عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَن لَّا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ﴿٦٠﴾ ﴾ [يس آية:٦٠]
{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60)}
بعد أن خاطب المجرمين وأمرهم بالانفراد عن المؤمنين خاطب عموم بني آدم وذكرهم بما عهد إليهم من ترك عبادة الشيطان وأمرهم بعبادة الله وحده؛ لأن عاقبة المجرمين تلك إنما كانت بسبب عبادة الشيطان وعدم طاعة الله.
ومعنى (ألم أعهد) - كما يقول المفسرون - ألم أوص، والعهد: الوصية، وعهد إليه إذا وصاه (1).
والحقيقة أن ثمة اختلافًا بين العهد والوصية، فإن العهد أقوى من الوصية، ذلك أن العهد يكون بمعنى الموثق واليمين يحلف بها الرجل (2).
والفرق بين الذي يعهد والذي يوصي أن العاهد هو صاحب الشأن، أما الموصي فقد لا يكون صاحب الشأن، فقد يقول لك صديقك: أوصيك بفلان خيرًا، وأوصيك ألا تشارك فلانًا في تجارة، وأوصيك باستشارة فلان وأخذ نصيحته. فهذه وصية من باب النصح وليس الموصي صاحب الشأن، بخلاف ما لو قال: أعهد إليك أمر فلان، أي أنزعه من عهدتي إلى عهدتك، فتكون أنت مسؤولًا عنه.
ومعنى عهد إليه: كلفه وحمله الأمر وجعله مسؤولا عنه. وليست (وصى) كذلك. فالعاهد هو صاحب الشأن الذي بيده الأمر.
ومن هذا يتضح أن العهد أقوى من الوصية.
ولم يسند فعل العهد في القرآن الكريم إلى غير الله تعالى، بخلاف فعل الوصية فإنه أسند إلى الله وإلى غيره، قال تعالى: {وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ} {البقرة: 125}.
وقال: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آَدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} {طه: 115}.
وقال: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ} {يس: 60}.
وقال: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ} {آل عمران: 183}.
في حين قال: {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ}{البقرة: 132}.
وقال: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} {النساء: 12}.
وقال: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} {النساء: 131}.
وقد أسند هذا العهد إلى نفسه - شأن غيره من أفعال العهد - الأهمية هذا الأمر وليحملوه محمل الجد والطاعة والعمل به على أتم حال. فلم يبن الفعل للمجهول ولم يسنده إلى الرسل، فلم يقل: (ألم يعهد إليكم) أو (ألم يعهد إليكم رسلي) ذلك أن هذا الأمر إنما هو غاية ما خلق له الثقلان، فإنهم لم يخلقوا إلا لعبادته سبحانه، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} {الذاريات: 56}.
وعهده إليهم إنما جاء على ألسنة الرسل بما أنزله عليهم سبحانه (3).ونداؤهم ببني آدم إشارة إلى عداوة الشيطان لأبيهم آدم وإخراجه من الجنة، وذلك ليذكروا ويأخذوا حذرهم. ونظير ذلك أن تذكر شخصًا أوقع شخص آخر بأبيه مصيبة فادحة عمدًا من شدة بغضه له، ثم جاء يشارك ابنه في مال فينصحه ناصح محذرًا فيقول له: يا ابن فلان، تذكيرًا له وتحذيرًا.
جاء في (روح المعاني): "والنداء بوصف البنوة لآدم كالتمهيد لهذا التعليل والتأكيد لعدم جريهم على مقتضى العلم، فهم والمنكرون سواء" (4).
(1) ينظر الكشاف 2/59، التفسير الكبير 26/96.
(2) لسان العرب (عهد) 4/305.
(3) ينظر التفسير الكبير 26/96، روح المعاني 23/40، الكشاف 2/591.
(4) روح المعاني 23/40.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 286 إلى ص 288.
* * *
{أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ}
أي لا تطيعوه فيما يوسوس به إليكم ويزينه في قلوبكم (1).
وعبر عن ذلك بالعبادة لا بالطاعة لأن العبادة ليست مجرد الطاعة، فأنت قد تطيع شخصًا ولا تعبده كطاعة أولي الأمر وطاعة الوالدين وغيرهم. ثم إن الطاعة قد تكون عن طريق الإكراه، فقد يكرهك من ينفذ أمره على الطاعة ويحملك عليها، وهذه لا تسمى عبادة، وإنما العبادة تعني الطاعة مع الخضوع والاستسلام والانقياد للأمر والتذلل (2).
جاء في (روح المعاني): "والمراد بعبادة الشيطان طاعته فيما يوسوس به إليهم ويزينه لهم عبر عنها بالعبادة لزيادة التحذير والتنفير عنها ولوقوعها في مقابلة عبادته عز وجل" (3).
وعبادة الشيطان لا تختص بالسجود له أو ذكره على سبيل التعظيم أو إقامة الشعائر له، وإنما تكون بتنفيذ مقاصده ومراده واتباع خطواته، فكل ذلك عبادة له، وكل عبادة لغير الله إنما هي عبادة للشيطان، ولذلك سمي الله سبحانه عبادة الأصنام عبادة للشيطان، قال تعالى مخبرًا عن سيدنا إبراهيم عليه السلام: {إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42)... يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا} {مريم: 42 – 44}.
فقال له أبوه: {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا} {مريم: 46}.
فجعل عبادة الأصنام عبادة للشيطان، يدل على ذلك قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ}، ورد أبيه عليه {أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ}.
(1) ينظر الكشاف 2/591، التفسير الكبير 26/96.
(2) ينظر لسان العرب (عبد) 4/260 – 263.
(3) روح المعاني 23/40.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 288 إلى ص 289.
* * *
{إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}
تعليل للنهي، فإن ذلك يوجب الابتعاد منه لا عبادته واتباعه.
ومعنى (مبين) ظاهر العداوة مظهر لها، فإن معنى (أبان) ظهر وأظهر. تقول: (أبان الرجل) أي بان أمره وظهر، و(أبان الرجل) أظهر أمره وبينه. فإن الشيطان ظاهر العداوة ومظهر لها، فكيف يعبده الناس؟!.
إن العدو قسمان:
- قسم مظهر لعداوته مبين لها.
وقسم مخف لها غير مبين.
وإن العداوة قسمان:
۔ عداوة ظاهرة بينة وإن أراد صاحبها إخفاءها.
- وعداوة خفية.
وإن الشيطان عدو ظاهر العداوة ليس في عداوته خفاء، وإنه مظهر لها غير مخفيها. وقد أظهر هذه العداوة وذكرها لربه صراحة: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآَتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} {الأعراف: 16 – 17}.
وقال: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ} {النساء: 119}.
فكيف يعبد من دون الله مع كل ذلك؟
وقد قدم الجار والمجرور (لكم) فقال: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} ولم يقل: (إنه عدو مبين لكم) وذلك لغرض الاختصاص، فهو عدو لنا خاصة، وكل همه أن يضلنا ويبعدنا عن طاعة ربنا فيدخلنا النار.
ولو قال: (إنه عدو مبين لكم) لكان المعنى أن الإبانة لنا، أما العداوة فليست لنا نصًّا بل ربما كانت لنا أو لغيرنا.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 289 إلى ص 290.