عرض وقفة أسرار بلاغية
- ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ﴿٤١﴾ ﴾ [يس آية:٤١]
- ﴿وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ ﴿٤٢﴾ ﴾ [يس آية:٤٢]
{وَآَيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)}
إن مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة، فإنه لما ذكر سباحة الأجرام في الفلك فقال: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ذكر سباحة الفلك في الماء وجريها فيه (1).
إن كلمة (الفلك) تكون مفردًا وجمعًا، فالمفرد (فلك) والجمع (فلك) أيضًا بلفظ واحد.
وقد اختلف في (الفلك) الوارد في الآية فقيل: هي السفن التي تجري في البحار إلى قيام الساعة، والذرية هم الأولاد، فامتن عليهم بحمل أولادهم في البحار، ذلك أن الامتنان بالنعمة على الأبناء امتنان بالنعمة على الآباء. ولذلك كثيرًا ما يدعو الناس أن يرزقهم الله ذرية طيبة، فقد قال زكريا عليه السلام: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} {آل عمران: 38}، ويدعون لذرياتهم بالخير، فقد وصف تعالى عباد الرحمن بقوله: {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} {الفرقان: 74}. وقال إبراهيم عليه السلام: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} {البقرة: 128}.
فهو إشارة إلى إن عقبهم باق وأن نسلهم لا ينقطع وأنهم – أي ذريتهم – سيركبون في الفلك المشحون بالبضائع، الممتلئ بالأموال.
وقيل: المقصود بالفلك هو سفينة نوح عليه السلام، والمقصود بالذرية: الأبناء.
قيل: والمعنى أنه لما حمل آباءهم الأقدمين يكون قد حمل ذريتهم في أصلابهم، ولولا ذلك الحمل لم يبق للآدمي نسل (2). وحمل الآباء يتضمن حمل الذرية.
جاء في (الكشاف): "(ذريتهم) أولادهم ومن يهمهم حمله... وقيل: (الفلك المشحون) سفينة نوح. ومعنى حمل الله ذرياتهم فيها: أنه حمل فيها آباءهم الأقدمين، وفي أصلابهم هم وذرياتهم، وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجيب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح" (3).
وجاء في (روح المعاني): "واستشكل حمل ذريتهم في سفينة نوح عليه السلام، وأجيب بأن ذلك بحمل آبائهم الأقدمين وفي أصلابهم هؤلاء وذريتهم، وتخصيص الذرية مع أنهم محمولون بالتبع لأنه أبلغ في الامتنان، حيث تضمن بقاء عقبهم، وأدخل في التعجب ظاهرًا حيث تضمن حمل ما لا يكاد يحصى كثرة في سفينة واحدة مع الإيجاز، لأنه كان الظاهر أن يقال: حملناهم ومن معهم ليبقى نسلهم. فذكر الذرية يدل على بقاء النسل، وهو يستلزم سلامة أصولهم، فدل بلفظ قليل على معنى كثير" (4).
وليس في كون (الفلك) سفينة نوح استشكال، فإنه سبحانه قال: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} {الحاقة: 11}، فذكر أنه حملهم في سفينة نوح وهو لم يحملهم وإنما حمل آباءهم فصح أن يقول: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فإن المخاطبين وذريتهم هم جميعًا ذرية المحمولين في السفينة.
وهذا الخطاب أعني قوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}، يصح أن يكون خطابًا للبشر على مدى الزمان، وأن يكون ذلك آية من آيات نعمة تعالى على خلقه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى أنه لما قال فيما بعد: {مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} {يس: 49}، والمقصود بهذه الصيحة صيحة القيامة، وهي لا تأخذهم وإنما تأخذ ذريتهم صح أن يقول في سفينة نوح أنه حمل ذريتهم. فجعلهم هم المعنيين بالصيحة، مع أن المعني هم الذرية، فجعل الآباء والذرية شيئًا واحدًا.
ثم لننظر من ناحية أخرى أنه من عليهم وعلى ذرياتهم بالحمل في الفلك، غير أنه ذكر في حالة طغيان الماء حملهم هم فقال: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}، ولما لم يذكر طغيان الماء ذكر حمل ذريتهم، ذلك أنه في حالة طغيان الماء يخشى الغرق فذكر أنه حملهم هم ليدل على إنعامه عليهم بالنجاة، وفي نجاتهم نجاة لذريتهم، وليس في نجاة الذرية نجاة للآباء.
ولما لم يذكر طغيان الماء ذكر أنه حمل ذريتهم فكانت النعمة عليهم بالنجاة وعلى ذريتهم بالانتفاع، أو بتعبير آخر: كانت النعمة عليهم بدرء المفسدة وعلى ذريتهم بجلب المنفعة؛ ذلك لأنه وصف الفلك بأنه مشحون، أي مملوء بالبضائع وعروض التجارة. ودرء المفاسد – كما يقال – مقدم على جلب المنافع، فذكر مع المخاطبين درء المفسدة ودفع الضرر عنهم، ومع الأبناء جلب المنفعة لهم، فكانت النعمة عليهم وعلى ذريتهم.
ولما ذكر طغيان الماء وصف الفلك بأنها جارية، أي تجري بهم لينجوا إلى مكان آمن. ولما لم يذكر طغيان الماء وصف الفلك بأنه مشحون، أي ممتلئ، ولا يحسن ذكر المشحون مع طغيان الماء، لأن امتلاءه يبطئه في الجري فلا ينجون به بسرعة.
فذكر مع النجاة الجري ومع المنفعة الشحن، فكان كل تعبير أنسب في مكانه.
جاء في (التفسير الكبير): "قال ههنا: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} من عليهم بحمل ذريتهم.
وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} من هناك عليهم بحمل أنفسهم.
نقول: لأن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير، ومن يدفع الضرر عن المتعلق بالغير لا يكون قد دفع الضرر عن ذلك الغير، بل يكون قد نفعه. مثاله: من أحسن إلى ولد إنسان وفرحه فرح بفرحه أبوه، وإذا دفع واحد الألم عن ولد إنسان يكون قد فرح أباه، ولا يكون في الحقيقة قد أزال الألم عن أبيه. فعند طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال: دفعت عنكم الضرر، ولو قال: دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بيان دفع الضرر عنه.
وههنا أراد بيان المنافع فقال: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} لأن النفع حاصل ينفع الذرية، ويدلك على هذا أن ههنا قال: {فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} فإن امتلاء الفلك من الأموال يحصل بذكره بيان المنفعة، وأما دفع المضرة فلا؛ لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص به أبطأ وهنالك السلامة، فاختار هنالك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري، وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشحن" (5).
وقد تقول: ولم ذكر حمل الذرية ههنا، أي في آية (يس) هذه، ولك يذكر حملهم هم؟
فنقول: إن ذلك لأمور منها:
1- أنه لما قال قبل هذه الآية: {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ} ناسب ذكر الذرية؛ لأن الذرية إنما تكون من الأزواج.
2- ولما ذكر صيحة القيامة، وهي لا تأخذهم وإنما تأخذ ذريتهم ناسب ذلك ذكر الذرية أيضًا.
3- ثم إن ذلك من قبيل المن عليهم، فهو أخبرهم ضمنًا أنه لا يستأصلهم وإنما يبقيهم ويبقى ذريتهم.
ثم لننظر من ناحية أخرى أنه قال: "{وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ}، وقال: { وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ} ولم يقل: (وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم) وذلك لأن حملهم في الفلك هو العجب، أما نفس الفلك فليس بعجب لأنه كبيت مبني من خشب. وأما نفس الأرض فعجب ونفس الليل عجب لا قدرة عليهما لأحد إلا الله" (6).
ثم إن الامتنان عليهم إنما هو بالحمل في الفلك وليس في الفلك نفسه، ذلك أن الحمل فيه هو النعمة، فالفلك ليس مقصودًا لذاته، وإنما المقصود هو الحمل فيه، فذكر ما به مناط النعمة والمنة.
وبعد أن من عليهم بحمل ذريتهم في الفلك المشحون ذكر منته عليهم بالحمل فقال: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} .
وقوله: (من مثله) يعني من مثل الفلك.
و(ما يركبون) فيه وجهان:
الأول: أنه الفلك وما يركبونه من السفن والزوارق (7).
والآخر: أنه عموم ما يركب في البر من الإبل وغيرها.
والظاهر أنه يشمل عموم ما يركب في البر والبحر، فمن عليهم بما يركبونه عمومًا مما سخره لهم ربنا سبحانه.
فذكرهم بنعمة السكن وهي الأرض، ونعمة الطعام، ونعم النهار والليل، وحملهم وحمل بضائعهم في البر والبحر.
وقوله: (لهم) يدل على تمام نعمته عليهم، ذلك أنه خلق ذلك من أجلهم. ولو قال: (وخلقنا من مثله ما يركبون) لم يدل على أن الخلق كان من أجلهم.
كما أن إضافة الذرية إليهم فيه تفضل آخر عليهم، بخلاف ما لو قال: إنا حملنا ذرية المخلوقات، أو ذرية الناس مع نوح، فإن ذلك يعم وهذا يخصهم هم.
(1) انظر التفسير الكبير 26/78.
(2) انظر التفسير الكبير 26/78.
(3) الكشاف 2/589، وانظر البحر المحيط 7/338.
(4) روح المعاني 23/27.
(5) التفسير الكبير 26/80.
(6) التفسير الكبير 26/81.
(7) انظر الكشاف 2/589، التفسير الكبير 26/81.
** من كتاب: على طريق التفسير البياني للدكتور فاضل السامرائي الجزء الثاني من ص 189 إلى ص 195.