عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ ﴿٦٧﴾ ﴾ [يس آية:٦٧]
{وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67) }
المسخ: تحويل صورة إلى صورة أقبح منها (1)، وقد يكون التحويل إلى حجر أو غيره من الجمادات أو إلى حيوان بهيم (2).
والمكانة: هي المكان، كالمقامة والمقام (3)، والمكانة: المنزلة.
ويقال: (عمل على مكانته) يعني على حاله وعلى ما هو عليه، قال تعالى: {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} {الأنعام: 135}، أي على حالكم.
جاء في (لسان العرب): "المكانة: المنزلة، وفلان مكين عند فلان: بين المكانة، والمكانة: الموضع... والمكان: الموضع، والجمع أمكنة وأماكن" (4).
وجاء فيه أيضًا: "{اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي على حيالكم وناحيتكم، وقيل: معناه: أي على ما أنتم عليه مستمكنون. الفراء: لي في قلبه مكانة وموقعة ومحلة... والمكانة: المنزلة عند الملك، والجمع مكانات، ولا يجمع جمع التكسير" (5).
ومعنى (لمسخناهم على مكانتهم): أي لمسخناهم على أمكنتهم فلا يستطيعون مغادرتها، أو لمسخناهم على حالتهم التي هي عليها فيجمدون في أمكنتهم.
جاء في (الكشاف): "المكانة والمكان واحد، كالمقامة والمقام. أي لمسخناهم مسخًا يجمدهم مكانهم لا يقدرون أن يبرحوه بإقبال ولا إدبار ولا مضي ولا رجوع" (6).
وقال: {عَلَى مَكَانَتِكُمْ} ولم يقل: (على مكانكم) ليشمل المكان والحال التي هم عليها.
وقدم المضي على الرجوع لأكثر من سبب:
منها: أن المضي أهم من الرجوع، ذلك أن الناس يريدون المضي إلى أعمالهم وحاجاتهم والرجوع فيما بعد، فبدأ بما هو أهم.
ومنها: أن المضي أصعب من الرجوع، فإن الرجوع ينبئ عن معرفة الطريق، ذلك لأنه سيعود في الطريق التي جاء فيها. أما المضي فقد يكون في طريق غير مألوفة ولا معروفة فيكون المضي أصعب من الرجوع.
هذا إضافة إلى أن المضي هو ابتعاد عن محل الإقامة والمنطلق، أما الرجوع فإنه عودة إليه، فيكون الرجوع أسهل، فبدأ بالأصعب، وذلك كما يقول الناس: هو لا يستطيع المشي بل لا يستطيع الحركة فيبدأ بما هو أصعب ثم يعود إلى ما هو أيسر.
وكما تقول متحديًا: إن استطعت فاقفز ثلاثة أمتار، بل اقفز مترين، بل اقفز مترًا ونصفًا. ونحوه ما ورد في القرآن من التحدي فقد قال أولًا: {فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} {هود: 13}، فلما عجزوا قال: {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} {البقرة: 23}، فبدأ بالأصعب ثم تلاه بما هو أيسر ليكون ذلك ملزمًا لهم وحجة عليهم.
جاء في (التفسير الكبير): "قدم المضي على الرجوع، لأن الرجوع أهون من المضي؛ لأن المضي لا ينبئ عن سلوك الطريق من قبل، وأما الرجوع فينبئ عنه، ولا شك أن سلوك طريق قد رئي مرة أهون من سلوك طريق لم ير، فقال: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا} ولا أقل من ذلك وهو الرجوع الذي هو أهون من المضي" (7).
إن هذه الآية والتي قبلها - أعني قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ}- مرتبطتان بما ورد في أول السورة وهو قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}، ذلك أن قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} نظير قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا}، فهؤلاء الذين جعلت في أعناقهم أغلال وجعل من بين أيديهم سد ومن خلفهم سد كالممسوخين لا يستطيعون مضيًا ولا يرجعون.
وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} نظير قوله: {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ}.
والطريف في هذا الارتباط أنه جمع في هذين الموطنين بين الأمر الخارجي والذاتي الخلقي، وبين الأمر المعنوي والمادي، وبين الحقيقة والمجاز.
فقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} إنما كان عدم الحركة وعدم الإبصار لأمر خارج عن الجسم، وذلك أنه كان من بين أيديهم سد ومن خلفهم سد، فأغشاهم فكانوا لا يستطيعون الحركة والإبصار لذلك، لا بسبب عاهة بدنية.
وأما قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} فإن عدم الإبصار إنما كان بسبب تعطيل آلة الرؤية في الجسم وليس بسبب مانع خارجي.
وكذلك قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} فإن عدم الحركة بسبب المسخ، وذلك بتحول الجسم إلى شيء لا يستطيع الحركة، فإن عدم الإبصار وعدم الحركة إنما كان بسبب ما حصل للجسم ذاته وليس بسبب خارجي.
فجمع في الموضعين بين المانع الخارجي والمانع الجسماني.
ثم إن قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} ليس ذلك على الحقيقة، وإنما يراد منه الموانع من الإيمان وهي موانع نفسية وليست مادية حقيقية.
وأما قوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ...}، وقوله: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ....}، فيراد به الحقيقة، وأن المقصود تعطيل آلة البصر وتعطيل حركة الجسم على الحقيقة؛ فأريد بأحدهما موانع الإيمان - وهي أمور نفسية مجازية - وبالأخرى موانع حقيقية، فجمع بين الحقيقة والمجاز، والمادة والروح، وهو تناظر جميل.
وقد تقول: لقد قال عندما ذكر الصيحة: {وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ}، فذكر الجهة التي يرجعون إليها. وقال هنا: {وَلَا يَرْجِعُونَ}، فلم يذكر جهة الرجوع، فلم ذاك؟
والجواب: أنهم هنا لا يرجعون إلى جهة أصلاً، وذلك أنهم ممسوخون لا يبصرون شيئًا ولا يعلمون شيئًا، فلا يعلمون جهة الأمام ولا جهة الخلف، ولا يعرفون أهلهم من غيرهم، ولا يعرفون مكانًا يرجعون إليه، بل ليس لهم الآن أهل يعرفونهم أو يأنسون بهم، كما أن أهلهم لا يعرفونهم وهم ممسوخون، فلم يذكر أنهم يرجعون إلى جهة، بخلاف أهل الصيحة.
وقد تقول: إنه نفي الاستطاعة عن المضي، ولم ينف الاستطاعة عن الرجوع، فقد قال: {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ} ولا يرجعون ولا يجوز عطف (لا يرجعون) على (المضي)؛ لأن مفعول (استطاع لا يكون جملة، فلم لم يقل: (فما استطاعوا مضيًا ولا رجوعًا) فيكون نفى الاستطاعة عن المضي والرجوع؟.
فنقول: إنه لو قال ذلك لم يدل على الاستمرار والدوام في عدم القدرة على المضي والرجوع، بل قد يكون ذلك منقطعًا فيستطيع بعد مدة على ذلك، كما تقول: (لقد ضربته فما استطاع مشيًا ولا قيامًا) فقد يحتمل أنه استطاع بعد ذلك، فهذا لا يعني الاستمرار والدوام، فقوله: (ولا يرجعون) أفاد دوام عدم الرجوع، فكان ذلك أولى من القول: (ولا رجوعًا).
وقد تقول: لقد علمنا أن قوله: (ولا يرجعون) أفاد عدم الرجوع على الدوام، ولكن لم ينف الاستطاعة على المضي على الدوام، فقد يستطيع بعد ذلك، كما في قولك: (فما استطاع مشيًا ولا قيامًا).
والجواب: كلا، بل إنه أفاد عدم الاستطاعة على المضي على جهة الدوام من أكثر من وجه، ذلك أنه لما نفى الرجوع على الدوام نفي المضي أيضًا على الدوام، فإن الذي يمضي لا بد أن يرجع إلى مكانه، فإن نفي الرجوع نفي المضي أيضًا، ذلك أن الرجوع أيسر من المضي، فإن كان عاجزًا عن الرجوع فهو عن المضي أعجز.
ثم إن قوله: {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} يفيد أنهم لا يمضون ولا يرجعون وأنهم لا يستطيعون ذلك، فدل على أنهم لا يمضون ولا يرجعون.
وقد تقول: ولم لم يقل: (فما استطاعوا مضيًا ولا أن يرجعوا) فيعطف الرجوع على المضي؛ لأنه عند ذاك سيكون مصدرًا مؤولًا وهو يصح عطفه على المصدر الصريح، وعند ذاك يدخل الرجوع في عدم الاستطاعة كالمضي؟.
فنقول: لو قال ذلك لأفاد نفي الرجوع في المستقبل؛ لأن (أن) تصرف الفعل المضارع إلى الاستقبال ولا ينفي عدم الرجوع في الحال، أما قوله: {وَلَا يَرْجِعُونَ} فهو نفي مطلق. هذا علاوة على فوات التناسب في فواصل الآية.
وقد تقول: لقد نفي الرجوع في كل الأحوال سواء كان عن طريق عدم الاستطاعة أم غيرها، فلم لم ينف المضي نفيًا مطلقا كذلك فيقول: (فلا يمضون ولا يرجعون)؟
فنقول: لو قال ذلك لم يدل على عدم القدرة، بل قد يكون ذلك بمحض اختيارهم، ونفي الاستطاعة أولى.
وقد تقول: إذا كانوا لا يستطيعون المضي بأنفسهم فقد يمضيهم أحد فيعينهم على المضي.
فنقول: إنه لم يقل: (فما استطاعوا مضيًا بأنفسهم) بل نفي الاستطاعة على العموم. ثم إنه من ناحية أخرى لا بد لمن يمضيهم أن يعيدهم ويرجعهم، فلما نفى الرجوع بكل سبيل نفى المضي أيضًا بكل سبيل. هذا إضافة إلى أن قوله: {عَلَى مَكَانَتِهِمْ} يدل على أنهم لا يبرحون مكانتهم، فدل ذلك على أنهم لا يمضون ولا يرجعون على كل حال. وهو أولى من كل تعبير، والله أعلم.
جاء في (روح المعاني): "{وَلَا يَرْجِعُونَ}، قيل: هو عطف على (مضيًا) المفعول به لاستطاعوا، وهو من باب (تسمع بالمعيدي خير من أن تراه) (8) فيكون التقدير: فما استطاعوا مضنيًا ولا رجوعًا، وإلا فمفعول (استطاعوا) لا يكون جملة، والتعبير بذلك دون الاسم الصريح قيل للفواصل مع الإيماء إلى مغايرة الرجوع للمضي بناء على ما قال الإمام من أنه أهون من المضي؛ لأنه ينبئ عن سلوك الطريق من قبل، والمضي لا ينبئ عنه، وقيل لذلك مع الإيماء إلى استمرار النفي نظرًا إلى ظاهر اللفظ، ويكون هناك ترق من جهتين إذا لوحظ ما أومأ إليه الإمام، وقيل له مع الإيماء إلى أن الرجوع المنفي ما كان عن إرادة واختيار، فإن اعتبارهما في الفعل المسند إلى الفاعل أقرب إلى التبادر من اعتبارهما في المصدر....
وقيل: هو عطف على جملة (ما استطاعوا)، والمراد: ولا يرجعون عن تكذيبهم لما أنه قد طبع على قلوبهم، وقيل: هو عطف على ما ذكر إلا أن المعنى: ولا يرجعون إلى ما كانوا عليه قبل المسخ، وليس بالبعيد.
وعلى القولين المراد بالمضي الذهاب عن المكان ونفي استطاعته مغن عن نفي استطاعة الرجوع، وأيا ما كان فالظاهر أن هذا وكذا ما قبله لو كان لكان في الدنيا.
وقال ابن سلام: هذا التوعد كله يوم القيامة، وهو خلاف الظاهر" (9).
(1) لسان العرب (مسخ) 4/23.
(2) ينظر فتح القدير 4/367.
(3) ينظر الكشاف 2/592.
(4) لسان العرب (كون) 17/246.
(5) لسان العرب (مكن) 17/300.
(6) الكشاف 2/592.
(7) التفسير الكبير 26/103.
(8) يعني على تقدير (أن) المصدرية في (ولا يرجعون).
(9) روح المعاني 23/46.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 312 إلى ص 319.