عرض وقفة أسرار بلاغية

  • ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴿٤٥﴾    [يس   آية:٤٥]
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)} أي: إذا قيل لهم احذروا ما تقدم من موجبات العذاب وما يأتي فيما بعد أعرضوا. وقيل في معنى قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} وجوه منها: أن قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} يعني ما مضى من الذنوب، {وَمَا خَلْفَكُمْ} ما بقي منها (1). أو ما تقدم من ذنوبكم وما تأخر. وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} الوقائع التي خلت من مثل الوقائع التي ابتليت بها الأمم المكذبة بأنبيائها. {وَمَا خَلْفَكُمْ}: من أمر الساعة (2)، وعذاب الآخرة (3). وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي ما بين أيديكم من الآفات والنوازل فإنها محيطة بكم وما خلفكم منها. وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} ما ظهر لكم، {وَمَا خَلْفَكُمْ}: ما خفي عنكم (4). وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} من أنواع العذاب مثل الغرق والحرق وغيرهما المدلول عليه بقوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ}. {وَمَا خَلْفَكُمْ} من الموت الطالب لكم، إن نجوتم من هذه الأشياء فلا نجاة لكم معه، يدل عليه قوله تعالى: {وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} (5). وقيل: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}: الآخرة فإنهم مستقبلون لها، {وَمَا خَلْفَكُمْ}: الدنيا فإنهم تاركون لها (6). هذه أشهر الأقوال التي قيلت فيها. ويمكن تلخيصها بما يأتي: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ}: 1- ما مضى من الذنوب وما تقدم منها. ۲ - الوقائع التي أوقعها الله بالأمم السالفة المكذبة. 3 - الآفات والنوازل المحيطة بكم وأنواع العذاب مثل الغرق والحرق. 4- ما ظهر لكم. 5- الاخرة {وَمَا خَلْفَكُمْ}: ١- ما تأخر من الذنوب أو ما بقي منها. ۲- أمر الساعة وعذاب الآخرة. ٣- النوازل والآفات التي تنزل فيما بعد. 4- الموت الطالب لكم. 5- ما خفي عنكم. 6- الدنيا. وأكثر الأقوال على أن {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} يعني ما تقدم من هذه الأمور {وَمَا خَلْفَكُمْ} يعني ما يأتي منها فيما بعد، غير أنه نسب إلى مجاهد القول بعكس ذلك، وهو أن {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} يعني الآخرة وعذابها، {وَمَا خَلْفَكُمْ} يعني الدنيا وما فيها. وعلى أية حال فإن قوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ }يشمل ما ينبغي أن يتقي من أمور الدنيا والآخرة على قول مجاهد أو غيره، غير أن الاستعمال القرآني يؤيد ما ذهب إليه القائلون أن {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} يعني ما تقدم من الأمور المذكورة، أو ما هو واقع فعلا في حين الإخبار، {وَمَا خَلْفَكُمْ} يعني ما لم يأت بعد وهو المستقبل. قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ} {المائدة: 48}، أي مصدقًا لما تقدمه من الكتاب. وقال: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آَثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآَتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ} {المائدة: 46}. وقال: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ} {آل عمران: 3 - 4}. أي ما تقدمه من الكتب. فجعل (ما بين يديه) لما تقدم. وقال: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ }{البقرة: 66}. قيل: "أي لمعاصريهم ومن خلفهم... {وقيل} أيضًا: لما بحضرتها من القرى - أي أهلها - وما تباعد عنها" (7). وقال: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} {آل عمران: 169 - 170}. فاستعمل {مِنْ خَلْفِهِمْ} للذين يأتون بعدهم. وقال: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} {النساء: 9}. وقال: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} {الأنفال: 57}. فاستعمل {مِنْ خَلْفِهِمْ} لمن يكون بعدهم، أي لمن يأتي في المستقبل. ونحو هذا استعمال (من وراء) فقد يستعمل لما يكون بعد، أي في المستقبل. قال تعالى: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي} {مريم: 5}، أي: بعد وفاتي وقال تعالى في زوج إبراهيم عليه السلام: {وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} {هود: 71}. أي من بعد إسحاق يعقوب. ومن هذا يترجح أنه يعني بقوله: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ} أي ما تقدم مما ينبغي أن يتقي، أو ما هم يفعلونه في الحال، ويعني بقوله: (ما خلفكم) ما ينبغي أن يتقي في المستقبل، وأعظم ما ينبغي أن يتقي في المستقبل هو الساعة وعذاب الآخرة. ويبدو أن هذا هو أظهر ما فهموه من النص ولذا قال: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي متي يقع ما تعدوننا به من أمر الساعة والآخرة؟. ويتضح مما ذكرت أنه لا يعني بقوله: {مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ }أمرًا معينًا، وإنما هو عام في كل ما ينبغي أن يتقي، ما ذكر وما لم يذكر. جاء في (روح المعاني): "وحاصل الأمر على ما قيل: اتقوا العذاب أو اتقوا ما يترتب العذاب عليه" (8). وإن كان أظهر ما يدل عليه قوله: (وما خلفكم) الساعة وعذاب الآخرة كما ذكرت. لقد قال: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} فجاء بـ (إذا) ولم يأت بـ (إن) وذلك ليدل على أن هذا القول ليس أمرًا افتراضيًا بل هو أمر حاصل، فإنه قيل لهم هذا الأمر كثيرا، فإن (إذا) تستعمل في اللغة لما هو مقطوع بحصوله ولما يكثر حصوله، وذلك نحو قوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} {التوبة: 5} فإن الأشهر الحرم لا بد أن تنسلخ. وقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} {الجمعة: 10}، فإن الصلاة لا بد أن تنقضي. فهذا من المقطوع بحصوله. ومن الكثير حصوله قوله: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} {النساء: 86}. ولا تستعمل (إذا) لما هو أمر افتراضي محض لا يتحقق في الواقع. أما (إن) فقد تستعمل لعموم الافتراضات لما يقع ولما لا يقع، ولما لا يمكن أن يقع، وذلك نحو قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} {القصص: ۷۲}، وقوله: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} {الزخرف: 81}. فجاء بـ (إذا) في الآية ليدل على أن هذا القول قيل لهم كثيرًا. ومعنى هذا أنه لم ينفع معهم النصح والتبليغ على كثرتهما وتطاولهما، إذ المفروض أن كثرة النصح والتبليغ تؤثر في النفوس، وهؤلاء لا يؤثر فيهم النصح وإن كثر. ولا تفيد (إن) هذا المعنى. ومن الملاحظ أنه لم يذكر جواب الشرط في الآية؛ ذلك لأنه معلوم مما بعده وهو قوله تعالى: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} فكأنه قال: وإذا قيل لهم اتقوا أعرضوا (9)، فحذفه لدلالة ما بعده عليه. وقد يكون الحذف إشارة إلى أمر آخر علاوة على ما ذكر، وهو أنهم إذا قيل لهم ذلك لم يجيبوا لأن الكلام لا يعجبهم ولا يروق لهم فيسكتون عن الجواب، كما يفعل أحدنا إذا سمع كلامًا لا يعجبه ولا يروق له فيسكت عنه ولا يجيب. ومن الملاحظ أيضًا أن الآية بنيت على الإيجاز، يدل على ذلك أنه بنى القول للمجهول فلم يذكر القائل، وبنى فعل الرحمة للمجهول لأن الراحم معلوم، وحذف جواب الشرط لأنه مدلول عليه بما بعده كما ذكرنا. واختار فعل الرحمة فقال: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لأنه لا ينجيهم من ذلك إلا رحمة الله، كما قال تعالى: {قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} {هود: 43}، ولمناسبة ما قبله وهو قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} فذكر أنهم لا ينجيهم من المكروه والمحذور إلا رحمة الله. وقوله: (اتقوا) يعني: احذروا واحفظوا أنفسكم منه، ذلك أن الذي يتقى هو مخوف ومحذور، فلا تقول لأحد ما: (اتق هذا) إلا إذا كان الشيء مخوفا ومحذورا، عليه أن يحذره ويحفظ نفسه منه، ولا يقيه من هذا المحذور إلا الاتقاء ورحمة الله. ومعنى الاتقاء هو اتخاذ الأسباب لدفع المحذور. لقد ذكر أمرين للنجاة من المحذور: أحدهما: يتعلق بالإنسان، وهو ما يتخذه من الأسباب لدفع ذلك المحذور وحفظ نفسه منه وهو الاتقاء. والآخر: متعلق بمشيئة الله تعالى ورحمته. والتقوى مدعاة لرحمة الله تعالى. فاتخاذ الأسباب مرجو أن يدفع الله بها المحذور ولا تدفع المحذور وحدها، إذ من المحتمل أن يقع المحذور مع اتخاذ الأسباب. فالسبيل الدفع المحذور هو اتخاذ الأسباب ورجاء رحمة الله. ولذا قال: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فجاء بـ (لعل) الدالة على الرجاء، ولم يقل: (لترحموا) لأن الانتقاء مرجو معه رحمة الله ولا يدفع المحذور وحده. ولو قال: (اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم لترحموا) لجعل الدفع حاصلاً بالأسباب وحدها، فلذا جيء بـ (لعل) التي تفيد الترجي لكيلا يتكل الإنسان على الأسباب وينسى ربه فتكون معبودة له. وقال: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ولم يقل: (عسى أن ترحموا)، ذلك أن قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} يفيد الحال والاستقبال، فإن الفعل المضارع المجرد من حرف الاستقبال يحتمل الحال والاستقبال. أما القول: (عسى أن ترحموا) فإنه يفيد الاستقبال ولا يفيد الحال؛ لأن (أن) تصرف الفعل إلى المستقبل، فتكون الرحمة في المستقبل ولا تكون في الحال. في حين أن الرحمة تراد في الحال والاستقبال وفي كل الأزمان، فكان ما قاله أولى. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن قوله: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ذكر فيه ضمير الخطاب مرتين وهما: الضمير (كم) في (لعلكم)، والواو في (ترحمون). في حين أن قولنا: (عسى أن ترحموا) ذكر فيه ضمير الخطاب مرة واحدة فكان الإسناد في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أقوى وأكد أن الإسناد تكرر، فقد أسند إليهم وقوع الرحمة بهم مرتين. ومن ناحية ثالثة أن قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} جملة اسمية، وقولنا (عسى أن ترحموا) جملة فعلية، والجملة الاسمية أقوى من الفعلية كما هو معلوم، فكان الرجاء في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} أقوى. ثم إنه المناسب لقوله تعالى: {اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ} فقد أمرهم باتقاء ما تقدم وما هو حاضر وما هو آت، فكان الأمر عامًا شاملاً للأزمنة كلها، فكان المناسب أن تكون الرحمة عامة تشمل الأزمنة كلها، حاضرها ومستقبلها، فجاء بالفعل المضارع مجردًا من (أن) ليشمل ذلك كله. ولو قال: (عسى أن ترحموا) لكان خاصًا بالمستقبل، فناسب العام العام، فارتبطت الآية بما قبلها وما بعدها وهو قوله: {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آَيَةٍ مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ}. وقد تقول: ولكن ورد ترجي الرحمة بعسى وذلك في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} {الإسراء: 8}، فما الفرق؟ فنقول: إن كل تعبير أنسب في مكانه، ذلك أن قوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ} خاص بأمر مستقبل، ذلك أن الخطاب فيه موجه إلى بني إسرائيل وقد قال ذلك بعد ما ذكر أنهم يفسدون في الأرض مرتين وأنهم يعلون علوًّا كبيرًا. ثم ذكر أنهم سيلحقهم الدمار بعد المرة الثانية. وقال بعد ذلك: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا} فهذا الرجاء بعد المرة الثانية (10) وهو مستقبل، فناسب ذلك (عسى). فاختلف الأمران. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أن الاتقاء في آية (يس) أعم وأشمل، وذلك أنهم أمروا باتقاء ما بين أيديهم وما خلفهم، وذلك اتقاء شامل لما تقدم وما تأخر، وليس الأمر كذلك فيما ذكر عن بني إسرائيل فإنه خاص بما بعد المرة الثانية، فكان الترجي في آية (يس) أعم وأشمل، فناسب كل تعبير مكانه، والله أعلم. إن هذه الآية مرتبطة بكثير من آيات وأحداث في السورة. فهي مرتبطة بقصة أصحاب القرية الذين لم يتقوا ما بين أيديهم وما خلفهم، فأهلكهم الله بما قدمت أيديهم. وقصة الرجل الذي اتقى ما بين يديه وما خلفه فأدخله الله الجنة. ومرتبطة بقوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} فقد ذكر ما قدمت أيديهم وهو قوله: {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآَثَارَهُمْ}، وذكر (ما خلفهم) وهو قوله: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى}. ومرتبطة بقوله: {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} فكيف يتقي ما بين يديه من كان من بين يديه سد؟ وكيف يتقي ما خلفه من كان من خلفه سد؟ كيف يتقون ما بين أيديهم وما خلفهم وقد جعل سد من بين أيديهم وسد من خلفهم، وهم علاوة على ذلك لا يبصرون؟ وهي مرتبطة بقوله: {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} فهذا ما خلفهم. ومرتبطة بقوله: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً} وما بعدها. ومرتبطة بقوله: {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ....} وهذا كله ما لم يتقوه مما خلفهم. و مرتبطة بقوله في آخر السورة: {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} (1) فتح القدير 4/361. (2) الكشاف 2/589، روح المعاني 23/28 – 29. (3) البحر المحيط 7/340. (4) فتح القدير 4/361. (5) التفسير الكبير 26/83. (6) التفسير الكبير 26/83، البحر المحيط 7/340. (7) روح المعاني 1/284. (8) روح المعاني: 23/29. (9) ينظر الكشاف 2/589، التفسير الكبير 26/82، البحر المحيط 7/340. (10) ينظر الكشاف 2/225، روح المعاني 15/21. ** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 211 إلى ص 220.