عرض وقفة أسرار بلاغية
{وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43)}
الصريخ: المغيث.
هددهم بالإغلاق فلا ينقذهم أحد كما فعل مع المغرقين من قوم نوح وفي هذا تهديد لهم من جهة أخرى، ذلك أن قوم نوح كذبوا رسولهم فأغرقهم، وهؤلاء كذبوا رسولهم فإن شاء ربهم أغرقهم.
وقد تقول: كيف يصح التهديد بالإغراق وهو لم يذكر حملهم في الفلك، وإنما ذكر حمل ذريتهم فقال: {وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} ؟
فالتهديد بالإغراق يصح أن يكون لذريتهم لا لهم.
والجواب: أنه لما قال: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} فذكر ما يركبونه من مثل الفلك صح أن يكون التهديد لهم.
وقد تقول: ولم قال: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ}، ولم يقل: (فلا مغيث لهم)؟.
فنقول: إن ذلك لأكثر من وجه:
منها أن الصريخ يجمع عدة معان: منها المغيث ومنها المستغيث.
والصريخ أيضًا صوت المستصرخ (1).
فقوله: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} جمع عدة معان، وقد يحتمل ههنا هذه المعاني كلها.
وقد تقول: كيف يحتمل في الآية نفي المغيث والمستغيث ولا شك أنهم مستغيثون؟.
فنقول: ليس المعنى على ما ظننت، فإنه لم يقل: (فلا صريخ منهم) وإنما قال: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} أي لا مستغيث لهم، بمعنى لم يستغث لهم أحد، وعلى هذا يكون المعنى أنه إن شاء أغرقهم فلا يستغيث لهم أحد ولا مغيث لهم، فلا يكون ثمة من يطلب العون لهم ولا من يعين، فنفى المغيث والمستغيث لهم. وهكذا يأخذهم البحر فلا تنجو جثثهم أيضًا بل تذهب في البحر.
والصريخ أيضًا صوت المستصرخ، وعلى هذا يكون المعنى أنهم لا يمكنهم الصراخ وطلب العون لأن الماء يلجم أفواههم فلا يتمكنون من طلب الاستغاثة.
وبهذا نفي المغيث والمستغيث لهم، ونفى إمكان رفع الصوت لطلب الاستغاثة فيغرقون في صمت رهيب ووحدة مرعبة.
واختار لفظ الصريخ على المغيث أيضًا لأن الصريخ من الصراخ، والصرخة: هي الصيحة الشديدة عند الفزع أو المصيبة (2).
والصريخ والمصرخ بمعنى واحد، فإن المصرخ هو الذي يزيل الصراخ بإغاثة صاحبه. والذي يشرف على الغرق يصرخ بأعلى صوته طالبًا النجدة ليسمعه من يغيثه وينجينه، فلا يكون صريخ إلا إذا كان صراخ. أما المغيث فيكون لمن يطلب الغوث سواء كان عم طريق الصرخة أم كان عن طريق ذكر الحاجة الشديدة، فقد يذهب شخص إلى آخر فيقول له: أغثني يا فلان فإني في ورطة، وليس من الضروري أن يرفع صوته عليًا بالصراخ. أما الصريخ فيكون مع الصراخ.
فكان ذكر الصريخ أنسب.
وقال: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} ولم يقل: (فلا مصرخ لهم) للسبب نفسه، فإن الصريخ يجمع عدة معان، بخلاف المصرخ فإنه المعين والمغيث فقط.
ثم قال: {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} أي لا ينقذهم شيء سواء كان عن طريق الصريخ أم عن غيره. فقد لا يكون مغيث ينقذ من يشرف على الغرق ولكن قد ينقذ بطريق آخر مما يتهيأ من سبل النجاة ولو أن ينجو على خشبة، فهذا إنقاذ عن طريق الصريخ، فنفى ذلك أيضًا، فانتقت نجاتهم بكل سبيل.
ولم يكتف بقوله: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} لئلا يظن أنهم قد ينقذون من غير صريخ.
جاء في (البحر المحيط): "والظاهر أن قوله: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ} أي لا مغيث لهؤلاء الذين شاء الله إغراقهم، {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} أي ينجون من الموت بالغرق، نفى أولًا الصريخ وهو خاص، ثم نفى ثانيًا إنقاذهم بصريخ أو غيره" (3).
وقال: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} ولم يقل: (فلا صريخ لهم ولا منقذ) ذلك أنه نفى إنقاذهم عن أي طريق سواء كان عن طريق المنقذين أم عن غير هذا الطريق، فقد يتعلق الشخص بحبل أو يتمسك بخشبة أو يلقيه الموج بالساحل أو أي وسيلة أخرى مما يهيئه الله سبحانه، فهذه نجاة عن غير طريق المنقذين، فنفى ذلك أيضًا عنهم.
فقال: {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} أي بأية وسيلة أو سبيل، وهو أعم من قولنا: (ولا منقذ).
جاء في (التفسير الكبير): " وقوله تعالى: {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} إذا أدركهم الغرق؛ وذلك لأن الخلاص من العذاب إما أن يكون بدفع العذاب من أصله أو برفعه بعد وقوعه فقال: لا صريخ لهم يدفع ولا هم ينفذون بعد الوقوع فيه. وهذا مثل قوله تعالى: {لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ}. فقوله: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} فيه فائدة أخرى غير الحصر وهي أنه تعالى قال: (لا صريخ لهم) ولم يقل: ولا منقذ لهم؛ وذلك لأن من لا يكون من شأنه أن ينصر لا يشرع في النصرة مخافة أن يغلب ويذهب ماء وجهه. وإنما ينصر وبغيث من يكون من شأنه أن بغيث، فقال: لا صريخ لهم. وأما من لا يكون من شأنه أن ينقذ إذا رأى من يعز عليه في ضر يشرع في الإنقاذ، وإن لم يثق بنفسه في الإنقاذ ولا يغلب على ظنه وإنما يبذل المجهود فقال: {وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ} ولم يقل: منقذ لهم" (4).
(1) لسان العرب (صرخ) 4/2.
(2) لسان العرب (صرخ) 4/2.
(3) البحر المحيط 7/339.
(4) التفسير الكبير 26/82.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 195 إلى ص 198.