عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴿٧﴾ ﴾ [لقمان آية:٧]
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)}
قال: (وإذا) ولم يقل: (وإن) لأن الأمر حصل أو هو يحدث لا محالة، لأن (إذا) تستعمل لما يقع كثيرًا أو سيقع لا محالة، بخلاف (إن) فإنها تستعمل لافتراض قد يقع وقد لا يقع.
ومعنى ذلك أن التلاوة حصلت وقد ولى عنها مستكبرًا.
وقال: (تتلى) بالمضارع، ولم يقل: (تليت)؛ للدلالة على تكرار التلاوة عليه. والمفروض أن تكرار التلاوة يدعو إلى التأمل فيها. أما هذا فهو يولي عنها مستكبرًا.
وقال: (آياتنا) بإضافة الآيات إلى ضمير الله المعظم لتعظيم آياته وتشنيع فعله.
وقال: (مستكبرًا) للدلالة على أنه لم يكتف بالتولية، فقد يكون المولي غير مستكبر، أما هذا فهو يستكبر عن آيات ربه، فوصفه بالتولي عن آيات ربه، وهو وصف قبيح، ثم وصفه بالاستكبار عنها، وهو زيادة في القبح.
وقال: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} للدلالة على أنه يسمع وليس في أذنيه وقر، ولكن يتجاهل ما يتلى عليه.
وقد تقول: ولم قال ههنا: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا}، ولم يقل نحو ذلك في قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {الجاثية: 7 – 8}؟
والجواب عن ذلك: "أن آية الجاثية لما تقدم فيها قوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آَيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ} فوصفه بسماع آيات الله لم يكن ليطابقه ذكر الوقر في الأذن، لأنه قد ذكر سماعه الآيات، والوقر مانع من السماع فلم يناسب الإعلام بالسماع ذكر الوقر المانع منه...
ولما لم يقع ذكر سماع الآيات في آية لقمان وتقدم ذكر المشار إليه بقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا} وهذه زيادة مرتكب فناسبها ذكر زيادة الوقر، مع أنه لم يرد فيها ذكر سماعه الآيات كما ورد في آية الجاثية، فازداد ووضح التلاؤم" (1).
(1) ملاك التأويل 2/789.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 399 إلى ص 400.
* * *
{فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}
قال: (فبشره) والبشرى إنما تكون في الخير، ولكنه قال ذلك استهزاء، فاستهزأ به كما استهزأ بآيات الله واستكبر.
وقال: (فبشره) بضمير الإفراد، ولم يقل: (فبشرهم) كما قال في الآية السابقة، إذ قال فيها: {أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} بصيغة الجمع، وذلك أنه في هذه الآية ذكره وحده ولم يذكر معه أحدًا، بخلاف الآية السابقة فقد ذكر معه من يضلهم.
ووصف العذاب ههنا بأنه أليم، ووصفه في الآية السابقة بأنه مهين، ذلك أن كل وصف وضع بمكانه اللائق به، فإن الإهانة غالبًا ما تكون إذا وقعت أمام الآخرين. وكلما كانت أمام جمع أكبر كان وقعها أشد على النفس، أما إذا لم يكن ثمة أحد يشاهدها فالإهانة ليست ظاهرة، وتكون أشد إذا كانت أمام أشخاص يعرفهم ويعرفونه.
ولما ذكر في الآية الأولى جمعًا أضلهم كان وصف العذاب بأنه مهين أشد على النفس؛ وذلك لأنه واقع أمام مشهد من أضل، فكان يشهد بعضهم إهانة بعض.
أما في الآية الثانية فإنه لم يصف العذاب بأنه (مهين)؛ لأنه ذكره بمفرده ولم يذكر معه أحدًا يشاهد تعذيبه، فناسب وصفه بالأليم.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن في الاستهزاء جانبين:
جانب إهانة الآخرين، وجانب إيلامهم، فجمع له بين العذابين: المهين والمؤلم.
فقد يكون العذاب مهينًا غير مؤلم للجسد، وقد يكون مؤلمًا غير مهين، فجمع له بين العذابين. فكما أهان الآخرين والمهم باستهزائه جمع له بين الإهانة والإيلام.
وفي هذه الآية ذم للمشتري من وجوه فهو "يشتري الحديث الباطل، والحق الصراح يأتيه مجانًا يعرض عنه. وإذا نظرت فيه فهمت حسن هذا الكلام من حيث إن المشتري يطلب المشتري مع أنه يطلبه ببذل الثمن، ومن يأتيه الشيء لا يطلبه ولا يبذل شيئًا، ثم إن الواجب أن يطلب العاقل الحكمة بأي شيء يجده ويشتريها، وهم ما كانوا يطلبونها، وإذا جاءهم مجانًا ما كانوا يسمعونها، ثم إن فيه أيضًا مراتب:
الأولى: التولية عن الحكمة، وهو قبيح.
والثاني: الاستكبار.
ومن يشتري حكاية رستم وبهرام ويحتاج إليها كيف يكون مستغنيًا عن الحكمة حتى يستكبر عنها...
الثالث: قوله تعالى: {كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا} شغل المتكبر الذي لا يلتفت إلى الكلام ويجعل نفسه كأنها غافلة.
الرابع: قوله: {كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا} أدخل في الإعراض" (1).
وجاء في (البحر المحيط): "وتضمنت هذه الآية ذم المشتري من وجوه: التولية عن الحكمة، ثم الاستكبار، ثم عدم الالتفات إلى سماعها كأنه غافل عنها، ثم الإيغال في الإعراض بكون أذنيه كأن فيهما صممًا يصده عن السماع" (2).
(1) التفسير الكبير 9/116.
(2) البحر المحيط 7/180.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 400 إلى ص 402.