عرض وقفة أسرار بلاغية
{وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)}
أي ما نهيتكم عنه من عبادة الشيطان وأمركم بعبادتي إنما هو صراط مستقيم لا صراط أقوم منه، وكل طريق آخر هو غير مستقيم. وتنكير الصراط لا يعني أن ثمة طرقًا أخرى مستقيمة. ولا يعني أنه أحد الطرق المستقيمة بل المقصود وصفه بالاستقامة. فقد ينكر الشيء وهو واحد ولا شيء معه كقوله تعالى: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}، وقوله: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} {فصلت: 43}، إذ المقصود وصف الرب بالرحمة ووصف المنزل بأنه حكيم حميد.
وكذلك ههنا فإن المقصود وصف الطريق بالاستقامة، فالاستقامة هي المطلوبة على كل حال.
جاء في (روح المعاني): "وفيه أن المطلوب الاستقامة والأمر دائر معها وقليلها كثير" (1).
وقيل: إن التنكير للمبالغة والتعظيم (2).
جاء في (الكشاف): "{هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} يريد: صراط بليغ في بابه، بليغ في استقامته، جامع لكل شرط يجب أن يكون عليه.
ويجوز أن يراد: هذا بعض الصرط المستقيمة توبيخًا لهم عن العدول عنه، والتفادي عن سلوكه، كما يتفادى الناس عن الطريق المعوج الذي يؤدي إلى الضلالة والتهلكة. كأنه قيل: أقل أحوال الطريق الذي هو أقوم الطرق أن يعتقد فيه كما يعتقد في الطريق الذي لا يضل السالك، كما يقول الرجل لولده وقد نصحه النصح البالغ الذي ليس بعده: هذا فيما أظن قول نافع غير ضار، توبيخًا له على الإعراض عن نصائحه" (3).
وذكر الصراط إشارة إلى أن الإنسان سالك مجتاز، ولذا كانت به حاجة إلى الطريق المستقيم يسير عليه في الحياة الدنيا ويجتاز منه إلى الآخرة مفضيًا إلى دار السعادة.
فالإنسان لابد له من الصراط المستقيم يسير على وفقه في الحياة لئلا يضل ويشقى ويفضي به إلى جنان النعيم عند الرحمن الرحيم
جاء في (التفسير الكبير): "وفي ضمن قوله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ} إشارة إلى أن الإنسان مجتاز، لأنه لو كان في دار إقامة فقوله (هذا صراط مستقيم) لا يكون له معنى، لأن المقيم يقول: وماذا أفعل بالطريق وأنا من المقيمين؟" (4).
وقدم النهي عن عبادة الشيطان على الأمر بعبادته سبحانه لأكثر من سبب:
منها: أن عبادة الشيطان تفسد عبادة الله، فإن عبادة الله إذا داخلتها عبادة الشيطان فسدت وحبط العمل. فعبادة الله مع عبادة الشيطان شرك لا تنجي صاحبها من النار ولا تدخله الجنة.
إن عبادة الشيطان مع عبادة الله تضر، وعبادة الله مع عبادة الشيطان لا تنفع. وعلى أية حال فعبادة الشيطان تقود إلى النار حتى لو اقترنت بعبادة الله، فنهى عما يوقع الفرد في النار ولا ينفع معه عمل.
ومن عبادة الشيطان عبادة الأصنام سواء كانوا حجرًا أم بشرًا، فإن عبادة الأصنام إذا اقترنت بعبادة الله أفسدتها وقادت صاحبها إلى النار.
ومنها: أن ترك عبادة الشيطان من باب دفع الضرر، وأن عبادة الله من باب جلب المنفعة ودفع الضرر. غير أنها لا تنفع ولا تدفع إلا إذا تركت عبادة الشيطان، فعبادة الله لا تؤتي ثمرتها إلا بترك عبادة الشيطان، فالنهي عن عبادة الشيطان مقدم لتؤدي عبادة الله غايتها وتؤتي أكلها.
ومنها: أن تنفيذ النواهي أيسر من تنفيذ الأوامر، فإن الإنسان يستطيع أن يكف نفسه عن أشياء كثيرة، لكنه قد لا يستطيع القيام بأعمال كثيرة. فالكف عن المحارم أيسر من القيام بالطاعات، ولذا قال له : "ما أمرتكم بشيء فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فانتهوا عنه» أو كما قال.
فالإنسان يستطيع أن يترك العبادات ولكنه يثقل عليه فعلها.
فبدأ بما هو أيسر عليه.
ومنها: أنك إذا وجدت إنسانًا ضالاً عن الطريق فإنك لابد أن توقفه عن المضي فيه أولا ثم تعيده إلى الطريق المستقيم، وعبادة الشيطان ضلال فلا بد من تركها أولًا ليخلو القلب إلى الله.
ومنها: أنه وجد أكثر بني آدم يعبدون الشيطان، كما قال تعالى: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} {الأنعام: 116}، فنهاهم عما هم فيه لتستقيم عبادتهم لله وتصح، وذلك نحو أن تجد شخصًا ساقطًا في مستنقع أو راكسًا في الوحل فلابد أن تخرجه مما هو فيه أولًا ثم تقوم بتنظيفه بعد ذلك.
وقيل أيضًا: إن "تقديم النهي على الأمر لما أن حق التخلية التقدم على التحلية.
قيل: وليتصل به قوله تعالى: {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} بناء على أن الإشارة إلى عبادته تعالى لأنه المعروف في الصراط المستقيم" (5).
(1) روح المعاني 23/41.
(2) روح المعاني 23/40.
(3) الكشاف 2/592.
(4) التفسير الكبير 26/99.
(5) روح المعاني 23/40.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 290 إلى ص 293.