عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ ﴿٦٩﴾ ﴾ [يس آية:٦٩]
{وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69)}
إن ارتباط هذه الآية بما قبلها ارتباط لطيف، فإنه لما ذكر جهنم والختم على الأفواه وتكليم الأيدي وشهادة الأرجل وغير ذلك مما ذكره بعد مما هو مستغرب وغير مألوف، فقد يظن ظان أن هذا من خيال الشعراء وتصوراتهم وليس من الحقائق فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ}.
إن قوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}، رد لقولهم: (هو شاعر)، فقد كانوا يصفون رسول الله بهذا الوصف، قال تعالى: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} {الأنبياء: 5}، وقال: {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آَلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} {الصافات: 36}، فرد قولهم بقوله: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}.
ونفى الفعل بـ (ما) ولم ينفه بـ (لم) فلم يقل: (ولم نعلمه الشعر) وذلك لقوة (ما) في النفي، ذلك أن (ما فعل) نفي لـ (لقد فعل)، وأن (لم يفعل) نفي لـ (فعل)، و(ما) إذا نفت الفعل الماضي كانت بمنزلة جواب القسم (1).
ومعنى (ما ينبغي له) ما يصح له ولا يليق ولا يتأتى له لو أراده، فهو لا يمكنه نظم الشعر ولا يستطيعه.
جاء في (الكشاف): " {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} وما يصح له ولا يتطلب لو طلبه، أي جعلناه بحيث لو أراد قرض الشعر لم يتأت له ولم يتسهل" (2).
فنفى بهذا كون الرسول شاعرًا، ونفي كون القرآن شعرًا.
لقد نفى أولًا تعليمه الرسول للشعر فقال: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ}، وقد يظن ظان أنه ربما كان في تعليمه الشعر خير محرم منه، وأنه لو علمه إياه لكان أكمل له فقال: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي أنه لا يصح أن يكون شاعرًا، وأن الكمال في حقه عدم تعليمه إياه، فإن مهمة النبي غير مهمة الشاعر، فلا يليق بالنبي أن يكون شاعرًا.
وأقل ما يقال في الشعر والشعراء:
1- أن الشاعر قد يزيد في الحقائق أو ينقص منها أو يكذب، وقد يستبد به الخيال في تصويراته الشعرية ومبالغاته، بينما الرسول لا يقول إلا الحق فلا يزيد فيه أو ينقص منه.
2- وأن الشاعر قد يعني بتزويق الكلام وتحسينه على حساب المعنى.
٣- وأن الشاعر قد يقع في ضرورات لا يقتضيها المعنى، وقد يضع الكلمة في غير موضعها المناسب، وقد يخل بمقتضيات البلاغة من تقديم وتأخير وذكر وحذف وما إلى ذلك.
أما القرآن فإنه يضع التعبير في أعلى مراتب البلاغة.
4- ثم إن القرآن حدد سلوك الشعراء وطبيعتهم بما يختلف عن طبيعة النبي وسلوكه، فقد قال: {وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ} {الشعراء: 224 - 226}، وهذا لا يمكن أن يكون سلوك الأنبياء الذين يتصدون لإصلاح الخلق، ولم يستثن منهم إلا أتباع الرسل والأنبياء فقال: {إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ...} {الشعراء: 227}.
5- ثم إن الشعر إنما هو قول الشاعر، أي هو كلام بشر. فلو كان القرآن شعرًا لكان من كلام البشر. وقد ادعى الكفار أن محمدًا شاعر، وأن القرآن شعر ليصلوا بذلك إلى أن القرآن ليس كلام الله، وأن محمدًا ليس رسولًا، فنفى ذلك ليبطل زعمهم.
6- ثم إن الشعر له نظير، والشعراء لهم نظراء وأضراب، فنفى أن يكون القرآن شعرًا ومحمد شاعرًا ليدل على أنه ليس له ولا لما جاء به نظير.
جاء في (البحر المحيط): "{وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي ولا يمكن له ولا يصح ولا يناسب، لأنه عليه السلام في طريق جد محض، والشعر أكثره في طريق هزل، وتحسين لما ليس حسنًا، وتقبيح لما ليس قبيحًا، ومغالاة مفرطة. جعله تعالى لا يقرض الشعر كما جعله أما لا يخط، لتكون الحجة أثبت والشبهة أدحض...
وإنما منع الله نبيه من الشعر ترفيعًا له عما في قول الشعراء من التخييل والتزويق للقول، وأما القرآن فهو ذكر بحقائق وبراهين، فما هو بقول شاعره" (3).
وجاء في (روح المعاني): "{وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}... أي لا يليق ولا يصلح له الشعر لأنه يدعو إلى تغيير المعني لمراعاة اللفظ والوزن، ولأن أحسنه المبالغة والمجازفة والإغراق في الوصف، وأكثره تحسين ما ليس بحسن، وتقبيح ما ليس بقبيح، وكل ذلك يستدعي الكذب أو يحاكيه الكذب، وجل جناب الشارع عن ذلك، كذا قيل" (4).
لقد قال قبل هذه الآية: إنه لو شاء لطمس على أعينهم، ولو شاء لمسخهم على مكانتهم، ولو شاء لكان، وفي هذه الآية أعني: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} ذكر ربنا ما شاء أن يكون، وهو أن يكون محمد نبيًا وليس شاعرًا، وأن ما أنزله عليه ذكر وقرآن وليس شعرًا.
والطمس والمسخ من الآيات الدالة على قدرته تعالى، والقرآن الكريم أكبر الآيات الدالة على صحة رسالته فكلتاهما آية وحجة.
الطمس والمسخ كل منهما آية على أن الله قادر على أن يعجز خلقه فلا يستطيعون أن يفعلوا إزاءها شيئًا، والقرآن آية على إعجازهم كذلك فلا يستطيعون أن يأتوا بمثله، فكلتاهما آية على قدرته وحجة على خلقه.
لقد نفي الفعل (ينبغي) بـ (ما) فقال: {وَمَا يَنْبَغِي لَهُ}، ولم ينفه بلا، ذلك أن (لا) الداخلة على الفعل المضارع أكثر ما تكون للاستقبال، بل ذهب النحاة إلى أنها خاصة بالاستقبال، قال تعالى على لسان سيدنا سليمان عليه السلام: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} {ص: 30}، فنفى الفعل (ينبغي) بـ (لا) ذلك أنه دال على الاستقبال، فقد قال: (من بعدي)، وهذا هو الموطن الوحيد الذي دخلت فيه (لا) على الفعل (ينبغي) في القرآن الكريم، فلا يناسب ههنا النفي بـ (لا) لئلا يفهم أن هذا النفي خاص بالاستقبال لا ما هو عليه الآن.
(1) ينظر كتاب سيبويه 1/460.
(2) الكشاف 2/593.
(3) البحر المحيط 7/345 – 346، وانظر أنوار التنزيل 587.
(4) روح المعاني 23/47.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 321 إلى ص 325.
* * *
{إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ} {يس: 69}.
أي ما هذا الذي تسمعونه منه وتسمونه شعرًا إلا ذكر وموعظة من الله عز وجل وقرآن مبين، أي مظهر لكل أحد أنه ليس شعرًا، وإنما هو قرآن يتلى أنزله الله، فيه مواعظ وإرشاد للثقلين.
وقد تقول: لقد قال تعالى ههنا: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ} فنفى وأثبت بإن وإلا، وقال في موطن آخر: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} {القلم: 52}. فنفى وأثبت بـ (ما) و(إلا) فلم ذاك؟ وما الفرق؟
والجواب أن النفي بـ (إن) أقوى من (ما) (1) فنفى بما هو أقوى.
وقد تقول: ولم نفى بـ (ما) في سورة القلم؟
والجواب: أن ذلك بحسب ما يقتضيه السياق والمقام، وأن كل موطن اقتضى التعبير الذي ورد فيه.
وإيضاح ذلك أنه حيث كان الكلام على القرآن أكثر تفصيلاً أو كان يقتضي توكيدًا نفى بـ (إن) وإلا نفى بـ (ما).
وإيضاح ذلك أنه في سورة القلم لم يكن السياق في الكلام على القرآن ولم يذكر عليه إلا آية واحدة وإليك ذلك:
قال تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ
لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} {القلم: 51 - 52}، والكلام كما ترى على الرسول، فقوله: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ}إلى آخر الآية إنما هو في الكلام على الرسول لا على القرآن، وقال بعدها: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وهي الآية الوحيدة التي تكلمت على القرآن ههنا فنفى بـ (ما).
وهذا هو الموطن الوحيد الذي نفى بـ (ما) في مثل هذا التعبير في القرآن الكريم.
في حين قال في سورة (يس): {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآَنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} فالكلام على القرآن كما ترى، حتى إن قوله: {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} يحتمل أن يكون المقصود به القرآن. فالكلام على القرآن أطول مما في القلم فنفى بـ (إن).
ونحوه قوله تعالى في سورة يوسف: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} {يوسف: 102 - 104}.
فقوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ} يعني القرآن، فإنه هو ما يوحى إليه، و(أنباء الغيب) المذكورة يعني بها قصة يوسف التي ذكرها القرآن.
وقوله: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} قيل: هو القرآن.
فناسب أن يقول: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}.
و نحوه ما جاء في سورة ص: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ}.
فالكلام إنما هو على القرآن كما هو واضح، فقوله: {مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ}، قيل: هو القرآن. وقوله: {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} يعني القرآن فناسب النفي بإن.
وقال تعالى في سورة التكوير: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ... وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ... فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ.. إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ...} {التكوير: 19 - 27}، وهو واضح في أن الكلام على القرآن، وأنه فضل في ذلك، فنفى وأثبت بإن وإلا، فاتضح الفرق.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 325 إلى ص 327.