عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴿٤﴾ ﴾ [لقمان آية:٤]
{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) }
ذكر إقامة الصلاة وهي أداؤها على الوجه الأتم، وهي من الإحسان إلى النفس. وذكر إيتاء الزكاة وهي من الإحسان إلى الغير.
وذكر الإيقان بالآخرة وهو مدعاة إلى الإحسان إلى النفس وإلى الآخرين فذكر جماع الإحسان.
لقد قال هنا: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}.
وقال في البقرة {وَبِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} {البقرة: 4}، فزاد (هم) في أول الجملة، وذلك - والله أعلم - لما تردد في السورة من ذكر الآخرة وأحوالها والتوعد بها، فقد ورد ذلك في زهاء نصف عدد آيات السورة، وذلك نحو قوله: {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} {لقمان: 6}، {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} {لقمان: 7}، {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ} {لقمان: 8}، {خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا} {لقمان: 9}، {إِلَيَّ الْمَصِيرُ} {لقمان: 14}، {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {لقمان: 15}، {أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} {لقمان: 21}، {إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} {لقمان: 23}، {ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} {لقمان: 24}، {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} {لقمان: 28}، {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} {لقمان: 33}، {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} {لقمان: 34}.
ثم إن السورة بدأت بذكر الآخرة وانتهت به، فقد بدأت بقوله: {وَهُمْ بِالْآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} {لقمان: 4} وانتهت بقوله: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} {لقمان: 34}.
فناسب زيادة (هم) في هذه السورة على ما في البقرة.
وقدم (بالآخرة) على الفعل (يوقنون) لأن الإيقان بالآخرة صعب ومقتضاه شاق، فإن الإيقان بالمشاهد يسير، بل إن قسمًا من الناس يؤمنون بالله ولا يؤمنون باليوم الآخر، ومن هؤلاء كفار مكة كما أخبر عنهم ربنا في أكثر من موطن، وذلك نحو قوله: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} {الجاثية: 32}، وقوله: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} {سبأ: 7}، وقوله: { وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَئِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآَبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآَبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} {النمل: 67 – 68}.
ومع إنكارهم الآخرة كانوا يؤمنون بالله كما أخبر ربنا عنهم بقوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} {العنكبوت: 61}، وكما أخبر عنهم في السورة نفسها فقال: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} {لقمان: 25}.
وقدم (هم) على الفعل (يوقنون) تعريضًا بغيرهم ممن يدعي الإيمان باليوم الآخر ولا يعمل بمقتضاه، فكأنهم وحدهم الذين يوقنون إيقانًا حقيقيًا باليوم الآخر، وكأن من عداهم ليس بمؤمن، فكان ههنا تقديمان: تقديم الضمير على الفعل، وتقديم الجار والمجرور عليه، وكان الأصل أن يقول: (ويوقنون بالآخرة)، ويحتمل أن تكون الواو للحال فيكون المعنى: الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة في حال إيقانهم بالآخرة، أي: يفعلون ذلك موقنين بالآخرة، فهم يقيمون الصلاة موقنين بالآخرة، ويؤتون الزكاة موقنين بالآخرة. ولو قالها على الأصل، أي (يوقنون بالآخرة) لم يفد هذا المعنى، فكانت أفعالهم طمعًا في ثوابه سبحانه وخوفًا من عذابه.
وقد تقول: وهل يصلي من لم يكن مؤمنًا باليوم الآخر؟
فنقول: نعم قد يكون ذاك، فقد أخبر ربنا عن مشركي قريش أنهم كانوا يصلون مع أنه ذكر أنهم لا يؤمنون بالآخرة فقال: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً} {الأنفال: 35}.
وبناء ذلك على الجملة الاسمية وتكرار (هم) يدل على عظم شأن الإيمان باليوم الآخر، وأنه لا ينفع شيء مع عدم الإيمان به.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 389 إلى ص 391.