" (1).
(1) التحرير والتنوير 21/155.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 420 إلى ص 420.
* * *
{لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ}
بدأ النصح بالنهي عن الشرك لأنه رأس الإيمان ورأس الدين، ولأن أول ما ينبغي أن يغرس في النفوس هو التوحيد لأنه أساس صلاحها ونجاتها.
ومن الملاحظ أنه نهاه عن الشرك قبل أن يأمره بالعبادة وذلك لأكثر من سبب:
منها: أن عدم الشرك مقدم على العبادة، فلا تنفع عبادة مع الشرك، فبدأ بما هو أهم
ولأن النهي عن الشرك يعم الصغير والكبير، أما العبادة فيكون التكليف بها بعد البلوغ، فبدأ بما هو أعم.
ثم إن الانتهاء عن الشرك أيسر من القيام بالعبادات والطاعات، ولذا نجد كثيرًا من الناس موحدين، غير أنهم لا يأتون بالعبادات من صلاة وصيام وغيرهما.
فبدأ بما هو أهم وأعم وأيسر، حتى إذا قام بغرس العقيدة وتصحيحها أمره بعد ذلك بالعبادات.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 421 إلى ص 421.
* * *
{إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}
كون الشرك ظلمًا لأنه يسوي بين القادر والعاجز، والعالم والجاهل، والخالق والمخلوق، والمنعم المتفضل والمحتاج إلى النعمة. وهذا ظلم عظيم، فإنك في الحياة لو سويت بين هؤلاء كنت ظالمًا ظلما عظيمًا، فإنه لو تقدم مثلاً جماعة إلى طلب عمل فأجري لهم اختبار فكان منهم من يحسن كل جزئيات ذلك العمل بأدق تفاصيله على أكمل وجه وأحسنه، يخبر عن ذلك بأبلغ الكلام وأحسنه، ومنهم من لا يحسن شيئًا، ولا يعلم شيئًا، في عي وقصور فهم وإدراك ولا يحسن النطق أيضًا، وكنت سويت بينهم كنت ولا شك ظالمًا ظلمًا عظيمًا.
فإن الشرك بالله أعظم بكثير من هذا الظلم، فإن التفاوت بين الخالق والمخلوق لا يصح فيه قياس.
جاء في (روح المعاني): "وكون الشرك ظلمًا لما فيه من وضع الشيء في غير موضعه، وكونه عظيمًا لما فيه من التسوية بين من لا نعمة إلا منه سبحانه ومن لا نعمة له" (1).
ثم إن الشرك كما سبق أن ذكرنا ظلم للنفس من جهة أن المشرك يعبد من هو أقل منه شأنًا، أو من لا يستحق العبادة البتة، فيكون ظالمًا لنفسه حاطًا من قدرها وقد كرمه الله سبحانه.
ثم إنه ظلم للنفس من ناحية أخرى، ذلك أنه يوردها موارد الهلكة، فإن الشرك يورد صاحبه النار خالدًا مخلدًا فيها.
ولذا وصف هذا الظلم بأنه عظيم، وأكد ذلك بإن واللام فقال: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ}.
ثم إن اختيار وصف الشرك بالظلم اختيار له دلالته من ناحية أخرى، ذلك أن فطرة الإنسان تكره الظلم والظالمين، وحتى لو كان الشخص ظالمًا فإنه يسيغه لنفسه ولا يسيغه من غيره، ولذا تجد عموم الناس يكرهون الظالم وينتصرون نفسيًا للمظلوم حتى في التمثيل، فوصف الشرك بما تكرهه النفوس ولا تنحاز إلى صاحبه لينأى عنه ويتركه.
ولعل من المفيد أن نذكر أيضًا أن قوله: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} فيه تعليل للنهي عن الشرك، وهو إشارة إلى أن الناصح والموجه ينبغي أن يعلل كلامه ويذكر السبب الموجب، وألا يذكر الأمور من دون تعليل، وذلك ليقتنع السامع ويسلم له عقله و نفسه، والله أعلم.
(1) روح المعاني 21/85.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 421 إلى ص 423.