عرض وقفة أسرار بلاغية
{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)}
(الجبل) الخلق الكثير (1)، والأمة العظيمة (2). فقوله: {أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا} يعني أنه أضل خلقًا كثيرًا. ثم وصفه مع ذلك بالكثرة، فدل ذلك على تعاظم الجموع وكثرتها، فدل ذلك على المبالغة في الكثرة. ولذا لا يسد قولنا: (خلقًا كثيرًا) مسد (جب كثيرًا)، فإن قولنا: (خلقًا كثيرًا) يعني (جبلًا)، ثم وصف الجبل بالكثرة للدلالة على الكثرة الكاثرة ممن أضلهم الشيطان.
إن مادة (جبل) التي أخذ منها لفظ (الجبل) تجمع ثلاثة معان:
1- الكثرة كما ذكرنا. يقال: حي جبل، أي كثير.
2- الغلظة والشدة، ومنه الجبل لما عظم من أوتاد الأرض وطال. ويقال: (أجبل الشاعر) إذا صعب عليه القول كأنه انتهى إلى جبل منه.
والجبل: الضخم.
3- القبح، يقال: أنت جَبِل وجَبْل، أي قبيح (3).
ولعله اختار هذه اللفظة دون (الخلق) ليجمع هذه المعاني كلها.
فإن ذلك يدل على الكثرة كما ذكرنا، ويدل على أن هؤلاء الذين أضلهم الشيطان إنما هم عتاة ظلمة غلاظ الطباع قساة القلوب كحجارة الجبل أو أشد قسوة لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة، متجبرون على خلق الله ولا سيما الضعفاء منهم.
وقد وصف الله سبحانه هؤلاء النمل بالقسوة فقال: {فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} {الأنعام: 43}، وقال: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} {الحديد: 16}، وقال: {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} {الحج: 53}، وقال: {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} {الزمر: 22}.
ومما يدل على ما ذكرناه ما فعله أصحاب القرية بالرسل وبمن آمن بهم مما ذكره في السورة، فاختيار لفظ (الجبل) مناسب لما ورد في السورة أيضًا.
كما يدل ذلك على قبح بواطنهم وسوء معتقدهم وأفعالهم؛ فإن عبادة الشيطان تدع القلوب سوداء، والنفوس مظلمة قبيحة، بخلاف عبادة الله؛ فإنها تنير القلوب وتزكي النفوس وتزين الباطن، فجمع بقوله: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} هذه المعاني كلها، ولا تؤدي كلمة (خلق) ما أدته كلمة (جبل).
هذا إضافة إلى أن جرس الكلمة وبناءها يوحي بالثقل، فإن كلمة (جبل) ثقيلة ثقل الضلال وضغطه على النفوس، وثقل الغلظة والشدة، وثقل القبح على النفوس.
لقد بين الله في هذه الآية عداوة الشيطان الظاهرة والمستمرة، فإنه لم يكتف بإغواء أبيهم آدم وإخراجه من الجنة، بل أضل من أبنائه خلقًا كثيرًا، أفلا يدعو هذا إلى الاتعاظ وأخذ الحذر منه؟.
وقال: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} دون (أفلم تكونوا تعلمون)؛ لأن من عنده مسكة من العقل ابتعد عن طريق الشيطان وأخذ حذره منه، حتى لو لم يكن عنده من العلم شيء، فإن وجود العقل كاف للابتعاد عن الضرر ومصدره.
وجاء بالفاء في قوله: {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} لإرادة السبب، أي أليس ذلك سببًا كافيًا للبعد عنه والحذر منه؟
واختيار لفظ (الإضلال) أنسب شيء مع قوله: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ}؛ لأن السالك يريد أن يسلك طريقًا مستقيمًا، والإضلال إنما هو إبعاد عن الطريق المستقيم.
فالله يهدينا إلى الصراط المستقيم، والشيطان يضلنا عنه، فإيهما أجدر بالعبادة؟
جاء في (روح المعاني): "{وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا} استئناف مسوق لتشديد التوبيخ وتأكيد التقريع ببيان عدم اتعاظهم بغيرهم إثر بيان نقضهم العهد، فالخطاب لمتأخريهم الذين من جملتهم كفار خصوا بزيادة التوبيخ والتقريع لتضاعف جناياتهم.
وإسناد الإضلال إلى ضمير الشيطان لأنه المباشر للإغواء...
{أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} عطف على مقدر يقتضيه المقام، أي أكنتم تشاهدون آثار عقوباتهم فلم تكونوا تعقلون أنها لضلالهم، أو فلم تكونوا تعقلون شيئًا أصلاً حتى ترتدعوا عما كانوا عليه كيلا يحيق بكم العذاب الأليم" (4).
(1) لسان العرب (جبل) 13/104، تفسير ابن كثير 3/576.
(2) البحر المحيط 7/344.
(3) انظر لسان العرب (جبل) 13/104 – 105.
(4) روح المعاني 23/41.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 293 إلى ص 296.