عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ ﴿١٠﴾ ﴾ [لقمان آية:١٠]
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10)}
قال ههنا: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا}، وقال في مكان آخر: {رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} {الرعد: 2}، وكل تعبير مناسب لمكانه، فإن تعبير (رفع) في الرعد أنسب من جهات:
1- منها أنه قال: {وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ}، والإنزال إنما يكون من فوق أي من مكان مرتفع، فناسب (رفع السماوات).
2- وقال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} {الرعد: 2}، والعرش فوق السماوات.
3- ذكر تسخير الشمس والقمر وهما من الأجرام السماوية وهي مرتفعة في السماء، فناسب ذكر رفع السماء.
وليس في (لقمان) شيء من ذلك، فناسب (خلق) دون (رفع).
ثم إن قوله: (خلق السماوات) في لقمان مناسب لما ورد في الآية بعدها وهو قوله: {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 404 إلى ص 404.
* * *
{وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} {لقمان: 10}.
أي كراهة أن تميد أو لئلا تميد بكم.
ومن الملاحظ أنه حين يذكر الرواسي يقول أحيانًا: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} {النحل: 15}، أو {أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ} {الأنبياء: 31}، وأحيانًا لا يقول ذاك كما في {الرعد: 3}، و{الحجر: 19}. و{فصلت: 10}، و{ق: 7}، و{المرسلات: 27}، و {النمل: 61}.
وسبب ذلك - والله أعلم - أنه إذا أراد بيان نعمة الله على الإنسان قال: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ}، وإذا أراد بيان قدرة الله فيما صنع لا لبيان علاقة ذلك بالإنسان لم يقل ذاك.
وقال: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} ههنا لبيان نعمة الله على الإنسان ورحمته له، وهذا أمر مرتبط بقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً} في أول السورة فإن عدم ميدها بهم من رحمة الله لهم.
وهو مرتبط أيضًا بقوله تعالى في الآية السابقة لها: {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}، فإنه بين حكمة إلقاء الرواسي في الأرض، فهي مرتبطة بما قبلها من ناحيتين: من ناحية الرحمة ومن ناحية الحكمة.
وقال: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} دون (جعل) كما في آيات أخرى (1)، وذلك لمناسبة وصفه نفسه بـ (العزيز) في الآية السابقة، فإن إلقاء الرواسي من العزة.
فقوله: {وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ} مناسب لاسمه (العزيز)، وقوله: {أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ} مناسب لاسمه (الحكيم).
واختار لفظ (الرواسي) دون الجبال مثلًا لأن المقصود بالرواسي الثوابت، وليس في لفظ الجبال ما يدل على ذلك، ولذا لا يستعمل لفظ الرواسي حين يذكر زوالها وذهابها يوم القيامة، لأن الرواسي من الرسو وهو الثبات، بل يستعمل لفظ الجبال وذلك نحو قوله: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ} {التكوير: 3}، {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} {النبأ: 20}، {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} {الحاقة: 14}، {وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ} {المرسلات: 10}، وغيرها.
(1) انظر مثلاً الرعد 3، الأنبياء 31، فصلت 10، النمل 61.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 405 إلى ص 406.
* * *
{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً}
قال: (أنزلنا) بإسناد الإنزال إلى ضمير الله سبحانه على طريق الالتفات وذلك لأهمية الماء بالنسبة للإنسان.
جاء في (التفسير الكبير): "إن إنزال الماء نعمة ظاهرة متكررة في كل زمان، متكثرة في كل مكان، فأسنده إلى نفسه صريحًا ليتنبه الإنسان الشكر نعمته فيزيد له من رحمته" (1).
وجاء في (التحرير والتنوير): "والالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: (وأنزلنا) للاهتمام بهذه النعمة التي هي أكثر دورانًا عند الناس" (2).
وكذلك أسند الإنبات إلى نفسه فقال: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا} فهو المنزل وهو المنبت.
(1) التفسير الكبير 9/118
(2) التحرير والتنوير 21/146.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 406 إلى ص 406.
* * *
{مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}
أي من كل صنف بالغ الجودة كثير الخير والمنفعة، و(الزوج) معناه ههنا الصنف، قال تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} {الواقعة: 7}، أي أصنافًا. وقال: {وَآَخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}{ص: 58}، أي أصناف.
وقد تقول: ولم قال ههنا: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ}، فوصفه بالكرم، وقال في (ق) والحج: {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} فوصفه بالبهجة؟.
والجواب: أنه إضافة إلى موافقة فواصل الآية في كل موضع فهناك أمر آخر حسن كل تعبير في مكانه.
فقد قال في (لقمان): {مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} والكريم - كما قلنا – هو البالغ الجودة والنفاسة والكثير المنفعة وهو المناسب لما ذكره من حكمة لقمان التي آتاه الله إياه، وهي بالغة الخير والنفاسة كثيرة المنفعة، {وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا} {البقرة: 269}.
أما في (ق) فالسياق سياق الزينة والجمال، قال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) ….. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} {ق: 6 – 10}،فانظر كيف ناسب ذكر البهجة ذكر الزينة في السماء، والزينة إنما تكون للبهجة. وانظر كيف قال: {وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ} وكل ذلك مناسب للزينة والجمال.
ونحو ذلك ما جاء في سورة الحج، فقد قال: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} {الحج: 5}، فقابل الهمود بالبهجة وهو المناسب.
فناسب كل تعبير موطنه.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 406 إلى ص 407.