عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ﴿٦٤﴾    [يس   آية:٦٤]
{اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)} اصلوها: أمر من الفعل (صلي النار) أي قاسي حرها (1). والمعنى: قاسوا حر جهنم اليوم بسبب استمراركم على الكفر في الدنيا. وقال: (اليوم) لما ذكر الوعد قبلها فقال: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ}. وكانوا يكذبون بهذا الوعد ويسخرون منه قائلين: {مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فقال لهم: اليوم تنفيذ الوعد الذي كنتم توعدونه فلا تأخير ولا إرجاء. ولذا تردد ذكر (اليوم) في هذه الآيات بإزاء ذكر الوعود فقال: {فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا}، وقال: {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ}، وقال {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، وقال: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}. وقال: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} للدلالة على استمرارهم على الكفر، ولم يقل: (بما كفرتم)، فإن ذلك لا يفيد الدوام والاستمرار. وهو بإزاء قوله تعالى في الآية السابقة: {كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} الذي يدل على استمرار التذكير والوعد. فدوام الوعد من الرسل وأتباعهم قابله دوام الكفر منهم. وقوله: (تكفرون) يفيد الإطلاق، فهو لم يقيد الكفر بأي قيد، فلم يقل مثلاً: (بما كنتم تكفرون بالله أو باليوم الآخر) أو غير ذلك. إن الفعل (تكفرون) يحتمل معنيين: الأول: معنى الكفر الذي هو نقيض الإيمان. والآخر: الكفران الذي هو نقيض الشكر وهو الكفر بالنعم، قال تعالى: {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ} {النحل: 112}، وقال: {وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ} {البقرة: 152}، وكلاهما موجب للنار. ولو قيده لتعين بمعنى واحد دون آخر، فهم كانوا يكفرون بالله وبعموم ما يجب الإيمان به كما كانوا يكفرون بنعمه تعالى. والسياق يقتضي هذا الإطلاق وإرادة المعنيين، ذلك لأنه تقدم ذكر الرسل وما دعوهم إليه فكفروا وكذبوا. كما أنه عدد عليهم نعمه وآياته فكفروا بها وجحدوا. فقد ذكر أنه أحيا الأرض الميتة، وأخرج منها حبًّا منه يأكلون، وجعل فيها جنات من نخيل وأعناب، وفجر فيها من العيون ليأكلوا من ثمره. وذكر أنه خلق لهم أنعامًا هم مالكون لها، وأنه ذللها لهم فمنها ركوبهم ومنها يأكلون، {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ} {يس: 73} فهم كفروا بالله وكفروا بنعمه، فناسب أن يأتي بما يجمع هذين المعنيين فأطلق ولم يقيد. جاء في (التفسير الكبير) في قوله: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}: "وفي هذا الكلام ما يوجب شدة ندامتهم وحسرتهم من ثلاثة أوجه: (أحدها): قوله: (اصلوها)، فإنه أمر تنكيل وإهانة، كقوله تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ} {الدخان: 49}. (والثاني): قوله: (اليوم) يعني العذاب حاضر، ولذاتك قد مضت، وأيامها قد انقضت، وبقي اليوم العذاب. (الثالث): وقوله تعالى: {بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فإن الكفر والكفران ينبئ عن نعمة كانت يكفر بها، وحياء الكفور من المنعم من أشد الآلام، ولهذا كثيرًا ما يقول العبد المجرم: افعلوا بي ما يأمر به السيد ولا تحضروني بين يديه" (2). وقد تقول: لقد أوجز ههنا فقال: {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ}، وفضل في سورة الطور وأطال فقال: {اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} {الطور: 16} فلم ذاك؟. فنقول: إن كل موطن اقتضى ما ورد فيه، فإن المقام في (يس) مقام إيجاز، وفي الطور مقام تفصيل. فقد قال في (يس): {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ولم يزد على ذلك. في حين قال في الطور: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. ومن النظر في النصين يتضح ما يأتي: 1- أنه فصل في ذكر صفات أصحاب جهنم وعقوباتهم في الطور، وذكر ما لم يذكره في (يس). فإنه لم يزد في (يس) على قوله في أهل النار: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا}. في حين قال في الطور: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} 2- لما فصل في ذكر صفاتهم وعقوباتهم ما لم يفصله في (يس) أكثر من تبكيتهم وتقريعهم فقال: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}. 3- أنه قال في (يس): {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} فذكر الضلال على العموم. في حين ذكر في الطور أنهم يكذبون بالنار فقال: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}، فلما كان التكذيب واقعًا على النار ناسب أن يفصل القول فيها ويطيل الكلام عليها وأن يبصرهم بها ويبكتهم عليها فقال: {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} 4- إن المذكورين في الطور أكثر ضلالًا وكفرًا من المذكورين في (يس)، ذلك أنه قال في (يس): {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} والضال قد يكون كافرًا، وقد يكون لا يزال في دائرة الإسلام إلا أنه قد يعمل عمل أهل الضلال في أمر ما كالزنى وشرب الخمر وغيرها من الموبقات، فصاحب هذه المنكرات ضال غير أنه ليس كافرًا. قال تعالى في تقسيم المواريث: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} {النساء: 176}، و(أن تضلوا) ليس معناه: أن تكفروا. أما في الطور فقد قال: {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ... هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14)}، فذكر: 1- أنهم مكذبون على العموم {فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}. 2- وأنهم في خوض يلعبون. 3- أنهم يكذبون بالنار {هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ}. فناسب أن يزيد في عقوباتهم ويفصل في ذكرها. فناسب كل تعبير السياق الذي ورد فيه. (1) ينظر لسان العرب (صلو) 1/137. (2) التفسير الكبير 26/101. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 298 إلى ص 302.