عرض وقفة أسرار بلاغية
{سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)}
أي يحييهم رب العزة قائلاً: (سلام عليكم).
قيل: ويحتمل أن يكون معنى (سلام) ههنا: خالصًا لهم لا شوب فيه.
أي ولهم ما يدعون خالصًا لهم على أن "(ما يدعون): مبتدأ، وخبره (سلام)، بمعنى ولهم ما يدعون سلام خالص لا شوب فيه" (1)، قال ذلك رب العزة قولاً يعدهم به. وهذا معنى قوله: {قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} (2).
وقد تقول: ولم لم يقل (سلام عليكم)؟
والجواب: أنه لم يقل ذلك ليشمل المعنيين: التحية وأنه خالص لهم.
ولو قال: (سلام عليكم) لم يحتمل إلا معنى واحدًا وهو التحية.
وقد تقول: قال ههنا: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}.
وقال في فصلت: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} {فصلت: 32}.
فما الفرق؟
والجواب: أننا ذكرنا أن آية (يس) فيمن هو في الجنة، وأن آية فصلت فيمن لم يدخلها بعد وإنما هو يبشر بها.
فقال في (فصلت): (نزلًا) لأن النزل ما هيئ للضيف إذا نزل عليه من طعام ومكان، ومعنى: "أقمت لهم نزلًا: أي أقمت لهم غذاءهم وما يصلح معهم أن ينزلوا عليه" (3).
ومعنى ذلك: أن هذا ما أعده لهم عند نزولهم في الجنة.
وقال: {مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} فذكر المغفرة لأن الحساب لم يحصل بعد وهم يخافون من ذنوبهم ويرجون أن يغفرها الله لهم، فطمأنتهم الملائكة بقوله: {نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ}
أما آية (يس) فإنها في أهل الجنة وهم يتنعمون بها وقد انتهى الحساب وليس ثمة معاصي أو ذنوب يرجون مغفرتها فقال: {سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} فذكر كلمة (رب) لأنها الأنسب، فالرب هو المربي وهو متولي أمرهم وراعي أحوالهم يرعاهم ويكرمهم وينعمهم. ووصفه بالرحمة لأن رحمته مما يحتاجون إليها البتة، فالجنة هي مستقر رحمته، فلا تنقطع رحمته عنهم أبدًا.
لقد جمع الله في هذه الآيات القليلة كل أسباب السعادة والنعيم، وأبعد عنهم كل دواعي الضيق والبرم والملل.
1- فقد ذكر أن أصحاب الجنة في شغل. فأبعد عنهم الملل الحاصل من الفراغ والبرم الذي يصدر عنه، فقد يكون الفراغ مملاً يبرم الإنسان به.
2- وليعلم أن هذا الشغل ليس من الشغل المضني الممل المزعج الذي يرهق صاحبه قال: (فاكهون) أي متنعمون متمتعون.
فأبعد الملل من الفراغ، والضيق والبرم من الشغل.
3- وأبعد عنهم وحشة الوحدة التي تقتل الإنسان وتدخل الكآبة عليه مهما كان النعيم الذي يتقلب فيه فقال: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ}، فذكر أحب الصحبة إليهم وألصقها بهم وهي التي يفر الإنسان إليها في الأخير. ففي آخر المطاف يترك المرء كل صحبة ثم يعود إلى زوجه.
وإذا قصد بالأزواج أمثالهم وقرناءهم فذلك يعم الجميع.
4- وذكر حسن المكان وجماله فقال: {فِي ظِلَالٍ} مما يدل على الشجر، وهو يعم أيضًا أنواع الظلال ولا يقتصر على ظل من نوع واحد أو ما يكون من شيء واحد.
5- ثم ذكر بهجة المكان ونعيمه وأن فيه أسباب الراحة فقال: {عَلَى الْأَرَائِكِ}.
6- وذكر أهنأ الجلسات والهيئات وأروحها مما يدل على تمام الراحة فقال: {مُتَّكِئُونَ}
7- وذكر فيها ألذ ما يؤكل من الطعام وأهنأه وأدل على سعة العيش وهي الفاكهة.
۸- ثم لئلا يظن أن ليس لهم إلا الفاكهة ذكر أن لهم ما يتمنون وما يطلبون.
9- ثم ذكر الأمن والسلام العام، فإن الخوف من فقدان هذا النعيم أو تغيره أو حصول شيء مما يكره ينغص العيش فذكر السلام.
10 - وقد أطلق السلام ولم يقيده بشيء فشمل كل معاني السلام.
11- ثم أبعد عنهم المجرمين وفصلهم منهم فقال: {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} {يس: 59}؛ أي انفصلوا وكونوا على حدة فكان أمن وسلام مطلق.
12- وقال: {مِنْ رَبٍّ} أي راع لهم متوك أمرهم.
13- ووصفه بالرحمة قائلا: (رحيم) للحاجة إلى الرحمة على كل حال.
فكانت السعادة في المكان والخلان، وتحقق الأماني والأمان، ورعاية الرحيم الرحمن.
اللهم اجعلنا منهم يا أرحم الراحمين.
(1) الكشاف 2/591، وينظر فتح القدير 4/365.
(2) ينظر الكشاف 2/591.
(3) ينظر لسان العرب (نزل) 14/181.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 281 إلى ص 284.