عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴿٦٥﴾    [يس   آية:٦٥]
{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65)} في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم والنسائي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه في قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} قال: كنا عند النبي  فضحك حتى بدت نواجذه، قال: أتدرون مم ضحكت؟ قلنا: لا يا رسول الله. قال: من مخاطبة العبد ربه. يقول: يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول: إني لا أجيز علي إلا شاهدًا مني. فيقول: كفى بنفسك عليك شهيدًا، وبالكرام الكاتبين شهودًا، فيختم على فيه ويقال لأركانه: انطقي فتنطق بأعماله، ثم يخلي بينه وبين الكلام. فيقول: بعدًا لك وسحقًا فعنكن كنت أناضل" (1). جاء في (التفسير الكبير): "إن الله تعالى أسند فعل الختم إلى نفسه فقال: (نختم) وأسند الكلام والشهادة إلى الأيدي والأرجل؛ لأنه لو قال تعالى: (نختم على أفواههم وننطق أيديهم) يكون فيه احتمال أن ذلك كان منهم جبرًا وقهرًا، والإقرار بالإجبار غير مقبول، فقال تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} أي باختيارها بعدما يقدرها الله تعالى على الكلام ليكون أدل على صدور الذنب منهم. (الثانية): منها هي أن الله تعالى قال: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} جعل الشهادة للأرجل والكلام للأيدي؛ لأن الأفعال تسند إلى الأيدي، قال تعالى: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} أي ما عملوه، وقال: {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ} {البقرة: 195}، أي (ولا تلقوا بأنفسكم) فإذا الأيدي كالعاملة. والشاهد على العامل ينبغي أن يكون غيره، فجعل الأرجل والجلود من جملة الشهود لبعد إضافة الأفعال إليها" (2). وجاء في (روح المعاني): "ونسبة التكليم إلى الأيدي دون الشهادة لمزيد اختصاصها بمباشرة الأعمال، حتى أنها كثر نسبة العمل إليها بطريق الفاعلية، كما في قوله تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} {النبأ: 40}، وقوله سبحانه: {وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ}؛ وقوله عز وجل: { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} {الروم: 41}، وقوله جل وعلا: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} {الشورى: 30} إلى غير ذلك، ولا كذلك الأرجل، فكانت الشهادة أنسب بها لما أنها لم تضف إليها الأعمال فكانت كالأجنبية، وكان التكليم أنسب بالأيدي لكثرة مباشرتها الأعمال وإضافتها إليها، فكأنها هي العاملة" (3). وقد تقول: لقد قال الله تعالى في سورة (النور): {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {النور: 24}. فجعل الألسنة تشهد عليهم، وهنا ختم على الأفواه، فلم ذاك؟ فنقول: إن السؤال ساقط من أساسه، ذلك أن الذين ذكرهم هنا صنف، والذين ذكرهم في سورة النور صنف آخر، ولا يقتضي أن كل أهل الحشر يختم على أفواههم وأنهم يحاسبون على نمط واحد، بل إن كل صنف يحاسب بما يقتضي الأمر وتكون الشهادة عليه بما ينبغي. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن المقام مختلف، ذلك أنه في سورة النور ذكر قصة الإفك ورمي المحصنات وما لا كته الألسنة من بهتان فكان المناسب أن يستنطقها؛ لأنها هي التي قامت بالجرم وجمع إليها الأيدي والأرجل. ثم إنه تكرر في السورة ذكر الشهادات والشهود، وإن الشهادات إنما تكون بالألسنة، فناسب ذلك أيضا استنطاقها. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} ورمي المحصنات إنما يكون باللسان. قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} ورمي الأزواج إنما يكون باللسان. وقال: {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ} وشهادتها إنما تكون بلسانها. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} والإفك هذا إنما افترته الألسنة. وقال: {لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ}، والشهود إنما يشهدون بألسنتهم. وقال: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ}، وهو ظاهر. وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ}، ورمي المحصنات إنما يكون باللسان، فناسب ذكر الألسنة، بل هو المناسب لا غيره، فلا بد أن يستنطقها ويسألها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن ذكر الختم على الأفواه في (يس) مناسب لما ذكره بعد من تعطيل الأعضاء، فقد قال بعدها: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ}، وقال: {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ}، فناسب ذكر الختم على الأفواه في (يس) دون سورة النور. وقد تقول: ولم جاء بها في سورة النور على هذا الترتيب فبدأ بذكر الألسنة ثم الأيدي ثم الأرجل؟. فنقول: إنه بدأ بذكر الألسنة، لأنها هي التي افترت ورمت بالإفك، وقذفت المحصنات الغافلات المؤمنات، فهي آلة هذا الفعل القبيح. وقدم الأيدي على الأرجل؛ لأن الأيدي ينسب إليها العمل والكسب. قال تعالى: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} {النبأ: 40}، وقال: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} {آل عمران: 182}، وقال: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} {الشورى: 30}. وقد تقول: ولم قال في آية (يس): {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}. وقال في آية النور: {بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}. فنقول: لقد شاع جو الكسب في (يس)، وشاع جو العمل في النور. فقد قال في (يس): {وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ} {يس: 33 – 35}. وقال: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} {يس: 42}. وقال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ} {يس: 47}، وما رزقهم الله کسب. وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} {يس: 71}، وملكهم لها من الكسب. وقال: {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} {يس: 72 – 73}. فسورة (يس) شاع فيها الكسب. أما سورة النور فقد شاع فيها العمل. قال تعالى: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} {النور: 28}. وقال: {لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} {النور: 38}. وقال: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً} {النور: 39}. وقال: {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} {النور: 53}. وقال: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} {النور: 55}. وقال: {وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا} {النور: 64}. فناسب ذكر الكسب في (يس) والعمل في النور. إن آية (يس) هذه مناسبة لما ورد في أول السورة وهو قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ} {يس: 12}. فقوله: {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ} مناسب لقوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} فالكتابة إنما تكون بالأيدي، وإنه كثيرًا ما ينسب التقديم إلى الأيدي كما ذكرنا، نحو قوله: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ}. وقوله: (وآثارهم) مناسب لذكر الأرجل، فإن الآثار كثيرًا ما تكون من أثر الأرجل، وقد قيل فيما قيل: إن (آثارهم) تعني آثار أقدامهم إلى المساجد (4)، فناسبت هذه الآية جو السورة من كل ناحية، والله أعلم. (1) ينظر تفسير ابن كثير 3/577، روح المعاني 23/43. (2) التفسير الكبير 26/101 – 102. (3) روح المعاني 23/42. (4) انظر التفسير الكبير 25/49، البحر المحيط 7/325. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 302 إلى ص 307.